“فكة ريق” اليوم في الواحدة من صباح العمر

الخرطوم ? مصطفى خالد أبونورة

كلمات ليست كالكلمات، هي سلسلة متلاحقة من السفر والأُنس مع كل كلمة من كلمات اللغة، في كل مرة نحقب أمتعتنا في رحلة مختلفة وفريدة صوب الأنيق من الكلمات ناجزة الوصف، نتحقق منها، نسوح في رحابها، نستنشق عبيرها، ونتذوق طعمها اللذيذ. (اليوم التالي) تصطحبكم هذه المرة في رحلة جديدة مع (فكة ريق).

في رحلة جديدة بعيدة كل البعد من المعنى، وقريبة كل القرب من طعم الكلام، لنفتك من جيوبنا اللحظات وتقذفها أمامنا كالترتار لاحقين بها في رحلة تنبجس معها ينابيع المسرة من صخور الهم ومن كل حدب وصوب مبللين حلوقنا الناشفة بالنور والأمل.

تسريب الهموم

الحكمة من النوم والليل والنهار هي (الروقة) لترسيب كل الهموم والمشغال التي اعترتنا يوم أمس، نقصد الحكمة ولا نقول الغاية، فالغايات لا تنتهي بنوم أو يقظة، الغايات تمضي في طريقها بشتى الأشكال، وصولاً إلى حالنا اليوم، الكوانين، قدر الفول، ومحلات السندوتشات السريعة، في زمن بعيد كان سقف فكة الريق عند حدود الساعة التاسعة تاماً، لا يتعداه أبداً، مهما زاحمتك الهموم والعنت، بالفعل والتجربة إنه زمن كان فيه كانون السرور يزين إعلانات القناة الأولى، عندما كان الإعداد لفكة الريق من حطب (الويقود)، يستيغظ أهل البيت باكراً في انتظار فكة الريق، قبيل أن تداهمهم التاسعة، كان أحدهم ينتظر، والآخر يشرب الشاي بارداً، عقاباً على نومة شغلته، إذ لا يمكن إيقاد الوابور مرتين لندرة الجاز في تلك الناحية من العالم القديم، تفوح رائحة الكسرة من التكل، يخرج الدخان من هناك ليدخل كل أنف في القرية، يشفط الجميع عافية العجين خيوطاً من الدخان الرطب ناسجاً وجداننا جمعياً وتعريشة وريفة للحب والجمال.

كل الناس اتنين اتنين

“كل الناس اتنين اتنين، فرح يتكلم بلغتين”، وعند أقرب طرف حيطة يجلس أهل البيت، يجدون الحيطة جرت لهم سباتة الظل، الأيدي تجابد الكسرة بالموية، الكسرة كالطرح والتياب، تجابد أطرافها من باب النفس المفتوحة لا الجوع، والحيط تجبد ظلها من تحتهم، بيد يمسكون طرف الكسرة، وبالأخرى يتمسكون بطرف الظل، وفي أطراف أمهاتهم يتمسك الصغار. يا ولد أمسك في الطرف دة قوي أصلك ما تفكو! هكذا يُحذِّرون عند أي مشوار إلى طرف أي مكان في القرية. هكذا ولأزمان تطاولت أطراف أزمانها، بالإمكان الاستهبال والتغول على الزول المطرف، والخوف كل الخوف من المتطرف فأكثر العبارات التي يبغضها الجزارين رغم أنها في مرمى سكاكينهم وسواطيرهم.. أقطع لي الحتة الفي الطرف دي. لنتوقف برهة ولا نقطع دابر الأشياء من تلك الناحية فالنهار أوغل وما نزال نهلث، لهث من حيث لا حيث إلى حيث لا حيث أيضاً.

كلام دكاترة

كان صغيراً جداً لم أتجاوز الخامسة من عمره, عندما أجريت لي عملية كسر في مفصل يده اليسرى, أشد ما يلفت انتباهه قروي مثله ونسة الأطباء فيما بينهم متحسسين مقابض سماعاتهم النحاسية، لم تكن رهبة غرفة العملية تهمه في شيء بقدر أبهار عالم المشفى ومطاعمها, رائحة البيض المقلي وشرائح العجور وطلب الكبدة, والأكثر من هذا ومن ذاك، الموارك، كل ماركة ترفقها عيشتين.

طعم الكلمة

بعد كل هذه السنوات تتبدى الأشياء على غير حقيقتها، فوتيرة الزمن وتسارعه جعلت من فكة الريق مكاناً عند حدود المغيب، فكة الريق مكانها الطبيعي في الصباح الباكر وبطعمها الطبيعي والخالد، أنظر إلى مطاعم الخرطوم الآن وقِدر فولها مشتعلة حتى العصر.

تفكير متواصل

الحقيقة الأبدية والخالدة من طعم فكة الريق، أن المرء ينام ملء جفونه وهمومه، ينام مشتعلاً بالتفكير، يخلع حذاءه وفكة دراهمه من جيبه، يكومها أمامه على التربيزة، يتخلص من كل شيء ويشرع في نومة هانئة، وعند الصباح الباكر، يصبح رائقاً من فورة همومة، رائقاً تماماً في مشابهة تطابق إناء الليل الكبير، وكورية المنقة بروقانها من خلطة البارحة، هكذا تترسب كل همومك في ذلك الوعاء الكبير لتصبح مستعداً لفورة الصباح. فلا بد من فكة ريق باكرة، تعالوا نصحى بدري نفك الريق.

اليوم التالي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..