فِي ذّاكِـرَةِ العُـْتـمَـةِ ..

(1)
قال الرّاوي:
كلفني الغيمُ بأن أحكي قصة عصفورين، وأن اُخرِج من عُتمة ذاكرة النهر تفاصيل ألفتهما وتواددهما. لم يشهد سوى النهر ما بينهما، ولقد ساررني موجُهُ بما وقع، وأثار شجني وأنا الشاهد البعيد الجالس على الشطّ.. أنتظر قافية تستنطق لساني، و”عكاظ” توشك أن تنفضّ. .
(2)
قالتْ “سُليمى بنت الخُزامَى” :
ترى هل كان يتوقع أن أتذكرهُ أم لا . . ؟ لستُ أدري . .
صَحوْتُ من نومي فوجدته مُمدّدأ في السرير معي، مُستغرقاً في النوم فخلتُ أنني لابدّ أعرفه. ملامحه ليست غريبة عليّ، بل أكاد أجزم أني أعرفه منذ مدة ليست بالقصيرة. يقلقني السؤال: ماذا يفعل في غرفتي، ولماذا ينام في سريري..؟
لا يفعل ذلك إلا من كان قريناً لي. أهو زوجي إذاً…؟ كنتُ في مباذلي بملابسي الخفيفة، ولم يكن شعري مرتباً، والشمس خجلى تتلصّص ولم ترسل شعاعها بعد، عبر ستائر غرفتي المُشرعة. لعله الغريب الذي قابلني أمس وخرجت معه إلى السوق، وساعدني في شراء بعض حاجياتي. أتذكّر أنّهُ سدّد عنّي فاتورة الحاجيات ولم أقل له شيئا. لم أوقفه ولم احتج، بل أذعنتُ لمبادرته في المساعدة.. لم أسأله. كان أمراً طبيعياً جدّا. .
مَن هو إذن. .؟
أليس هو “الأكمل” الذي قابلته أمس بعد فترة غيابٍ طويلة. .؟ كنتُ أعرفه وحين سافر إلى مهجرٍ بعيد، ولم ألتقِ به منذ متى.. كم يا ربي؟ عشرة أعوام. .؟ عشرين عاماً. .؟ ثلاثين عاماً.. ؟ ضاع من ذاكرتي، وأنا استفتحُ عُتمتي وأغرقُ في أحلامي..
هل أوقظ هذا النائم في سريري وأسأله مَن أنت؟
لا . لا. ليس قريني. هذا غريب لا أعرف ملامحه. .
إن استيقظ، هل سيتعرف إليّ. .؟
هل أنا أعرفه. .؟
كلّ ما حولي يحدّث أنهُ يعرفني وأنّي أعرفهُ. المفارشُ الوردية. الستائرُ الذهبية. السجادُ الشيرازي. بللور النوافذ الملوّن. المرايا في عمق الأنتريه. لوحة البنفسج في البهو. ولكن. . ما اسمه هذا الذي يحتلّ نصف سريري. .؟
أليس هو “الأكمل” الذي غاب عنّي تلك السنوات الطويلة ثم رأيته البارحة، وقد صار عجوزاً تجعّدت ملامحه، وشاب شعر رأسه، وأوشك ظهره أن ينحني. .؟
لولا أنه نطق إسمي واقترب منّي، وألقى عليّ تحيته التي أعرفها، لما تذكرته. .
ولكن لا يبرح السؤال خاطري: من هذا الذي يقاسمني فراشي. .؟
في العُتمة تتساوى الأشياء: اللامعُ من اللون والمنطفيء، الأطول مثل الأقصر، المرمر مثل الماء الذي مشتْ عليه الملكة بلقيس إلى سليمان. هل تلبستني العُتمة، أم ان منامي استنشأ أحلاماً في أقاصي الليل. .؟ أتملّى في مرآتي: هل هذا جسدي، أم جسد امرأة لا أعرفها . .؟
من يدلّني على تقاطيع وجهي، فقد غدوتُ امرأة بلا قناع وبلا وجه. في أحلامي، تتقد عاطفتي فأمضي في ولهي، متيّمة بحبيبٍ أراه طيفاً وأنا مغمضة العينين. لا أستبين تقاطيع وجهه، فهو مُلثم. لا صوت يصدر منه، لكنه يلامس بدني، يمسك بي ويستجيب جسدي له. تنتفض أطرافي كلها. أمدّ يدي فلا أجد إلا فراغاً لا حدود له. أريد أن أتحسّس بدنه، لكن لا أمسك إلا لزوجة العتمة في انطفاء الزمان وتداعي المكان. كأنّي أسبح في خواء لا نهاية له، وحبيبي يتمدّد من حولي، كأنّه العتمة ذاتها. كأنه ظلمة الجسد تتفتح من حولي، وتقيّد أطرافي إليها..
تناهى إليّ صوتٌ من عُتمة الخواء الذي لفّ جسدي فكنتُ العجينة الطيّعة، تتمازج مع بدن حبيبي، وقد استولى على العُتمة التي خرجتْ لزوجتها من بدنه. العُتمة من صنع بدنه، من ابتكار يديه، يحتويني فلا أدرك أينَ أنا، إذ صرتُ كالوردة في تفتّح بتلاتها. .
رنّ هاتفي يعلن وصول رسالة نصيّة عاجلة:
– حبيبتي .. كأنّي التقيتك في بغداد في عصرٍ عباسي قديم. .!
في بغداد. .؟ وهل أنا في الحقيقة حبيبته. .؟
ماذا يريد منّي رجل العُتمة هذا، فأنا لا أعرفه ولا أعرف من أين جاء لينام في فراشي، ويغفو كأنّهُ في بيته، راقداً على سريري.. بل كأنّ غرفتي هي بدنهُ ونوافذها هي عيناهُ، وستائر نوافذها هي أطرافهُ المتماوجة مِن حولي؟
لا اسم له. لا رقم لجواله عندي. لا عنوان له غير عنوان بيتي. أنظر إليه فأتذكر قصصاً طريفة سمعتها منه. ولكن ما اسمه. .؟ هو ليس “الأكمل” قطعاً. هو رجل العُتمة يمشي بلا اسم. بلا عنوان. . وخارج حدود الأبدان، ولا أتبيّنه إلا في حلم يستغرق ذاكرتي كلّ يوم .
(3)
قال الرّاوي:
في ليل بغداد السّاحر التقى “الأكمل بن هزيل” بحبيبته “سُليمى بنت الخُزامى”، بعيداً عن عيون الحاسدين والفضوليين والوشاة والنمّامين. جاءته تتهادى إلى الخباء الذي درجا على الالتقاء عنده. أمسك كفّها وقرأ اسمه منقوشاً على باطنها، كأنه نقشُ الصائغ على صفحات الذهب، فهمس إليها:
– حبيبتي..
جاءها صوتُه ينتشلها من حلمٍ استغرق ليلها كله. عليها رداء لا يكاد يخفي جسدها الفتان ولا خصرها الناحل. يطفر نهداها من وراء غلالة تغطى نصفها الأعلى، كأنه نصيف المتجرّدة، وتكاد حلمتاها أن تخترقا قماش غلالتها في انتصابهما الشهيّ. سروال الجينز الأزرق اللاصق يلفّ فخذين ممتلئين عافية وجمالا. .
مدّت يديها إليه، تتحسّس بدنه وقد اتسعتْ أطرافه، فصار هو الليل في عتمة تشمل خِباءَهما. جاءها صوتهُ يناديها قبيل أن تتبيّن بدنه في غابة العُتمة. لقد رآها في بلاط الخليفة، بين حِسان الحفل والشِعر يُنشد ويُغنّى، والموسيقى تلفّ جراحات العشاق بغلالاتٍ من مشاعرٍ حميمة. تلاقتْ عيناهما فاستسلم لمرآها، وكأنّ وحياً تطلّبه أن يفعل، فانثنى إليها مُغرما. لم يلحظ أحدٌ في بلاط الخليفة أن “سُليمى بنت الخزامى” قد تولّهت بشاعر البلاط، وملكتْ ليله ونهاره فألبسها عقد قوافيه .
وقفا على النهر، والغيم مهرجان باذخٌ في سماءٍ زرقتها داكنة، والشمسُ ذهبتْ طائعة إلى منافيها القَصيّة، ثمّ أنشدها شاعرها من قصائده ما تنزّل إليه بأمرِ قلبه، فيما الشجر الكثيف يتراقص حولهما مُعجبا . الكونُ يسري على أحواله، سريان النهر على مَجراه. القوارب تتهادى على موجِ النهر في حنوٍّ حالمٍ، والرذاذ يَتردّد في نواله، والغيثُ في كبدِ السّحاب أوقف هطولَهُ، إذ قد تبتلّ ثيابُ “سُليمى”، وقد تضطرب القواربُ في تهاديها، وقلب “الأكمل” قد لا يثبت على خفقانه في اللحظة التي رأى فيها مجد عينيها، وقد أشرقت شمس قلبه، وزاد البنفسج ألقا.
قالت لهما السماءُ كمثلِ قول ملاكٍ هبط من بين أفق الغمام: تحاببا .. هزّا إليكما بجزع النخل قبالة “الفرات”، يسّاقط عليكما ثمرُ الغرام رطباً جنياً، فاقطفا ما شاء لكما القطف، ولكن لا تقربا تلك الشجرة الرابضة في قلب الشمس، وإلا انخسفت بكما العُتمة. . !
(4)
قالت “سُليمى بنت الخزامى” :
رأيتهُ من قبل في شاطيء “الفرات” . لا أعرف كيف ثبتتْ ملامحه في ذاكرتي، وأنا لم ألتقِ به منذ عقود طويلة، إلا ربّما في حلم العُتمة، حيث تختلط الوجوه وتتماثل الأقنعة، فلا أستبين “الأكمل” الذي رأيته في فراشي. من “الأكمل بن هزيل”، والجائلون من حولي كثرٌ يتودّدون بلا طائل. . ؟
رأيتهُ مثلما يرى القاريء شخصاً يتجوّل في رواية خيالية. لا أعرف كيف تمدّدت العُتمة بلزوجتها، فكانت حجاباً أخفى عنّي عاشقاً لي، غاب دهوراً عن نظري فما تبيّنه قلبي.
بعثتُ إليه برسالةٍ من هاتفي الجوّال:
– أعرف أنّي التقيتُ بك هناك . لا تسلني عن اسم المكان، فتلك عُتمة لا بداية لها ولا نهاية. لا تدّعي أنك عاشقي القديم، جاء إليّ من جغرافيا لا أعرف خرائطها، ولا أعرف كيف أقرأ أسماء مدنها وحواريها.
أرسل من هاتفه الجوّال يقول لي:
– أنا حبيبك. .!
طبعتُ ردّي على عجلٍ ولهفة:
– لا . لا تدّعي أنك عاشقي وحبيبي، فأنا عصفورة العتمة الحائرة، تحلق بلا أجنحة . .
ردّ عليّ برسالة نصيّة أخرى، حطتْ على هاتفي الجوّال بحروفٍ مُرتجفة:
– ألا ترين كيف أنا أحجل في كئابتي بلا أجنحة، مثلك تماماً. . ؟
خفق قلبي بغتةً وتنفّس حنوّ أمومة ضائعة، سقطتْ من ذاكرة العُتمة. .
(5)
قال “الأكملُ بن هُزيل” :
حين ناديتها حبيبتي، وقفتْ أمامي مُحتجّة وخاطبتني بغضبٍ لا تخطؤه أذن ولا عين :
– أنتَ أكذوبة في حلم العُتمة . أنت لا تعرفني فلا تُخادع نظري ولا تسحرني بكلامك. لا تنظر خلفك وإلا مَسَخك “الأكملُ” قريني، صَنماً مِن ملحٍ، ثمّ لا تلبثَ أن تتلاشى. .
– تمعّني قليلاً . . إنّي أنا “الأكمل” يا “بنت الخُزامى” . . !
– يا لك من مُنافقٍ كاذب!
– يا “بنت الخزامى ألم نكن معاً عند شطّ “الفرات” وأسمعنا نجوانا عصافير الجنة وبلابل الدّوح، وأشهدناها، عصفوراً في إثر عصفور، أنّا زوجان زفتنا أفواجُ الطير وفارقنا العُتمة واحتفى بنا بدرُ السماء . . . ؟
(6)
قالت “سُليمى بنت الخزامى”:
تفرّستُ في ملامحه ، وأمسكتُ يديهِ وتفحّصتُ كفيه ، فوجدتُ نقشاً لم أتبيّنه في لحظتي الأولى.
ثم مدّ يديه إلى يديّ فرأى نقشاً، ثمّ تفحّصَ ملامح وجهي، وقال لي:
– يا “بنت الخزامى” انظري اسمي منقوشاً بالحنّاء على باطن كفك. . !
أخذتني الدهشة فقلتُ له :
– هذا نقشٌ كالسّحرِ وكالألغاز. . هل تقرأ عنّي سرّ النقش على كفّي. .؟
– هذا حرفٌ الألف وهنا حرفُ ِ الكاف وحرف الميم، وهنالك حرفُ اللامِ و. .
صحتُ به والذهول بلغ بي مبلغاً، زايلني معهُ اضطرابٌ وزعزعة:
– هذا اسم “الأكمل” إذاً، منقوشة أحرفه بلا تنسيق على باطن كفي. . !
– أنا “الأكمل”. . حبيبك يا “بنت الخزامى”. .
هتفتُ بهِ :
– وكيفَ جئتَ إليّ الآن وقد ألِـفَـتْ روحي عُتمتي، وإذ فارقتك قبل عقود، وقالوا لي: إنّ مهجرك أضاعك عني، فمَا الذي دفع بقواربك إلى أمواجي الصاخبة !
قال لها:
– إنّ العُتمة داري. . أقداري أبقتني فيها. .
إنّ العُتمة ناري، فجئتُ لأحترق في أتونها . .
أحسستُ بصدقِ كلامه، ثمّ رقصَ قلبي فرحاً وهمَستُ إليه:
– حبيبي.. مَن جاءَ إلى دارِ عُتمتي فهوَ آمِن..
مَن جاءَ إلى نارِ عُتمتي فهوَ آمِن..
(7)
قال الرّاوي:
طارَ فوق “الفرات” عصفورٌ وتبعته عصفورة، وحلّقا فرحين ، يُنشدان غناءاً بديعاً ويهزجان بصوتٍ واحد وبخفقٍ واحد. صفق الموجُ على ايقاع شـدوهما، وتوهّجتْ السماءُ بقوسِ قزحٍ بين بروق الرعدِ، وسمعتُ غيمةً تهمسَ على استحياء:
أنا سأبارك اتحادهما وتآلفهما، وسأغسل جسديهما برذاذي. .
[email][email protected][/email] الخرطوم ? 15 أكتوبر 2014

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..