صورة من حي العرب ( حفل عرس في وادي عبقر )

حفل عرس في حي العرب أو وادي عبقر
لا قيمة للغناء إلا في حي العرب
ولا قيمة للطرب إلا في وادي عبقر
ولا قيمة للمغنين إلا في أندلس الترجيع والمزامير والمزاهر
هناك تحس بأنفاس عبقري الأغنية السودانية عبد الرحمن الريح ندية في مملكة الحب وصداحة وواضحة كالخزف الصيني وتراه روحا وجسدا وشبابا في ذاك الوادي الذي أحبه وظلله بأناشيده مقاوما سلطة الموت وسلطة الأبد بالأغاني والتراجيع . كان الزمن هو الآن ولكن في حي العرب مازال الوقت في الستينات ومازالت الأجيال تقاوم سطوة الانجراف وترفض أن تكون قشة في مهب الريح . تجمعوا من المهاجر في الأحياء المجاورة التي ذهبوا إليها مضطرين بفعل توسع وزيادة عدد أفراد الأسر وتجمعوا من ممرات وادي عبقر حيث ظل الكثيرون يتمسكون بأستار كعبتهم التي علقوا عليها الأغاني وعلقوا عليها الزمن برائحته العتيدة وعلقوا عليها قمصان الأجداد الندية بالشعر والتواشيح والقصص .
لا قيمة للغناء إلا في وادي عبقر
ولا قيمة للطرب إلا في حي العرب
ولا قيمة للمغنين إلا في أندلس التراجيع والمزامير والمزاهر
لأنك ستسمع الغناء بأذن غير هذه الأذن التي لا تحسدها عاديات الرياح وبقلب غير هذا القلب الذي حاصره الزمن بالمؤقت والقريب والمراحل . ذاك قلب استماع يجمع ما بين الخافقين ويستحضر من ذهبوا يصدحون في ممالك العالم الآخر حينما يسمعون أصداء وادي عبقر التي تضج بكل زخم الأيام والذكريات .كلهم ذهبوا وفي أيديهم كل المزامير الممكنة . ذهب عبد الرحمن الريح الذي كان مشلخا ويلبس جلابية بلياقة وكان يأتي إليه الجابري وإبراهيم عوض للتلحين على مرمى حجر من ذاك الحفل الذي قرب الأزمان ودمج المراحل والتواريخ و في لحظات سافرت فيها الأجيال الجديدة عبر آلة الطرب إلى سنوات قبل أن يولد الآباء . ذهب علي محمود التنقاري الذي كان يملك دكان صيني في مقابل جزارة سوق أمدرمان وترك أيقونة وادي عبقر خلفه وإنجيل حي العرب ( عني مالم *** صادو واتوارو *** حظي عاكس ولا هم جارو ) وكان يزوره في مملكة الأمل والمستقبل العبادي وسيد عبد العزيز ومحمد بشير عتيق . وذهب أيضا ذلك النجم الساطع الذي لمع ثم اختفى سريعا صالح سعد الذي انشغل عن الفن بممارسة التجارة في سوق حي العرب . وكانت عائشة الفلاتية تعبر ممرات وادي عبقر وهي تلبس ثوب ابوقجيجة وهي في طريقها إلى منزل التنقاري في فريق الصحة وهو من أكبر المنازل وأعلاها وله صالون واسع من الطوب الأحمر وباحة شاعرية مسحورة تحف بها الأشجار وكان منزله يقع في أشهر طرق حي العرب وهو الطريق الذي يربط بين شارع أبو مرين في سوق أمدرمان والطريق المؤدي إلى المنطقة الصناعية القديمة .كلهم ذهبوا إلى دنيا المزامير الإلهية وبقيت أرواحهم الشفيفة تحلق في وادي عبقر ولاتتزحزح .
كانت السينما تقسم إلى أقسام أولاد حي العرب في جهة و أولاد البوسطة والرباطاب والهاشماب وأولاد العباسية ثم ( الجو ) وهم أولاد غرب إستاد الموردة , وكان هناك بص واحد يأتي ليأخذ من خرج من السينما ومن فاته البص يذهي لينام في حي العرب مع أصحابه لأن ذاك الحي كان حي صحبة ومرافقة وقد يجد حفلا صاخبا وراقصين وراقصات ومطربين يغنون عن الحب والهيام والأشواق من قبيل
ليه بتسأل عني تاني بعد ماشلت الأماني أو دي الليالي أمر ليا أو مين قساك مين قسا قلبك مين نساك يا الناسي حبك .ذهب عوض جبريل الشاعر الذي ولد في حي الدباغة ( الهجرة )وجاء إلى حي العرب مرة وبقي فيها إلى الأبد وبقي في بيت عبدالرحمن الريح 5 سنوات متتابعة وهناك لاقى الفنان أحمد الجابري .وذهب التاج مصطفى وميرغني المأمون وأحمد حسن جمعة وإبراهيم عوض ورمضان حسن وأحمد الجابري وذهب الشعراء عبيد عبد الرحمن وسيد عبد العزيز وعبد الرحمن الريح وبقي الغناء صامدا وأبديا يلف موجه العاتي كل الأجيال الجديدة .
لا قيمة للغناء إلا في حي الغناء
ولا قيمة للطرب إلا في وادي عبقر
ولا قيمة للمغنين إلا في جنة التواشيح والمزامير والمزاهر
ما هذا الذي يرفرف فوقك ؟ هل هو الزمن الماضي أم هي الأرواح ؟ لماذا يحتفظ هذا الحي بالتاريخ ؟ لماذا يتقوقع في صدفة الزمن بحيث يصير الأطفال أجدادا ويصير الأجداد أطفالا ؟ ما هو سحر هذا الحي الذي يجعل سكانه حينما يلتقون في حفل كهذا الحفل يترابطون ويتوادعون ويأخذونك بالأحضان الدافئة ويعتصرونك عصرا بحيث لا يهدأ شوق ولا يتعاظم غياب ؟ كان المغني يصيح وهو يتمايل بأغاني الحقيبة وقد نسي الزمن ولم ينسه ونسي المكان وهو أوضح ما يكون لديه وهو يقول إن ( الخادم طربانه ) وأنه في أشد حالات الانجذاب والغرق المعنوي والتوهان في اللا مرئي . وكان يقدم أغنيته دائما باسم شاعرها أو بنوعها ويختم دائما فواصله بالدلوكة فتمتلئ الحلقة بالسيطان والعكاكيز والابتسامات والمودة . كانوا يمرحون ويرقصون كما رأوا أهلهم ووالديهم يرقصون ويهزون ويبشرون في زمن غابر من طفولة بعيدة مازالت شوارعها وأزقتها وبيوتها قائمة تحدق فيهم وهم يرقصون ويتمايلون كأنها نجوم السماء لا تنطفئ ولا تزول . غنى لعبد الرحمن الريح وغنى لود البنا . وحين نصبت أجهزة الموسيقى في طرف الخيمة قدم نفسه وقدم عازفيه وأحدهم طبيب جلديه وتناسلية وقد ذهب إليه وأقنعه بالمجئ معه لأن مجهز الموسيقى المعتاد مسافر وقال إن الغناء في حي العرب يجعلني أشعر بأنني بين سادتي ونقادي وأنني في أمر جد صعب . كيف تبيع الماء في حارة السقائين ؟ وكيف تغني وكلهم زرياب ؟ بعد الغداء الذي تتابعت صوانيه ولم تنقطع لكثرة الزوار حيث تناول المعازيم الضلع الذي توسط صينية الألمونيوم بقربه السلطة الخضراء وسلطة الروب وغموس اللحم والفاصوليا والكسرة والمحشي وبعض الأصناف التي صفت في الأنحاء البعيدة من الصينية العامرة كان أهل حي العرب يحيون الغائبين من الحي ويسألون عن أحوالهم ويجالسونهم ويشربون معهم الشاي إلى أن سمعوا أول موجات الموسيقي وسمعوا صوت المطرب الذي حفظ وأتقن وذاب في أغاني الحقيبة وهو يصيح ( يا جماعة هوووي والله الخادم طربانه شديد ) وبعد عدة أغاني تدفقت الموجات الأولى من النساء والأطفال إلى خيمة الغناء وأتخذن مكانا قريبا من حلقة الرقص كما كان يحدث في الستينات تماما ثم انفلت العقد وكان صوت الرقص والغناء هو الأعلى .في حي العرب لا يوجد مقدس سوى الطرب ولا يوجد زعيم سوى الكمان . بعد قليل ذابت الفواصل واستحكمت الحرية وسمت الأنغام بأرواح القوم وتنقت السريرة والقريحة من الشك والريبة وأنصاف الحلول وكان الرجوع من طريق المحبة الصافية النقية مستحيلا ومنعدما . كيف رقصت الجدات في هذه الأزقة ؟ وكيف رقص الأجداد الذين كانوا يلتقون بفتيات أحلامهم في آبار حي العرب كبئر فريق الصحة وبئر تمساح ملك ود الكريل وبئر عمك محمد علي قرب منزل الفنان إبراهيم عوض وبئر زقاق الحجر ؟الكوارتة كانوا نازحين في حي العرب واشتروا البيوت وسكنوها ولم يستلموا بيوتهم من الإنجليز كبرمبل الذي سلم منازل العرضة وفريق الصحة أما حي العرب شمال فسلمها المستر شين
وكان الكوارتة الأوائل يبيعون الماء في الأخراج وفي منطقة ما قريبة من بئر فريق الصحة كانت المزامير تصدح وكان العريس وقد أحيط بكثير من الفتيات ونساء يلبسن الثياب والكعب العالي وتظهر على أقدمهن رسوم الحناء البديعة يبشر ويضحك ويرقص ثم يجفف العرق من رقبته بمنديله ثم حدث فاصل وكان المغني يختمه متوعدا الجميع بإغان أكثر دفقا وسحرا وانفعالا وهو يقول ( والله الخادم طربانه جنس طرب ) .
أيوجد قلب لم يشعر بأنه يميل وتلدغه ثعابين الأنغام فيرقص بين الضلوع ؟
أتوجد روح لم تعل وهي تخترق الزمان وتحلق مع النغم المهيأ للعلو والسمو والتجاوز ؟
مازال وادي عبقر يعج بالجن والوحي والمدائح
ومازالت الأجيال تمشي وهي لا تحيد عن الطريق
وكل مغن يعرف ألا قيمة للمغنين إلا في أندلس التراجيع والتواشيح والمزاهر

خالد بابكر أبوعاقلة
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. عبد الرحمن الريح كان يرتدي جلابية سودانية بلدية ..
    انت تقصد الجابري وهو شاب صغير كان يرتدي الجلابية بي لياقة وكنا نطلق عليها جلابية اليمانية. مع الشكر والتقدير.

  2. والله أطربتنا بالوصف وكأننا في إحدى تلك المسرات

    { بعد قليل ذابت الفواصل واستحكمت الحرية وسمت الأنغام بأرواح القوم وتنقت السريرة والقريحة من الشك والريبة وأنصاف الحلول وكان الرجوع من طريق المحبة الصافية النقية مستحيلا ومنعدما .}

    ياليالي الخير عودي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..