مقالات متنوعة

السودان إلى أين؟

السودان إلى أين؟
بين التوق إلى الديمقراطية ومخاطر إعادة إنتاج الديكتاتورية
نجح الحراك الجماهيري في السودان حتى الآن في إرهاق النظام وإرباكه. توقفت محاولات تعديل الدستور للسماح بإعادة ترشيح رئيس الجمهورية في انتخابات 2020 أُوكلت إدارة الأقاليم لعسكريين. حل رئيس الجمهورية الحكومة التي يسيطر عليها المؤتمر الوطني وعين نائبا جديداً له في الحزب وفوضه سلطاته الحزبية. بدت هذه الخطوات حينها كأنها تهدف إلى إضعاف المؤتمر الوطني والحد من سيطرته على أجهزة الدولة مما قد يمهد الطريق لإجراء مصالحة وطنية وتشكيل حكومة انتقالية. لكن سرعان ما تبدد هذا الاعتقاد عندما تم تشكيل الحكومة الجديدة من نفس الوجوه القديمة تقريباً، وتعيين نائب رئيس الحزب مساعداً لرئيس الجمهورية. كما تزامنت دعوة النظام معارضيه للحوار مع فرض حالة الطوارئ وتشكيل محاكم خاصة لمحاكمة المتظاهرين والسماح لقوات الأمن باقتحام المنازل واعتقال العديد من قادة المعارضة.
تدل هذه القرارات المتضاربة على عدم قدرة النظام على تقديم وصفة تخرج البلاد من وضعها الراهن وتمنع انزلاقها إلى حالة من عدم الاستقرار والفوضى. فإلى أين تتجه السودان؟
انقلاب ضد اتجاه التاريخ
كان انقلاب يونيو 1989 قفزة في الظلام. لم ينه الانقلاب التجربة الديمقراطية الحديثة ويقطع التطور السياسي للبلاد وفقط بل أوقف جهوداً كانت جارية حينها من أجل تحقيق السلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان ما كانت ستفضي إلى نتيجة أسوأ من انفصال الجنوب. كان توقيت الانقلاب سيئاً. عالمياً حدث الانقلاب عشية تحول العالم إلى نظام القطب الواحد وانتهاء تحالف أمريكا مع الإسلام السياسي بعد استخدامه في معركتها الأخيرة ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان. إقليميا نُفذ الانقلاب عشية حدوث زلازل كبير في منطقة القرن الإفريقي، استقلال إريتريا، سقوط نظام منغستو وانتقال مركز السلطة في إثيوبيا من الوسط إلى الشمال بجوار الحدود مع السودان.
تسبب الانقلاب عالمياً بشعاراته المعروفة في عزلة البلاد واستعداء النظام الدولي وحرمانها من الاستفادة من أهم مصادر العون المالي والفني الضروري للتنمية. منع الانقلاب السودان من الاستفادة من التحول التاريخي في منطقة القرن الإفريقي (هذا لا يعني أنه كان سيكون بإمكان النظام الديمقراطي توظيف هذا التحول لصالح السودان لكن الأضرار كانت ستكون أقل) ليقود عملية التكامل بين دوله لكنه فرط في هذه الفرصة بسبب سياسات النظام الأيدولوجية. وكان يمكن أيضاً استخدام التغيير في البلدين لحل مشكلة الجنوب سلمياً بدلاً من الاستثمار فيه لتصعيد الحرب. خسر النظام أيضاً محيطه العربي بسبب موقفه من احتلال الكويت وتبنيه الحركات الإسلامية المتطرفة علناً.
أمضى نظام الإنقاذ السنوات الـ 20 الأخيرة في معالجة أخطاء سنواته الأولى وقد تمكن من إحداث اختراق في جدار عزلته العربية والدولية بسبب تبنيه موقفاً براغماتياً تجاه التطورات الجيوسياسية في الإقليم وإنهاء علاقته مع إيران. مع ذلك لم ترض عنه القوى العربية الرئيسة وظلت تتطلع لترى تغييرات داخلية أكثر جذرية تبعد الإسلاميين من السلطة من خلال تحريض البشير عليهم. لكن ميزان القوى الداخلية لم يكن يسمح للبشير بذلك وإن أراد، حتى جاء هذا الحراك الجماهيري فقدم فرصة، محدودة حتى الآن، له وللقوى الإقليمية.
نجاح تكتيكي وفشل استراتيجي
اتبعت الإنقاذ تكتيكات عديدة للاحتفاظ بالسلطة هي خليط من التخويف، الإغراء، الدعاية المستندة إلى الدين، استخدام الانتماءات التقليدية والإجراءات الإدارية التعسفية. استوحى النظام بعض تلك التكتيكات من التاريخ السياسي للسودان؛ خصوصاً أساليب إسقاط نظامي عبود ونميري وعمل على منع تكرار التجربتين.
تمت تصفية الخدمة المدنية والسيطرة على النقابات وأُحيل عدد كبير من ضباط القوات المسلحة للصالح العام. وبعكس ما فعل نظام نميري عندما كان يمنع المعارضين من مغادرة البلاد حتى لا يعارضوه من الخارج، سمحت الانقاذ لمعارضيها بمغادرة البلاد بل دفعت بهم دفعاً لمغادرتها لإدراكها أن هؤلاء يشكلون خطراً عليها وهم داخلها أكثر مما قد يفعلون وهم خارجها.
نجحت تلك التكتيكات في استمرار سلطة الإنقاذ لسنوات طويلة لكن الاستراتيجية المستهدف تطبيقها؛ بناء الدولة الدينية، فشلت تماماً. كان أول أسباب فشل هذه الاستراتيجية هو عدم واقعيتها وفقدانها البعد الأخلاقي منذ سنواتها الأولى. اصطدمت فكرة الدولة الدينية بمعوقات داخلية ترتبط بطبيعة التركيبة السكانية للسودان وعمق مورثاتها الثقافية، الاجتماعية والسياسية، طبيعة العلاقات الدولية والأهم طبيعة مهام الدولة الحديثة.
تصاعدت في السنوات الأخيرة المقاومة الشعبية للإنقاذ لكنها كانت في كل مرة تتمكن من قمعها حتى جاء الحراك الحالي. أول العوامل المؤثرة في اندلاع وتأجيج الاحتجاجات الحالية كان الظروف المعيشية الصعبة والتدهور المريع للاقتصاد. السودان بلد غني بموارده المادية والبشرية وفشل أي حكومة فيه في توفير احتياجات مواطنيها الأساسية دليل على وجود خلل جسيم في أدائها. في الحالة السودانية يمكن إعادة ذلك إلى فشل النظام في إدارة موارد البلاد بما في ذلك تمكين منسوبيه من نهبها وعدم اتباع سياسة خارجية سليمة.
لم تنجح هذه المرة تكتيكات الإنقاذ في إفشال الحراك الشعبي. صارت هناك نقابات بديلة والناس الذين أُجبروا على مغادرة البلاد حتى لا يكون لهم دور في شؤونها صاروا يلعبون أدوراً كبيرة بسبب وسائل التواصل الاجتماعي. لقد صاروا هؤلاء جزءاً مكملاً للحراك الحالي وصرنا نسمع الشعارات التي تتعالى في طرقات وساحات لندن وواشنطن تتردد في اليوم التالي في أصقاع بعيدة في البلاد وبالعكس.
دخل عنصر جديد بقوة إلى ساحة الصراع وهو عنصر الشباب الذي وُلد وترعرع في ظل الإنقاذ؛ خصوصاً الفتيات اللائي يشاركن على نحو ملفت في الحراك الحالي وهي مشاركة قد تكون الأعلى للنساء في العالم في نشاط مماثل. تشير مشاركة الفتيات القوية على حدوث تحول اجتماعي عميق في البلاد تداخلت في تشكيله سياسات النظام التي مست إحساس المرأة السودانية العميق بالكرامة، ارتفاع مستوى التعليم واطلاع النساء على التجربة العالمية في المساواة وتأثرهن بها. لم يظهر هؤلاء الشباب حماساً وتصميماً كبيرين للإمساك بمصيرهم وفقط بل جعلوا من احتجاجاتهم جزءاً من انتمائهم والتزامهم الوطني من خلال تريديهم للنشيد الوطني ورفعهم العلم وترديدهم لهتافات من موروثاتهم وإظهار أفضل القيم السودانية في التضحية والتضامن.
لقد تغيرت قواعد اللعبة السياسية في السودان تماماً. لم يعد بإمكان الإنقاذ أن تحكم السودان باتباع تكتيكاتها المعروفة، لكن السؤال هو كيف ستتم عملية التغيير؟
السيناريوهات المحتملة
السيناريو الأول هو أن تنحاز القوات المسلحة لمطالب المحتجين مستبعد بسبب ارتباط كبار قادة الجيش بالإنقاذ، لكن هذا السيناريو ليس مستحيلاً. السيناريو الثاني هو أن تستمر الاحتجاجات وتتطور إلى إضرابات عامة أو عصيان مدني يشل أجهزة الدولة ويجبر النظام على التنحي، هذا السيناريو سيستغرق وقتاً طويلاً وسيكلف البلاد الكثير مادياً وبشرياً وسيكون على حساب مصالحه الإقليمية. السيناريو الثالث هو أن يتسلم السلطة في البلاد الجيش من خلال عملية تسليم مباشر من قبل رئيس الجمهورية أو بانقلاب يمكن أن ينفذه ضباط من متوسطي وصغار الرتب بعد أن يصل السياسيون إلى طريق مسدود وتكون الحركة الجماهيرية قد أُرهقت ومما سيساعد على نجاح مثل هذا الانقلاب المحتمل هو أن بعض فئات الحراك الجماهيري قد تكتفي بالتخلص من الإسلاميين. هذا السيناريو سيدخل البلاد في دوامة أخرى وستتراجع فرص عودتها إلى الديمقراطية لكنه سيجد دعماً كبيراً من القوى العربية الإقليمية التي سترى فيه نصراً مزدوجاً كونه خلصها من الإسلاميين وأبعد عنها شبح الديمقراطية.
لم يكن التدخل الإقليمي في الشؤون السودانية محسوساً خلال تجربتي أكتوبر وأبريل ويمكن القول إنه كان معدوما تماماً. كانت مصر هي الوحيدة المعنية بما يجري سياسياً في السودان، لكن هناك الآن لاعبون إقليميون جدد ليس لديهم الخبرة والمعرفة الكافيين بالشؤون السودانية، ليست الديمقراطية ضمن نماذج الحكم التي يفضلونها، يمثل السودان أهمية استراتيجية بالنسبة إليهم ولديهم أدوات تأثير فعالة.
للسودان خصوصية مستمدة من تاريخه السياسي وتركيبته السكانية المتنوعة والمشكلات والصراعات التي يعاني منها. ليس هناك صيغة يمكن أن تضمن استقراره سوى الديمقراطية وفي هذه اللحظة التاريخية يمكن أن يوفر الانتقال إلى الديمقراطية أفضل الشروط لمعالجة الصراعات ذات الطابع العرقي والجهوي كون أن الحركات المسلحة تدعم الحراك الجماهيري بعكس ما كان عليه موقف جون قرنق من الانتفاضة في 1985.
الخيار الأفضل بالنسبة للسودان الآن هو أن تتنقل البلاد من خلال عملية تراضي وطني إلى نظام ديمقراطي حقيقي. هذا يتطلب أن يدرك قادة الإنقاذ إن ليس بإمكانهم حكم البلاد بعد الآن، أن رهانهم على الزمن ليس مجدياً وأن يكون بمقدورهم وضع المصلحة الوطنية فوق مصالحهم الشخصية والحزبية.
الانتقال سلمياً إلى الديمقراطية يتطلب أيضاً إشاعة جو من التسامح وأن يتحلى القادة السياسيون بالقدرة على بالمساومة، مساومة يمكن أن تشمل أي شيء سوى شروط الانتقال لديمقراطية حقيقية وسوى الإعفاء من المسؤولية الجنائية الفردية.
من المسائل الإيجابية في اجتماع نداء السودان الأخير في باريس إعلانه أنه ليس مع الإقصاء وفي اعتقادي أن على قوى الحراك الجماهيري التقدم خطوة أخرى تجاه الإسلاميين الذين ينادون بالديمقراطية والحوار معهم حول شروط الانتقال سلمياً هذا سيوسع قاعدة القوى المطالبة بالتغيير ويمكن أن يشكل ضغطا أكبر على قادة المؤتمر الوطني.
هناك حاجة ماسة لمبادرة وطنية شاملة يمكن أن تكون تجميع للمبادرات الموجودة في الساحة. ليس المطلوب بيان تفصيلي، يكفي فقط أن يكون عنوان المبادرة: تسهيل عملية الانتقال إلى الديمقراطية. يجب أن تمتلك المبادرة آلية عمل والقدرة على التحرك وسط مختلف التيارات السياسية المؤثرة.
الانتقال إلى الديمقراطية في السودان حاجة وطنية ملحة، يرتبط به استقرار البلاد وتمهيد الطريق أمامها للانطلاق لتحقيق آمال وتطلعات شعبها والحفاظ على مصالحها الحيوية.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..