الإسلام السياسي السوداني بين الإبداع والإخفاق (1-7)اا

رأي

الإسلام السياسي السوداني بين الإبداع والإخفاق (1-7)

خليفة السمري – المحامي

لم يحدث في التاريخ الإسلامي أن أعلن حاكم دولة مسلمة – خلا أتاتورك – فصل الدين عن السياسة ،فقد ظل مبدأ شمولية الدين للسياسية مقرراً ومتبنى على الصعيد النظري ومنتصراً له على الصعيد الدوغمائي حتى وإن غاب عن الممارسة الفعلية ، وإذا تأملنا التاريخ الفكري الإسلامي وأمعنا النظر في كتب التراث في كافة عصور الدولة الإسلامية فإننا نخرج بنتيجة مؤداها أن الكتابات التنظيرية الفكرية والفقهية في باب الحكم والسياسة تكاد تكون في حكم النادر إذا ما قورنت بالموسوعات الضخام التي دونها فقهاء الإسلام في أبواب العبادات والمعاملات والقضاء ،فقد ظل التنظير السياسي يعاني الشح والنضوب وكان لذلك أثره السلبي على الأمة الإسلامية في ماضيها وحاضرها ، فالمتأمل في الإنتاج الفكري الإسلامي عموماً يلحظ إبداعاً في شتى فنون التأليف خاصة الفقه الإسلامي الذي كان له القدح المعلى والحظ الأوفر من الاهتمام ، فقد أبدع فقهاء الإسلام في أبواب فقه المعاملات والعبادات والأنكحة والقضاء أيما إبداع واهتموا بالنوازل والمستجدات فقعدوا القواعد الفقهية وفرعوا عليها المسائل حتى أنهم تجاوزوا بالفروض واقع عصرهم وزمانهم وحسب المرء أن يلقي نظرة عابرة في أي كتابٍ فقهيٍ أو أصوليٍ من كتب المذاهب الإسلامية المعروفة لتنتابه دهشة يعقبها بلا شك كثيرٌ من الإعجاب والافتتان ،فأنت إذا تأملت كتاباً مثل موافقات الإمام الشاطبي – وهو كتاب في علم الأصول – فإنك لا محالة ستعجب لمنهجية المقاصد التي خطها صاحبه فيه وكيف أنه وفق للربط بينها في سماط تقعيدي يدل على عقلية فكرية فذة قلَّ أن يجود الزمان بمثلها ،وقل مثل ذلك عن مستصفى الإمام الغزالي الذي جاءت مقدماته ملخصةً للمنطق اليوناني «منطق أرسطو» بأسلوب ومنهجية قد يعجز عن إبداع مثلها من توافرت لهم أدوات البحث العلمي الحديث ،وقس على ذلك فنون الفقه واللغة والأدب والتاريخ والتراجم ..إلخ.
ومع كل هذا الإبداع في الفنون السابق ذكرها إلا أنك إن أدرت ناظريك تجاه التنظير السياسي في كتب التراث فإنك بلا شك ستصاب بخيبة أمل كتلك التي أصابت الشيخ علي عبد الرازق حين ولج هذه المغارة ينقب فيها عن آثارٍ ظن أنها توارت عن ناظريه بين كثيف الظلام والإعتام ، فمكث أعواماً عديدة ينقب ويسلط عليها الضوء يحفزه إلى ذلك قلق العلماء ويحدوه شوق العارف إلى البحث عن مزيد من المعرفة ، إلا أنه عند ظفره بحقيقة موضوع بحثه خاب أمله وطفق يردد قول المتنبي : طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ هربت منه بآمالي إلى الكذب، قال الشيخ علي عبد الرازق في مقدمة كتابه أصول الحكم « وليت القضاء بمحاكم مصر الشرعية منذ ثلاث مائة وألف هجرية «1915م» فحفزني ذلك إلى البحث عن تاريخ القضاء الشرعي، والقضاء بجميع أنواعه فرعٌ من فروع الحكومة وتاريخه يتصل بتاريخها اتصالاً كبيراً وكذلك القضاء الشرعي ركن من أركان الحكومة فلا بد لمن يدرس تاريخ ذلك القضاء أن يبدأ بدراسة ركنه الأول ،أعني الحكومة في الإسلام ،وأساس كل حكم في الإسلام هو الخلافة والإمامة العظمى – على ما يقولون – فكان لا بد من بحثها ،شرعت في بحث ذلك كله منذ بضع سنين ،ولا أزال بعد عند مراحل البحث الأولى ، ولم أظفر بعد الجهد إلا بهذه الورقات ،أقدمها على استحياء ،إلى من يعنيهم ذلك الموضوع»أ.هـ كلام الشيخ علي عبد الرازق.
والحق يقال إن كتب التراث الإسلامي تعاني شحاً ظاهراً في باب التنظير السياسي ،ونضباً واضحاً لا يخفى على عيان أي باحث فقد ظل باب الحكم أو ما يسميه السلف «السياسة الشرعية» ، ضامراً ومنحصراً في مؤلفات قليلة تكاد تكون متشابهة ومتطابقة ،ولا تعدو أن تكون تقعيداً للأمر الواقع هذا إن لم يكن فيها كثيرٌ من التبرير للحاكم ،ومن أشهر المؤلفات التي كتبت في هذا الباب الأحكام السلطانية للماوردي،والأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء والسياسة الشرعية لأحمد بن تيمية الحراني ،هذا إلى جانب بعض مؤلفات يحاول البعض تصنيفها في باب السياسة الشرعية مثل كتاب «الخراج» لأبي يوسف صاحب أبو حنيفة مع أن تصنيفه في فن المال والاقتصاد أجدر،و «سراج الملوك» للطرطوشي « الذي هو إلى الوعظ والإرشاد أقرب، ومما يثير العجب في هذا الباب أن مقدمة ابن خلدون على رغم إبداعها في تحليل التاريخ واستخلاص قوانين طبيعية منه إلا أنها خلت من أي تنظير سياسي سوى باب واحد يتطرق للملك ولمراحل تدهور الدولة وهذا الباب الذي كتبه ابن خلدون في هذا الصدد لا يعدو أن يكون ملاحظات على التاريخ استنبط من خلالها قوانين تاريخية يقول إنها حتمية لا بد أن تمر من خلالها أية دولة أو نظام سياسي من مرحلة ميلاده إلى مرحلة موته وفنائه.
والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام، هو، ما هي الأسباب التي أدت إلى ضمور الإبداع والابتكار وقلة التأليف عند السلف في باب السياسة الشرعية على أهميته ومساسه المباشر لحياة الناس ومعاشهم، ولماذا لم يظهر بينهم تنظير مثل ذلك الذي ساد عصر التنوير أو عصر الأنوار في أوربا ؟.
الرأي عندي، بما يشبه اليقين ،أن الحجر الفكري الذي مارسه الساسة والسلاطين على العلماء والفقهاء كان له أثره في تقوقع الإبداع والتنظير في الفكر السياسي الإسلامي جميعا، فالملاحظ أن الكتابات التي أنجزت في هذا الباب كانت رتيبة ومتشابهة ،ومضمونها جميعها يتفق على أمرٍ واحد وهو تقعيد الأمر الواقع لغرض تبرير مشروعية السلطان ،وللأسف حتى تهويمات المدن الفاضلة الإسلامية لم تخلو من مثل هذا الأمر ،فأنت إذا نظرت في مدينة الفارابي الفاضلة لا تجدها تخلو من تبجيل للحاكم المطلق السلطات، والذي يجب في نظر الفارابي أن يكون حكيماً ، مع أن الحكمة والدكتاتورية أمران قل أن يجتمعان ،فضلاً عن أن مشروع مدينته الفاضلة لا يعدو أن يكون نقلاً من أفلاطون مع حسن تصرف، وابن رشد على الرغم من أنه لخص كتب أرسطو وهو فيلسوف الإسلام المشائي الأول الذي اتخذه الغرب وسيلة وصل بينه وبين الفلسفة الإغريقية ، مع كل ذلك فإنه لم يبدع في مجال التنظير السياسي ما يمكن أن يرقى إلى المؤمل من طاقة جبارة مثله. (يتبع)

الصحافة

تعليق واحد

  1. السلام عليكم

    اعجبني المقال ايما اعجاب واحب ان ارد علي جزء بسيط منه وهو فيما يتعلق بسوءالك عن الاسباب التي ادت الي ضمور الابداع والابتكار وقلة التاليف واقول كيف لا يحدث ذلك ونحن في السودان و اغلب الدول العربية ينص الدستور علي انه من شروط الترشيح لرئاسة الجمهورية ان يكون فقط ملم بالقراء و الكتابة وليس هنالك اي شروط اخري لتكون رئيسا لدولة……..فهل هنللك من عجب ,,,,,

  2. اخى الكريم جزاك الله خيرا الموضوع مهم مافى شك انا كشباب مسلمون نحتاج لمن يقوم بااستخراج الدرر الربانية فى علم السياسة وربطها با الواقع الحديث لكى يستطيع الواحد منا اخذ الفكرة السليمة بابسط طريقة وتطبيقها خاصة فى ظل التحديات الفكرية الراهنة

  3. أخي المبجل
    عند تأمل تاريخ الحكم الإسلامي نجد أن بدأ من تقديس مطلق للحاكم و المتمثل في شخص رسول الله صلى الله عليهو سلم ثم أتبع ذلك عهد الخلافة الراشدة ،و ه>ا الأمر ليس محل إعتراض البتة و لكن الواقع أنه ساهم مساهمة جليه إن لم يكن هو السبب الوحيد في نظرة الأمة للحاكم بعلمائها و عامتها و سيطرته على منهجية التعامل مع الحاكم حتىوجدنا الأمة تتقبل >لك و لا تعترض عليه كما في مقولة معاوية: «الأرض لله وأنا خليفة الله فما أخذتُ فلي وما تركته للناس فالفضل مني».
    يا أخي لعل لله حكمة لا نعلمها في ذلك و لكن الحقيقة أن كون رسول الله هو من كان يحكم الأمة و أن من تبعه من خيار الأمة و أفضلها بلا شك هو ما أصل لقبول الحاكم و تصرفاته و صرف نظر البحث و الدراسة لدى المتقدمين عن الخوض في هذا الموضوع ف

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..