البلد الأفريقي الذي لم أرَ فيه أيادي ممدودة كان السودان. أتحدث عن منتصف الستينات قبل أن تقتحم الأيدي الباغية غلة الناس.

سمير عطا الله

في نهاية هذه الحلقات، إني مدين باعتذار عميق. فقد كنت مسافرا لا أليق بهذه الصفة. اكتشفت الآن أنني لم أسافر إلا في المدن والعواصم. لم أغامر مرة في الذهاب إلى مصر الداخلية. لم أتجاوز نيروبي إلا مسافة ساعتين، عدت بعدها خائفا إلى الفندق حاملا صورا لا تُنسى عن حياة البشر على هامش هذه الحياة. وربما كان ما رأيت جزءا عن صورة الجحيم البارد قبيل الوصول إلى مرحلة النار. لم أتجاوز جاكرتا إلا مسافة ساعتين. وكان المشهد محزنا. غليظ الفقر، حتى من بعيد، وسيئ السمعة وسيئ الذكر، وغلظته ترقق العظام.

العواصم ليست هي الأوطان. والمدن ليست الدول. هناك مليارات الهامشيين الذين لا يمكن أن تراهم إلا إذا كان ذوقك يسمح بحضور الأفلام الهندية. سافرت مرتاحا في الداخل الأميركي لكنني لم أجرؤ مرة على الذهاب إلى «هارلم» القريبة بضع دقائق من حيث أنا. لا يطاق مشهد الفقراء، مقرونا بعجزك عن أن تفعل أي شيء. رأيت في مومباي وبعض آسيا وبعض أفريقيا أيادي الأطفال والعجائز والمقعدين تمتد للسابلة كأنها فرقة رياضية تؤدي عملا. بشر فقدوا كل كرامة بشرية ولم يبق لهم سوى الرصيف والسماء مهما تغيرت الفصول وتقلب النهار والليل.

حتى عندما كنت شابا جبنت عن السفر في أعماق البلدان، خاذلا مهنتي، مبتعدا عن الصور التي تنطبع في الذاكرة مثل الجرح الغائر.
في الدول «الصناعية» قلما تتغيَّر عافية الوجه عن وهن الجسد. تسافر في كندا ألفي ميل من دون أن ترى حفرة في الطريق أو جائعا إلى جانبها. وتسافر في فرنسا وبريطانيا من دون شعور بالفوارق بين الحضر والأرياف. البلد الأفريقي الذي لم أرَ فيه أيادي ممدودة كان السودان. أتحدث عن منتصف الستينات قبل أن تقتحم الأيدي الباغية غلة الناس وما تيسَّر من خيرات النيلين.

عندما أقرأ كتب الرحّالة القدامى والكتّاب المحدثين، أشعر بالخجل. لقد تكبّدوا كل مشقّة في سبيل وضع فصل آخر لكتاب انطباعات آخر. ما تكبَّدته في البدايات كان تلقائيا وليس عزما. ولم يكن كثيرا. لقد سافرت في قطارات أوروبا الشرقية وليس في شاحنات الصحارى الأفريقية مثل رزيارد كابوشنسكي أو بول تيرو أو بقية المبهرين الذين جعلوا السفر في بلاد الإنسان ما هو حقا، أي حكاية من الحكايات، ولكن بألوان أكثر وواقعية أكثر من شجاعات السندباد وهو يجوب البر والغاب والبحر يملؤه سفينا.

عندما أصدرت «أوراق السندباد» ظن كثيرون أنني سوف أتحدث عن حياة في السفر. لكن مثل هذا التبجّح لا يمكن أن يخطر لي. لقد وضعت أسفاري تحت عناوين مثل «مسافر بلا ميناء»، و«ناس ومدن»، و«مسافات في أوطان الآخرين». وقد تصدر هذه الحلقات تحت عنوانها «مدن الصيف». والحقيقة أن كثيرا منها هو مدن الشتاء أيضا. يروي لي الزميل سمير صنبر أنه يحفظ معه قطعة كتبتها عام 1961 عنوانها «جاف وألهو بالرحيل». الآن مليء بعائلتي وأحلم بالاستقرار.
شكرا لاهتمامكم.

الشرق الاوسط

تعليق واحد

  1. شكرا على هذا المفال الرائع و الأسلوب السلس(البلد الذي لم أجد فيه أيادي ممدودة كان السودان )لا حول ولا قوه إلا بالله لقد زدت والله من آلامنا وحسراتنا

  2. لم يكن في الستينات فقط بل حتي بداية الثمانينات لم يكن هنالك سوداني واحد يشحد او يمد يده للآخرين في الشوارع , انها اقدار الزمان التى جعلت من الحكومة تمني علي الشعب السوداني بالجمعيات الخيرية المسمى بالاسلامية و جعل من كل هب و دب يمد يد العون للشعب السوداني و التي ظاهره الحنية و باطنه اذلال للشعب السوداني بعد افقاره عمدا و لكن نشكرك الشكر الجزيل علي الملاحظة .

  3. في الستينات كان غير , لكن تعال شوف الحال حسي والله يدين م تديك الدرب .والشارع بقا كلو محتاجين ., غايتو الحمد لله علي كل حال …..

  4. البلد الأفريقي الذي لم أرَ فيه أيادي ممدودة كان السودان. أتحدث عن منتصف الستينات قبل أن تقتحم الأيدي الباغية غلة الناس وما تيسَّر من خيرات النيلين.
    يوم كان الناس ناسا والبلد بلدا لم يحكمه السارقون وأصحاب القلوب القاسية بل الميتة

  5. جعلوا ايادينا تمتد لمن يملك ومن لا يملك – وهم ايضا اياديهم تمتد الى جيوبنا واحزاننا وحتىالموتى منا يصادرو موتهم وحزنهم

  6. الله يرحم سودان الستينات
    للاسف .. الشحده اصبحت ظاهرة ومن اناس في قمة الاحترام .. نظيفين ولابسين جلاليب وعمم ، شيوخ وشباب و موظفين .. الواحد يتلفت قبل ما يشحد وبعد داك يعتذر
    لك الله يا وطني
    الله يجازي الكان السبب
    الله ينتقم من الأيدي الباغية التي اقتحمت غلة الناس وما تيسَّر من خيرات النيلين

  7. شكرا الأستاذ سمير عطا الله لنزاهتك في قول الحقيقة . نعم السودان و حتي فترة الستينات لم يكن به من مواطنيه من يمد يده متسولا و كان المهاجرون من الدول الأفريقية و العربية هم الذين يقومون بذلك و معروفون بأماكن تواجدهم و بأهازيجهم التي يرددونها و يشحدون بها . صدقت لقد كان السودان هو الدولة الوحيدة خارج الدول الصناعية التي لم يكن فيها مواطنون متسولون , و لكن كما قلت اقتحمت الأيدي الباغية غلة الناس و قضت على خيرات النيلين .

  8. شكرا استاذ سمير عطا الله اتابع كتاباتك فى جريدة الشرق الاوسط …فعلا لقد سرق هؤلاء قوت الشعب وضيقوا الخناق على الناس حتى اصبح حلم اى سودانى هو الرحيل بلا دليل والان لو رجعت الى الخرطوم سسترى كيف صار البؤس هو المنوال…لقد ابدع هؤلاء فى صناعة الفقر وافقار البلاد وكل هذه المساحات الخصبة هجرها اهلها واتوا للخرطوم او لخارج السودان بلا رجعة فهولاء تركوا جرحا غائرا فينا لن يندمل…كما قال الاديب الطيب صالح (من اين اتى هؤلاء ؟).

  9. ليتهم يتعلمون ليتهم يرجعون الينا وطننا كما كان ليتهم يرجعون الينا سعادتنا وبرائتنا وحبنا لبعضنا البعض ليتهم يعلمون انهم من اوصلنا الى هذا الدرك الخطير
    اذهبو عنا برجسكم يابنى كوز انكم فاشلون ومفشلون انكم اخبث خلق الله

    وااسفى عليك يابلد

  10. دأب الناس على إلقاء مسئولية تدهور أوضاع السودان بوتيرة متسارعة نحو الهوة، إلى أسباب عديدة منها الإسلام السياسي. ولكنني أود أضيف إلى أن انحياز السودان لقضية فلسطين بطريقة (جعلية) هي ما أودرتنا المهالك ولم تزل توردنا، حتى وصلنا مرحلة ضرب إسرائيل لعمق السودان أكثر من خمس أو ست مرات.

    فترة الأيدي غير الممدوة التي كان يتحدث عنها سمير عطا الله، كانت من أخصب فترات السودان، وكانت علاقات السودان مع أمريكا جيدة للغاية بل كانت هي الأجود من بين كل الدول الأفريقية، لدرجة أن أمريكا فكرت في إقامة قواعد عسكرية بالسودان، أو على الأقل اتخاذ السودان قاعدة دبلوماسية أمريكية لأفريقيا. ولكن………….. بدأ السودان اتجاهه الإسلامي -العروبي فانحاز للقضية الفلسطينة دون روية ودون اقتدار، ودن إمكانيات. جاء مؤتمر اللاءات الثلاثة. قطعت أمريكا علاقاتها معنا. توقفت المعونة الأمريكية فتوقف بالتالي طريق الخرطوم- مدني، وتوقف مصنع الكوكا كولا وهو ثاني أكبر مصنع في أفريقيا. بدأت أمريكا مرحلة الكيد لنا وعزلنا….. ثم جاء الإسلام السياسي فرفع شعار (الموت لأمريكا)….. زاد الانحياز لفلسطين ولحماس… إزدادت العزلة…. تم تقسيم السودان…. توقفت المشاريع الزراعية…. انخفضت قيمة الجنيه….. انخفضت قيمة الإنسان…. ضاعت الحقوق…. زادت رقعة الحروب وقلت رقعة الأراضي الزراعية…. انتهي كل شيء…. لم يعد السودان سوداناً والسبب فلسطين والإسلام السياسي…

  11. لك التجلة والاحترام أستاذنا الوقور سمير وأني كلما اقرأ لكتاباتك اشعر بان كتابنا بخير في زمن انهار فيه كل القيم نحن يا أستاذي من اكثر شعوب العالم الذين يتمنون ان يعود بنا عقارب الساعة الي الوراء وحتي ان ذهب بعضنا الي ان يعود الاستعمار الي السودان من هول تردي الأوضاع هل تدري يا أستاذي ان الجنيه السوداني كان يعادل اثنا عشر دولارا قي فترة من الزمان ولا ادري الدولار بكم الان بالآلاف وكان خريج جامعة الخرطوم يعادل خريج كمبردج وان مشروع الجزيرة الذي كان مؤمل ان سلة الغذاء قد بيع في وضح النهار وخط هيثرو المهداة من الملكة اليذابيث للشعب السوداني قد بيع ببحث التراب وبيت السودان بلندن وووووالخدمة المدنية السودانية كانت مشهودة لها دمرها الحكومات العسكريةلشي في نفس يعقوب وكأننا ياستاذي نبكي علي الأطلال ولك العتبي اذ كدرنا صفوك بما إلنا اليه لعلمي بك من القرب انك من الذين تحبون الخير للسودان والسودانيين وأكرر شكري وامتناني لك أستاذي سمير عطاالله

  12. اكتب عن لبنان بتاعتك وعن الفقر والدعارة الفيها وعنصربتهم علينا في السعودية وباقي دول الخليج واكتب عن فسادهم لبنات العرب في الدول العربية نحن حكومتنا لينا ليها يوم بس انتا اطلع منها وخليك مع ناس بوي الواو ونانسي وباقي …..

  13. . أتحدث عن منتصف الستينات قبل أن تقتحم الأيدي الباغية غلة الناس وما تيسَّر من خيرات النيلين
    ما اجملها من عبارة
    تبا للطغاة في كل زمان ومكان وتبت يدا ابي لهب

  14. في الستينات تركوها الانجليز باريس افريقيا . دي شهادة خواجه قراءت له وجوا جماعتنا ناس قريعتي راحت دمروا كل من تركه الانجليز . والتدهور حصل بعد خروج الانجليز مباشرة .. اولادنا الفطاحل بيعلموا في الخواجات في جامعاتهم والعساكر بيحكمونا ..

  15. أخي ود الحسن لك التحية (اكتب عن لبنان بتاعتك وعن الفقر والدعارة الفيها وعنصربتهم علينا في السعودية وباقي دول الخليج واكتب عن فسادهم لبنات العرب في الدول العربية نحن حكومتنا لينا ليها يوم بس انتا اطلع منها وخليك مع ناس بوي الواو ونانسي وباقي …..)أخي الكريم هؤلاء القلة اللبنانية عنصريتهم على من؟؟ والله إخوان هيفا ومالك إلا هيفا لا يستطيعون أن ينظروا في وجوه السودانيين الأشاوس في الخليج وجد اللبنانيين فرصتهم بعد أن قام السودانيون بتعميرها وجد الفرصة في توفير الدعارة لأولئك الأعراب المخدوعين بتبرج اللبنانيات ومضغ الكلام وصبغ الحواجيب … استطلعت قناة الجزيرة في إحدى استطلاعاتها عن السودان أحد اللبنانيين فقال بكل وقاحة اسألني عن بلد عربي السودان بلد عربي ؟؟؟ والغريب أن ذلك الغبي تبدو من ملامح وجهه أنه من بقايا الشراكسة أو الإرمن وأقولها بعالي صوتي من لا تكسوه سمرة فليراجع عروبته … السودانيون معظمهم عرب عدنانيين والعدنانيون سمر لأن سمرتهم من السيدة هاجر النوبية وهي جدتهم … السودان قادم قريبا بعد الإطاحة بشرزمة البشير وتحرير حلايب وغير محتاجين من أحد أن يثبت أننا لا نمد أيدينا هذه سمة من سماتنا أنا كنت في السعودية وكل الجنسيات تشحد في المساجد ما السودانيين وأتحدى من يقول غير ذلك … اتحادنا يبدأ بجبهة قوية لتحرير السودان من الكيزان وتحرير حلايب من بقايا فرعون .

  16. عيني ماتقع فيهو الراجل دا وخلي الكيزان يمشو من البلد بعد داك نرجع اشوف لي لبناني بس حائم في السودان نفس تعاملهم مع اخوانا الدقوهم في لبنان واخوان المعتصمين جنب شئون اللاجئين حقهم برجع ليهم بي يدي دق نظيف واحد وراء التاني ولو داير تعرفهم كويس امشي فندق روتانا في الخرطوم واسال عن عامل النظافة الا اتهموا اللبانيين وفي النهاية طلع بري لكن حصل ليهو شنو والوقف مع اللبانيين شرذمة من الموتمر الوطني وكلكم ليكم يوم

  17. قالوا لكولمبس حينما شرح خطته للوصول لامريكا مستخدما نظرية كروية الارض : ما تقوله ليس جديدا علينا فرد : نعم ولكن المشكلة انكم لاتنفذون ماتعرفونه ! هل كان الحكام كلهم او جلهم لايعرفون ان العواصم ليست هي الاوطان ؟ وان المدن ليست هي البلدان ؟ يالها من بديهيات ويالهم من اذكياء اغبياء يارحمك الله طيبنا وصالحنا ! هاهو صحفي امين ثاقب النظرة يفسر عبارتك الفاجعة لان قلبه علي الناس مثلك ! مسكين ود المكي الذي بكي علي الوطن بكاء الناقة علي الفصيل كـأنه يراه عن ظهر غيب :
    من اشتراك اشتري مني ومنك
    تواريخ البكاء واجيال العبودية
    من اشتراك اشتراني ياخلاسية
    اعتقد انه يبكي الماضي فادا بالزمان يدور معكوسا واذا به دون ان يدري يبكي الحاضر والمستقبل ! مسكين ود المكي كما مسكين جميع الناس
    مسكين احمد عبدالمعطي حجازي هرب من وطن الجغراغبا الي وطن اثيري حين ضاقت عليه الجغرافيا :
    واكتشفنا وطنا في زهرة الدفلي
    ووقتا صافيا يرشح في الوديان من كر الفصول
    مسكين حجازي كما مسكين جميع الناس . مسكينة شعوبنا غرباؤها المستعمرون كانوا احن عليها من فلذات اكبادها

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..