فقه الأولويات..!!

مقولة: “عجبا لكم تسفكون دم الحسين، ثم تسألون عن دم البعوضه هل ينجس الانسان.” تأكد على قفز البعض في سلم ما يترتب من أولوية مما يدل على تنطع لا يقدم ولكن يؤخر. فإذا حاولت مثلا الصعود في سلم للدرجة الأخيرة دون المرور بالعتبة الأولى والثانية والثالثة، فيمكن أن يكلفك هذا التخطي والعجلة كسر رجلك، ثم لا تستطيع التحرك بعد ذلك ولا درجة واحدة. أو كما الطالب الذي يفشل في سنة دراسية و لم يستطيع تجاوزها بنجاح ولكنه يصر على عدم الإعادة حتى يحسن مستواه ليذهب للمرحلة التي بعدها بنجاح. فإذا إستمر سنة تلو الأخرى بنفس نهج التجاوز فبالتأكيد سيتخرج بجدارة ويكون فاشلا بشهادة.

ولهذا فإن الأولى فالأولى تقود للتقدم و النجاح في كل المستويات، سواء كان في المستوى الفردي أو المجتمعي. وعليه فإن ترتيب الأولويات يساعدك على التركيز في تعيين الوسائل والآليات المناسبة لتحقيق التقدم الفعلي لحل و تجاوز نقاط الفشل والنجاح خطوة بخطوة.
ومن هنا يمكن أن نعي أهمية معرفة الأولوية الأولى، وما معوقاتها بحيث نشرع في التركيزلحلحلتها وتجاوزها. ومن المهم هنا أن لا نلتفت لما غيرها بعدم السماح للأحداث ومجريات الأمور وتسارعها بأن تتختطفنا و تبعد تركيزنا وتشتت إنتباهنا عنها. فقد يمكن بهذا التشتيت نسيان الأولوية وقد يضيع الطريق السير للهدف الأسمى بالمشكلات الفرعية الوقتية والتي تخرج بنا عن المسار الحقيقي. وهو ما يؤدي أيضا لتضييع الجهود وهدر الطاقات في ما لا طائل من ورائه، و في نهاية الأمر نجد أننا نراوح مكاننا ما دام الأولوية الأولى لم تنجز.

والأوليات يمكن تقسيمها لأولويات دينية، و وطنية، ومجتمعية، وفردية وغيرها.
ففي الأولويات الدينية مثلا الحرية قبل الإختيار، والنية والإخلاص على الإيمان، والإيمان على بر الوالدين، وبر الوالدين على كل عمل آخر، وجهاد النفس على الجهاد، والفرض على النافلة، وفرض العين على الكفاية، والعلم قبل العمل، والكيف على الكم، والإجتهاد على التقليد، والعمل الدائم القليل على الكثير المنقطع، وعمل القلب على عمل الجوارح وترك الكبائر قبل الصغائر، والعمل في سبيل الدعوة بدلا من العمل في سبيل دولة.
فالإسلام دين و دعوة وليس دين و دولة. فالدول تداول بين الناس، والدول تتغير وتنتهي، ولكن الدعوة إلى يوم الدين. والدولة ليست شرطا في إنتشار الدعوة.
فقد مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة عشر عاما في مكة المكرمة يدعو لتوحيد الله وعدم الإشراك به. وبعد الهجرة، في المدينة المنورة، تنزلت التشريعات من ترسيخ لعقيدة وعبادات بأساس متين لدعوة تعم كل الأرض ولا تحد بحدود دولة. فكما قال سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب: ” عندما اجوب الصحراء بالليل أدرك ان الله أكبر من أن يوضع بين أربعة جدران”. وهكذا عندما نرى العالم والبلدان ندرك أن الإسلام أكبر من أن يحبس في أناس بعينهم ودولة وأركان.

وإذا كانت الدعوة في عصرنا تنتشر في كل الدول، حتى التي غالبية قاطنيها ليسوا مسلمين أو دول كفر أو إلحاد أو علمانية، كما يسميها البعض وهم يستمتعون بحقوقهم الإنسانية كاملة، وفي ظل سنهم لقوانين حقوق الإنسان والحرية للجميع، أليس من الأولى لهؤلاء هنا الجهاد بقوة والسعي الحثيث في تعزيز هذه القيم من الحرية والإنسانية وحقوق الإنسان لتعم كل الدول للتمكن الدعوة في كل أرجاء العالم بأريحية وحرية.
فما الفائدة من قيام دولة لا يستفيد منها أحد في شئ في عصرنا هذا. بل هذه الفكرة أثبتت فشلها بالتجربة والبيان بالعمل وفي عدة دول أنها تمزق الأوطان وتشرذم الناس (الذين خلقهم الله شعوبا وقبائل ليتعارفوا) وتقسم المجتمعات لطوائف وتفرق الشعوب فيكثر الجدال و يعم عدم إحترام الآخر وتقبل إختلافه، فتتناحر الملل ويحل سفك دماء الناس وتحدث الفرقة والتشرد وعدم الإستقرار والأمان.

فلذلك ألم يأن للعلماء والفقهاء أن يعوا هذا وملاحظته في عدم التقدم والتخبط والإرتداد للوراء والسقوط مرارا من الفشل.

ويترتب في الأولويات مراعاة النظر في أساسيات الإحتياجات الإنسانية النفسانية. فبحسب هرم ماسلو الشهير فإن الأولويات الإنسانية تبدأ بالإحتياجات الفيزولوجية (كالشراب والطعام)، ثم حاجات الأمان (كالأمن، والسلامة الجسدية-الصحة-، والأمان الوظيفي)، الحاجات الإجتماعية (كالصداقة، العلاقات الأسرية)، الحاجات التقديرية (كالثقة، إحترام الذات وبالتالي إحترام الآخرين)، ثم حاجات تقدير الذات (كالإبداع والإبتكار). فإذا لم تتحقق قاعدة الهرم الأولى فكيف لنا القفز إلى المراحل المختلفة.
ولهذا رأينا عبقرية الفاروق عمر رضي الله عنه حين أوقف حد السرقة في عام الرمادة وجمع الناس لصلاة التراويح بتحري الأولويات لتحقيق الفائدة للمجتمع.

فنحن أحوج ما نكون إلى مراجعة أولوياتنا و بوضوح الرؤية المستقبلية التى نسعى إلى تحقيقها والتي تغيب أحيانا كثيرة، وفي أفضل المواقف تبدو وكانها يحيط بها ضباب كثيف يشوه ملمحها وبالتالى نندفع نحو الاهتمام بأهداف أخرى، وكأنها غاية المنتهى.
فمثلا من العبط والغباء ان نتحدث مثلا عن الفساد المتطبع عليه والمتنامي بل نحلل ونسأل انفسنا متى ينتهي ونستغرب لماذا؟ ونحن ندري المصدر و أنه لن ينتهي. فإذا عرف السبب بطل العجب. ونرجو صلاح الحال والهداية ونعلم ان الله لا يصلح عمل المفسدين كما لا يهدي كيد الخائنين.
فالحديث عن الإصلاح في بناء أساسه فاسد ورجاء صلاح حالنا ممن يقودوننا أساسا وهم أتو بالباطل أصلا، وأسسوا بناينهم على ذلك، كالذي يريد بناء طوابق في بناية أساسها خاطئ ومنخور ومن ثم تريد تأسيس ما بنيت بالأثاث وتطليه ليبدوا جميلا. ولكنه في النهاية حتما سيخر السقف من فوقه.

فعلى المستوى الفردي يجب أن يقدم كل واحد منا فقه الأولويات و واجبه تجاه نفسه وغيره. فكما يقول الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لربك عليك حقّـا، ولنفسك عليك حقّـا، ولأهلك عليك حقّـا، فأعطِ كل ذي حق حقّه). ولا يجب أن تعمينا الأنانية والظروف فيحل عدم النبل وإنفلات الأخلاق وإهدار القيم وفقدان المرؤة وإنتفاء الإيثار وموت التضحية، محل أولوية حب لأخيك ما تحب لنفسك، وليس منا من بات شبعان وجاره جعان، ومن غشنا فليس منا،… والواجب تجاه أهله و وطنه ومجتمعه. فظروف غالبيتنا مأساوية ويعاني الكثير مناعدم الإستقرار والتشرد والغربة من الأهل والعطالة وهجرة الوطن والجوع والفقر والمرض والجهل. فجزء كبير من هذا بسبب عدم التكاتف الجماعي وعدم وضع الوطن كأولوية. فيمكن بتكاتف الجميع ووضع الوطن كأولوية ايمكن إزالة كثير من المعوقات ولتبدل حال الكثير.

ففي الأولوية الوطنية، تأتي الأولوية السياسية قبل الإقتصادية، والأولوية الإقتصادية قبل الإجتماعية. فإذا كان هناك فساد سياسي حتما سيؤدي ذلك إلى فساد إقتصادي وفساد مجتمعي. فالأولوية إذن للإصلاح السياسي. ولابد إذن من العمل السياسي الفاعل سيما إذا كان حال الوطن السياسي خرب. فلا يقول أحد لا أريد أن أتدخل في السياسة وهو يظن أن ينصلح حال بلده من دون تغيير في السياسية الفاسدة وأس البلاء.

فقه الأولويات يرشدنا لأساسيات التغيير الصحيح والمستدام. و أما تسويف الأولوية والإنتظار هو ما يدعو لإيستلاد الفشل تلو الفشل مما يؤدي للجنون. أو كما قال إنشتاين: “الجنون هو أن تعيد فعل الشئ عدة مرات، و بنفس الطريقة، وفي كل مرة تتوقع نتيجة مختلفة.”

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..