مقالات سياسية

حتى لا يكون البشير جورباتشوف السودان!ا

د. علي حمد ابراهيم

*فى الثانى عشر من يوليو 2010 اصدر قضاة المحكمة الجنائية الدولية قرارا باعادة تثبيت تهمة الابادة الجماعية ضد الرئيس البشير التى كانت المحكمة قد رفضت ادراجها ضمن التهم الموجهة ضده ابتداءا فى الرابع من مارس من عام 2009 لعدم كفاية الادلة. قرار القضاة الجديد جاء بعد ان نظروا فى الاستئناف المقدم من المدعى العام الجنائى السيد موريس مورينو اوكامبو ضد قرار الغرفة الابتدائية بعدم ادراج تهمة الابادة الجماعية ضد الرئيس البشير لعدم كفاية الادلة .

فى قرارهم قال قضاة الاستئناف ان هناك ادلة كافية تدفع الى الاعتقاد بانه يمكن اضافة تهمة الابادة الجماعية الى تهم جرائم الحرب وجرائم ضد الانسانية الواردة فى مذكرة التوقيف بحق الرئيس السودانى عمر البشير.ووجهوا الدائرة التمهيدية الاولى باصدار قرارا بالقبض على الرئيس البشير لاعتقاد بان هناك اسبابا معقولة بأنه مسئول جنائيا عن جرائم ابادة بحق الجماعات الاثنية للفور والمساليت والزغاوة . و جرائم قتل والحاق ضرر جسدى او عقلى جسيم ، واخضاع الجماعات المستهدفة عمدا الى احوال معيشية يقصد بها اهلاكها الفعلى . والحقت المحكمة قرارها الجديد هذا بقرارها الصدر فى الرابع من مارس 2009 ليصبح الرئيس البشير مسئولا جنائيا عن خمس جرائم ضد الانسانية هى جرائم (القتل والابادة غير الجماعية والنقل القسرى والتعذيب والاغتصاب) وعن جريمتى حرب هما (تعمد توجيه هجمات ضد سكان مدنيين لا يشاركون مشاركة مباشرة فى الحرب. والتعذيب والاغتصاب )

الجديد فى قرارات المحكمة هذه هو طلبها من السلطات السودانية المختصة تعاونا اضافيا لتوقيف السيد البشير . وطلبها كذلك من كل الدول الاطراف فى نظام روما الاساسى ومن جميع الدول الاعضاء فى مجلس الامن. ومن الدول غير الاعضاء فى نظام روما الاساسى . على ان يقدم ذات الطلب الى اى دولة اخرى عند الاقتضاء . ما تقدم هو ملخص الحيثيات الخاصة بقرار اضافة تهمة الابادة الجماعية ضد الرئيس البشير.

مسلك وخطاب الحكومة السودانية الذى تواجه به هذا التطور الخطير يبدو غريبا وقاصرا . الحكومة السودانية ترفض فى عنتريات لفظية حادة الاعتراف بأى جرم لا فى الماضى ولا فى الحاضر فى دارفور . وتقول ان الاتهامات ضدها وضد رئيسها قصد بها استهداف جهود السلام والتنمية فى السودان عموما وفى دارفور تحديدا . وتعلن على رؤوس الاشهاد انها لا تعترف بالمحكمة ولا تحرك قراراتها ساكنا لديها . ويحق لأى مراقب متابع ان يتساءل باستغراب :كيف تستهدف الامم المتحدة والاسرة الدولية كلها ( بما فيها امريكا واروبا ) جهود السلام والتنمية فى السودان عموما و فى دار فور خصوصا . وهذه الجهات مجتمعة ومتفرقة هى التى تصرف اليوم بلايين البلايين على جهود السلام والتنمية هذه . وتصرف بلايين البلايين على اغاثة واعاشة وعلاج الملايين من ابناء الشعب السودانى الذين شردتهم نزاعات السودان فى الجنوب وفى الغرب وفى الشرق . وكيف تكون هذه الجهات الدولية مستهدفة لحكومة السودان وهى التى توفر جيوشا من العسكريين والمدنيين بعدتهم وعتادهم ليساعدوا نفس الحكومة على ضبط الاوضاع الامنية والاستقرار لكى تهدأ الاحوال ومن ثم تبدأ جهود التنمية . كيف تستهدف هذه الجهات الحكومةالسودانية الحالية وهى التى اجلستها على السلطة منفردة بما خططت من ترتيبات فصلتها على (الشريكين) بينما اطلقت القوى السودانية الاخرى ادراج الرياح وهى القوى الاكبر فى الشارع السودانى العريض . ان خطابا من هذا النوع يحمل فى طياته بؤسا جالبا للسخرية والهزء . و لابد من القول ان هذا الخطاب ان كان موجها الى الجبهة الداخلية السودانية بهدف كسبها ، او تحييدها سياسيا لصالح موقف النظام، فانه يكون قد ضلّ طريقه الصحيح . اذ يكون قد فات على هؤلاء القادة ان يدركوا انهم يحكمون شعبا سياسيا بالنشأة ، ويصعب بالتالى على اى نظام استغفاله والتلاعب بعواطفه سياسيا . يكفى الشعب السودانى ما ظل يشاهده فى بلاده وقد اصبحت حديقة دولية واقليمية بلا اسوار ، يدلف اليها كل من هبّ ودبّ من المتنطعين الدوليين والاقليميين ومن أهل الجوار ، ومن هواة التجريب والبحث عن الشهرة الدولية الذين وجدوا فرصتهم فى هذه الفلاة القفر ، فصاروا يدسون انوفهم فى شأنها الداخلى بصورة اثارت حنقهم وغضبهم ، بعد ان نفذ صبرهم بعد عقدين من الأذى الجسيم والأسى.

لست فى موضع من ينصح النظام السودانى . ولكنى كمواطن سودانى مازالت جوانحى عامرة بالغيرة على البلد الذى انجبنى وعلمنى. واستغرب ان يفوت على فطنة قادةالنظام ان التهم التى وجهت للرئيس البشير والى غيره من المسئولين تبقى وتظل تهما تنتظر الدليل والاثبات وليس ادانات قطعية . والامر كذلك ، فقد كان الموقف الذى يعين السودان ، و لا اقول يعين النظام ، لأن النظام لا يقبل نصحا ولا اشفاقا من احد . اقول ان الموقف الاصح كان كان وما زال هو موقف التعامل الرزين و العقلانى والحضارى تجاه المحكمة الجنائية من قبل دولة اسمت نفسها دولة المشروع الحضارى . التعامل الرزين والعقلانى والحضارى الذى اشير اليه يتمثل فى ان تعمد الحكومة السودانية الى احد بيوت الخبرة القانونبة الدولية الرفيعة بالترافع نيابة عنها امام المحكمة الدولية فى المراحل الاولى على اقل تقدير. وكان من الممكن ان تجرى مساومات حول الكيفية التى يرد بها الرئيس على الاسئلة المطروحة فيما يختص بالمكان والزمان والوسائل. اجراءا من ذلك القبيل كان سيوفر على السودان الكثير من العنت السياسى الذى اخذ يطل برأسه الآن ،يتمثل ذلك فى العزلة المتزايدة التى اصبحت تحاصر رأس الدولة. وهو امر يلمس القيم المعنوية لرمزية الدولة السودانية والشعب السودانى. وتلك مرحلة من العنت الدبلوماسى لا يريد احد لبلده ان يبلغها مهما كان حجم الاختلاف السياسى مع نظام الحكم فيه . ولكن قديما قيل ان المكتولة لا تسمع الصايحة . ولسنا من الشامتين على اى حال .

ان القول بأن المحكمة ليست جهة اختصاص . و لا تقوم لها ولاية على السودان، هو قول مفؤود قانونيا ، ومفند ، ومردود عليه . ويصبح ترديده بدون تبصر نوعا من العبط القانونى والسياسى الذى لا يليق .

ان الذين يعتقدون ان الاقدام على اى تعامل مع المحكمة يوفر لها اعترافا تبحث عنه هم بعض كم من السابلة الذين ينعقون فى البيد الجرداء . هل تحتاج المحكمة الدولية لاعتراف السودان بها قبل ان تبدأ فى مساءلته قانونيا عن ما يوجه اليه من تهم . ان كان ذلك الامر ضروريا ، فقد سبق للحكومة السودانية ان تعاملت مع المحكمة الجنائية بصورة غير مباشرة وقدمت التسهيلات الضرورية للتحقيقات الاولية التى ساقتها فيما بعد الى ماهى فيه من معضلة قانونية خطيرة . تعالوا نبدأ الحكاية من اولها . حكاية الجرائم التى ارتكبت فى دار فور . وسمها بأى اسم ارتأيت ، فهى جرائم يندى لها الجبين . كيف وصلت تلك الجرائم الى محكمة الجنايات ومن اوصلها . ومن قدم التسهيلات الضرورية اصلا للوصول الى قائمة المشتبه فيهم، الذين ادى العناد وحده الى ان يكون الرئيس البشير احدهم . الحظ أصل الحكاية يقول :

* 17يناير 2005 مجلس الأمن يرسل بعثة تقصى حقائق الى اقليم دارفور بعد ان ذاعت اخبار فظائع حربية ادت الى وقوع حرائم حرب وجرائم ضد الانسانية ، عكستها وسائط الاعلام العالمية فى شكل صور حية مؤلمة لحواث قتل اغتصاب. حكومة السودان وافقت على استقبال بعثة مجلس الأمن المشار اليها هذه وسهلت مقابلاتها وتحقيقاتها مع مسئولين كبار فى جهار الدولية السودانية بدءا بالرئيس البشير نفسه ، ومرورا بالوزير الذى تناقلت اجهزة الاعلام العالمية اسمه كثيرا كمحرك رئيسى لكثير من المجريات التى ادت الى وقوع تجاوزات صارت فيما بعد محل تحقيق ومصدر للاتهامات ضد الحكومة السودانية . ونعنى به الوزير احمد هارون ، الذى ، يا للسخرية، كان قاضيا قبل ان يصبح متهما للقضاء العالمى . وشملت تحقيقات بعثة التقصى التابعة لمجلس الامن فى دارفور قادة عسكريين كبار كانوا يعملون فى دارفور ابان فترة وقوع تلك الاحداث . وشملت التحقيقات كذلك مسئولين مدنيين كبار . وكانت مفاجأة غير سارة ، وربما كانت غير متوقعة من قبل النظام ، ان بعثة تقصى الحقائق الاممية قدمت تقريرا ضافيا جرمت فيه 52 مسئولا سودانيا فى دارفور. و اتهمت كل واحد منهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية وجرائم ضد حقوق الانسان. لم يكن امام مجلس الأمن الا أن يحيل تقرير لجنة تقصى الحقائق الاممية الميدانية الى محكمة الجنايات. وبالفعل اتخذ مجلس الامن القرار الاممى رقم 1595 الذى حول به نتائج تلك التحقيقات الى المحكمة الجنائية. وفى هذه النقطة بالذات سقطت حجة الحكومة السودانية بعدم ولاية محكمة الجنايات . فقد انعقدت الولاية للمحكمة تلقائيا باحالة القضية اليها من مجلس الامن. الخطاب الحكومى السودانى المغالط هو مضيعة لوقت السودان. وخير للسودان الف مرة ان يبحث له عن مخارج قانونية اخرى قد يجد فيها نفعا قانونيا من نوع ما. او ان يجرب الوسائط الدبلوماسية التى هى اكثر اتساعا. كأن يدخل فى نوع من التسويات الضرورية التى تحقق قدرا من العدالة والمساءلة. و لا تحقق كل العدل وكل المساءلة . وقد يرضى بها الجميع من باب ما لا يدرك جله لا يترك كله . ويمكن ان تكون التسوية الليبية نقطة ارتكاز للقفز منها ليس الى المجهول ولكن الى مساومات شاقة .

وربما يكون النظام فى السودان قد اخذ يفكر بجدية فى تسوية من هذا القبيل بالفعل . فقد لاحظ بعض المراقبين ان رد فعل النظام على قرار المحكمة الجنائية كان معتدلا بصورة لافتة للنظر مع بعض الاستثناءات هنا وهناك من بعض الجنود البيادة الذين جعروا كما بما اعتادوا عليه من غليظ اللفظ . ومعروف طبعا انك لا تعدم فى كل الاحوال من ان تجد مسيحيين اكثر من المسيح والبابا ، او تجد زمرة من آل البوربون الذين دوخوا ذات يوم اوروبا باصرارهم على ان لا ينسوا شيئا من اخطائهم. الا ان اللافت هو ان النظام لم يخرج المسيرات المليونية الجاهزة هذه المرة ولم يشتم العالم بما حوى مثلما كان يفعل فى سالف العصر والاوان .

الرئيس البشير خاطب الشعب السودانى مؤخرا. كان ذلك قبل صدور قرار الابادة الجماعية بوقت قصير . وقال ان المرحلة القادمة ستكون هى الاخطر فى السودان . و لابد انه كان يشير الى مرحلة تقرير مصير الجنوب التى قد تشهد ميلاد دولة جديدة وانشطار البلد القارة الى شطرين. لا احد يختلف مع الرئيس البشير فى ان المرحلة القادمة ستكون اخطر المراحل . بل ستكون اقسى المراحل على نفس اى سودانى اذا صدقت تنبؤات المتشائمين وحدث الانفصال بالفعل . ولكن الجميع يسألون الرئيس البشير ان كان يريد لنفسه ان ينتهى فى تاريخ بلده الى نفس المنحدر الذى انتهى اليه ميخائيل جورباتشوف الذى اخذ المؤرخون الروس يغمزونه وهو حى بصفة الرجل الذى فكك الامبراطورية السوفيتية بصورة سلسلة. هل لاحظ الرئيس البشير استعمال مبعوث الرئيس اوباما الى السودان ، استعماله المتكرر لتعبير الطلاق السلس بين الشمال والجنوب. واكيد انه سمع ان المبعوث الامريكى يريد بقاءه فى السلطة لاكمال ما تبقى من المشوار بعد ان اكمل الحرب ضد الارهاب على اكمل وجه حسبما صرح الطيار الذى لا يعلم شيئا فى السياسة الدولية . ولابد ان كثيرين من خاصة الرئيس البشير مشفقون عليه من مصير حورباتشوف ومن لعنة التاريخ . هل عمل الرئيس حسابا لنفسه حتى لا يصبح جورباتشوف السودان .ان لم يفعل حتى الآن ، فعليه ان يسرع ويجد الخطى . والا غنت البوم غدا فى ديار كانت هى الديارا. ماذا عساه يفعل الرئيس البشير . عندى بعض الاجابة . وليست كل الاجابة .الاجابة التى عندى تقول : قدم السودان على الحزب . وقدم التنازل الذى سيطفىء نيران دارفور ، ونيران الشرق والجنوب . ستنطفئ هذه النيران عندما يجد الجميع انفسهم فى البلد الحدادى المدادى الذى وسعهم ذات يوم. وهو قنين بأن يسعهم غدا ، وبعد غد ، والى بوم يبعثون.هل بلغت ؟ اللهم فاشهد .

[email protected]

SUDANILE.COM

تعليق واحد

  1. قسموك
    بهدلوك
    عذوبنا وعذبوك
    في الاخر لالقونا و لالقوك
    ديل
    الشتتوتك
    وفرزعوك
    بنافعهم
    مانفعوك
    الله
    يجازي
    المدمروك
    يا اغلي وطن
    نبكيك
    من يوم الديلا
    جوك
    يا
    س
    و
    د
    ا
    ن
    وسعت
    الكل
    كيزانك
    ضيقوك
    جمعت
    الكل
    كيزانك
    فرقوك
    حميت
    الكل
    كيزانك
    ماحموك
    ناسف ليك
    من
    يوم الديلا جوك
    وماحترموك
    بهدلونا و بهدلوك

  2. لك التحية د.علي حمد هذا المقال الراقي . هذه الازمة اظهرت وعي الشعب السوداني فجاد كل كاتب بما يحمله قلبه من الم وقصة ولكن هذه الشرزمة باعت السودان واشترت الجاه والمال وامثال هولاء اتو من المجهول فليس لهم ماضي يخافون عليه وليس لهم مستقبل الا في مزبلة التاريخ وسجون المحاكم الجنائية

    الاخ ابوصالح كلمات تعتصر القلب وتكتم الأهات والزفرات .. اترى هل تعاتبنا الاجيال القادمة ام يكون العتاب على عصابة الانقاذ؟؟؟؟؟؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..