مقالات سياسية

جيشنا.. وخيبات الأمل (2) – مسارح الوجوه الأربعة

برغم العنوان الأعلى، لن أتطرق في هذه المقالة إلى الجيش مباشرة، إنما أحصر الحديث هنا في مناقشة أمراضنا السياسية التي كان الجيش نفسه – بل الوطن كله – ضحاياها الحصريين.

ظل كل من زعيمي البيتين الطائفيين، يحتفظ بوجهين متناقضين تماما، وجه “براغماتي” خالص، يتفاعل به مع رموز الإدارة البريطانية، الحاكم العام و مدراء المديريات و المفتشين الإنجليز ذوي السطوة. و بهذا الوجه البراغماتي حصد زعيما البيتين الكثير من (المصالح) لحساب عائلتيهما، بل جمعت الرجلين في الحقيقة صداقات حميمة ببعض رموز الإدارة البريطانية، يتجلى بعضها – لمن يصبر على نفض بعض محتويات دار الوثائق القومية – في كثير مما يشبه “الخطابات الغرامية” المتبادلة بين زعامات البيتين و بين بعض الإداريين الإنجليز النافذين في الخرطوم.

في الحقيقة كان ممثلو مملكة بريطانيا العظمى في السودان يحسبون، حسابا دقيقا و باردا، ثمرات علاقاتهم بزعيمي الطائفتين، في إبقاء السودان تحت قبضتهم الاقتصادية حتى بعد مغادرتهم، بعد أن درسوا جيدا شخصيتي الرجلين، و عرفوا نقاط ضعفهما المتمثلة في حرصهما الشديد على (كبسلة) الدولة، سلطة و ثروة، داخل أسوار بيتيهما، و قدرتهما بالمقابل على حصر طموح السودانيين جميعا في نيل رضاء البيتين الشريفين..

الوجه الآخر لكل من زعيمي الطائفتين كان وجها “كهنوتيا” للتفاعل مع المحيط الاجتماعي السوداني الأمي، المنقسم في ولائه بين البيتين، بما يحقق استمرار التقديس و استدامته داخل البيتين و توريثه لذرياتهما.

سيتساءل القارئ، بلا شك، عن موقف النخبة التي نالت قدرا من التعليم، و انفتحت، شيئا، على عالمي الإدارة و السياسة..

أنشأ الحاكم الانجليزي “كلية غردون التذكارية” كمدرسة لتأهيل الكتبة و المحاسبين و صغار الموظفين، لتوفير الموازنات الضخمة التي كان سيقتضيها استقدام موظفين من إنجلترا أو من مصر، و كانت الكلية، إلى جانب تأهيل طلابها للوظائف المستهدفة، تزودهم ببعض المعارف المكملة، كاللغة الإنجليزية و آدابها و بعض مداخل العلوم ذات الوزن “الاجتماعي” آنذاك، فقد كان كبار الموظفين الإنجليز يشعرون بالحاجة أحيانا إلى من يجاذبونه الأنس و الحديث من بين رعاياهم السودانيين.
إذن، ظل خريجو كلية غردون التذكارية يشكلون عظم النخبة التي ستتأرجح بين البيتين الطائفيين في معظمها، يضاف إليها قليلون ممن حملهم طموحهم إلى الاستزادة من العلم فالتحقوا ببعض الجامعات المصرية و اللبنانية، و يبقى نزر يسير من تلك النخبة أكثر نزوعا إلى الانعتاق من هيمنة البيتين، مسنودين بقدر من الوعي والاستنارة و سعة الأفق و التجرد من المطامح الشخصية.

هؤلاء تحديدا وجدوا أنفسهم، غداة الاستقلال، في مواجهة ساحقة مع (روح القطيع) الطائفي، أسفرت عن عزلهم و تمزيق أحلامهم في دولة مستقلة و ناهضة و محكومة بمؤسسات حقيقية منعتقة من الإملاء الأبوي الطائفي، فلم يكن بد من أن تولد الدولة المستقلة على مزاج البيتين الطائفيين، و الطموحات المتواضعة لغالبية النخبة التي انقسمت بين الطائفتين مدفوعة بمطامح شخصية هينة، و تصورات”شكلية” للدولة لم تتجاوز محاولة استنساخ صورة شائهة لنموذج الدولة البريطأنية شكلا دون محتوى، فكانت ديمقراطية”الإشارة” و حشد قطيع الناخبين بأمر (السيد).

أما أعظم وجوه فشل تلك النخبة فتمثل في عجزها الكامل عن مخاطبة أمهات قضايا مجتمع متنوع متعدد الأعراق و الثقافات و الديانات، مكبل بالأمية و الفقر، إذ لم يتوفر أحد من النخبة التي حكمت البلاد غداة الاستقلال على دراسة المجتمعات و الشعوب الخاضعة لحكمها، و بحث سبل توحيدها على توجه وطني جامع يستثمر تنوع أعراقها و ثقافاتها و بيئاتها، بل ركنت النخبة، عوضا عن ذلك، إلى تبني الثقافة الطائفية الاستعلائية، خصوصا في شأن شعوب الجنوب السوداني، التي جوبهت مطالبها بتمثيل عادل في البرلمان و الجهاز التنفيذي بكثير من العجرفة التي كانت تستبطن الرؤية الطائفية لتلك الشعوب باعتبارها مجموعات من السوائم”الكافرة” الجاهلة، التي يمكن الإفادة منها فقط في استثمار جهلها.

كان ذلك الاستعلاء، المعبر بالأساس عن عجز سياسي و فشل إداري سببا أساسيا في تفجر تمرد الجنوبيين الذي جرى تكليف الجيش حديث النشأة بحسمه عسكريا، تأكيدا للعجز السياسي، و كسلا عن الاجتهاد الفكري. و هنا كان الجيش ضحية لقرار سياسي فطير، أسفر حرب أهلية متطاولة.

حين أشرت في مطلع هذه المقالة إلى كون الجيش السوداني، على علاته، كان ضحية لفشل النخبة سياسيا و اجتماعيا و حتى “أخلاقيا”، كنت أعني قضيتين تنسبان إلى الجيش مع أنهما تعودان بالأساس إلى النخبة السياسية التي شكلت أول حكومة بعد الاستقلال:

أولى القضيتين تمرد الجنوبيين الذي بدأ شأنا سياسيا بامتياز، و ما كان يحتاج، لإنهائه سياسيا إلى كبير جهد لو كان توفر الوعي و الإنصاف و الأخلاق لدى الفريق السياسي الحاكم. و لكن كان اللجوء سريعا إلى الحل الأسهل و الأفشل و الأعظم تكلفة: الحل العسكري. كلف الجيش بحسم التمرد من القيادة السياسية التي لم تحسب الخسائر المزدوجة التي تعرض لها الجيش، ليست الخسائر البشرية و المادية فحسب، بل هنالك خسارة “نفسية” لم يتحسب لها أحد، إذ أصبح مألوفا لدى الجيش بعد ذلك، بل أصبح”عادة” أدمنها، أن يتم تكليفه بحسم أي احتجاج شعبي على السلطة القائمة بالبندقية وحدها!!!..

الخسارة النفسية/التربوية الأخرى التي تعرض لها الجيش تمثلت في “تكليفه” من قبل القيادة السياسية بالاستيلاء على السلطة بالبندقية. و كما إن “قابيل” يبقى شريكا في كل جريمة قتل وقعت بعده، كذلك يبقى رئيس الوزراء الراحل ” عبدالله خليل” الذي أصدر أمره لقائد الجيش بالاستيلاء على السلطة، يبقى شريكا في كل انقلاب عسكري حدث في السودان بعد ذلك.

يتبع: (حين ولدت الأمة ربتها).

سكاي سودان

‫5 تعليقات

  1. أما أعظم وجوه فشل تلك النخبة فتمثل في عجزها الكامل عن مخاطبة أمهات قضايا مجتمع متنوع متعدد الأعراق و الثقافات و الديانات، مكبل بالأمية و الفقر، إذ لم يتوفر أحد من النخبة التي حكمت البلاد غداة الاستقلال على دراسة المجتمعات و الشعوب الخاضعة لحكمها، و بحث سبل توحيدها على توجه وطني جامع يستثمر تنوع أعراقها و ثقافاتها و بيئاتها، بل ركنت النخبة، عوضا عن ذلك، إلى تبني الثقافة الطائفية الاستعلائية، خصوصا في شأن شعوب الجنوب السوداني، التي جوبهت مطالبها بتمثيل عادل في البرلمان و الجهاز التنفيذي بكثير من العجرفة التي كانت تستبطن الرؤية الطائفية لتلك الشعوب باعتبارها مجموعات من السوائم”الكافرة” الجاهلة، التي يمكن الإفادة منها فقط في استثمار جهلها.

    اين وضع الاستاذ محمود محمد طه في هذا التحليل إ

  2. هذا تحليل رائع. الي الأمام، وقد يكون من المناسب التطرق لأصل انحراف الجيش إلي مؤسسة مرتبطة بمصالح الرأسمالية الطفيلية وانشغالها بعمل استثمارات مشبوهة ومنغمسة في أعمال لا علاقة لها بعقيدة حماية الوطن.
    تسلم

  3. علي ياسين صحفي،محلل سياسي صاحب فكر ثاقب،ودونكم هذا المقال الذي كشف عمالة الانصار والختميه للمستعمر ودورهم في دمار السودان عن طريق تغبيش الوعي، ومحاربة الفكر حتي يدوم سلطانهم عن طريق الولاء الاعمي لهم من اهلنا البسطاء..

    …ولن تقوم لبلادنا قائمة الا بعد القضاء علي التبعية العمياء لبيت المهدي والميرغني .واضف عليهم هوس حسن الترابي ولا اسميه فكرا..
    …شكرا استاذ علي ياسين .واصل معنا ونحن في انتظار المزيد ..

  4. شكرا ياسيد علي
    يعني المصيبة كلها من الاتحادي والأمة
    طيب الحل شنو وقد تذوق العسكر حلاوة السلطة
    فكيف الفطام … ؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..