في أم الدنيا… شيء ما يلوح في الأفق

يستعين مرسي بكل ما لديه في مواجهة المد الجارف الرافض له: العريفي؛ قضية سوريا؛ التخويف. فاته أن المصريين يدافعون عن قضيتهم بأجسادهم.
بقلم: ياسر سلطان
عند مسجد عمرو بن العاص وقف بائع الأعلام الصغير تحت شمس الظهيرة أمام صندوقه الورقي المُغطي بالأعلام وربطات الرأس الملونة. هو لا يبيع هنا غير أعلام مصر وسوريا. يأتي كل يوم جمعة ليكون في استقبال الأعداد الغفيرة من المصلين التي تتوافد على المسجد في كل صلاة جمعة.
غير بائع الأعلام، كان هناك عدد آخر من الباعة الجائلين ينتشرون عبر الشارع الرئيس المؤدي إلى المسجد الشهير، والذي يحمل رمزية خاصة لدى المصريين، فهو الشاهد الوحيد الباقي على الفتح العربي لمصر، لا يشاركه في هذا الأمر سوى بوابة حصن بابليون، التي لا تبعد عنه سوى بضعة أمتار. قد يكون هذا هو السبب الذي جعل هذا المسجد أثيراً لدى العديد من دعاة التيار السلفي ذائعي الصيت، فهو يمثل لهم فألاً حسناً، إذ ربما تنطلق منه دعوتهم لهداية المصريين من جديد! على حد تفسير أحدهم. وربما كان هذا هو نفس السبب الذي من أجله إختاره الداعية السعودي محمد العريفي ليؤم فيه المصلين في صلاة الجمعة للمرة الثانية خلال عام واحد، وتبث خطبته على الهواء مباشرة على شاشة التليفزيون الرسمي، وهو ما لم يحدث من قبل، حيث كان الأمر حكراً على عمائم الأزهر وحدهم، وهو ما أثار العديد من علامات الإستفهام حول توقيت هذه الزيارة وأسبابها المعلنة، والغير معلنة، والتي تتضمن تأييداً مبطناً، وشداً من أزر نظام بدا مترنحاً وهو لم يكمل بعد عامه الأول.
ألا يكفيه كل هذا الدعم الذي يتلقاه من شيوخ التيار السلفي داخل مصر، فراح يستوردهم من الخارج؟ هكذا يتهكم البعض على زيارة الداعية السعودي، الذي أثارت خطبته جدلاً بعد مطالبته فيها بإعلان الجهاد ضد نظام بشار الأسد، وتحذيره الذي يشبه التهديد للمصريين من نفس مصير سوريا. لماذا لم يعلن هذه الدعوة إذاً من على أحد المنابر في بلاده؟ هكذا يتسائل البعض.. ويتمادى آخرون في تهكمهم بعد أن أشيع توجه الداعية الشهير إلى العاصمة البريطانية بعد ساعات من دعوته للجهاد. إنه يجاهد هناك على طريقته. هكذا علق أحدهم على الخبر ساخراً على موقع التواصل الإجتماعي فيسبوك. إنهم يدعوننا للموت، ثم يذهبون للإستمتاع بملاذ الحياة، هكذا علق آخر.
كان اليوم أكثر إزدحاماً وزخماً من غيره، فقد امتلأت ساحة المسجد عن آخرها وفاضت حوله عبر الشوارع المحيطة به. وما أن هبط الخطيب من على المنبر حتى تعالت الهتافات من كل جانب مناصرة للثورة السورية، ارتفعت في أرجاء المسجد أعلام المقاومة السورية، ورفعت كذلك عدد من اللافتات – نحن فدائك يا سوريا – نعم للرئيس محمد مرسي – نعم للشريعة – وعبارات أخرى كثيرة، رفعها المصلون وهم يهتفون من أجل سوريا! إستمر الهتاف في داخل المسجد وتواصل خارجه. قرب البوابة الرئيسية كان هناك مجموعة من الأشخاص يحملون صناديق خشبية ويدعون للتبرع من أجل سوريا، بينما انهمك آخرون في توزيع أوراق للتعريف بأحد الأحزاب الجديدة ذات التوجه السلفي. وكان هناك أشخاص آخرون ذوي سراويل قصيرة وأغطية للرأس يدعون الناس للتوقيع على أوراق حملة “تجرد” التي أطلقها بعض رموز التيار السلفي لمجابهة حملة “تمرد” التي بدا أنها سببت أرقاً للرئيس وجماعته بشكل لم يكن أصحابها أنفسهم يتوقعونه، خاصة بعد إنتشارها على نطاق واسع، وفي كل محافظات مصر.
كان بائع الأعلام الصغير قد أوشك على الانتهاء من بضاعته في الوقت الذي بدأت فيه أعداد المصلين في التراجع، وخفتت مع الوقت حتى توقفت أصوات الهتاف القادمة من داخل المسجد. كانت حركة السيارات والباصات القادمة من خارج القاهرة لا تتوقف حتى خلى منها الطريق الرئيس أمام المسجد تماماً.
في الطريق إلى وسط القاهرة كان هناك مجموعة من الشباب يروجون لحملة تمرد عبر توزيع الأوراق على أصحاب السيارات العابرة. أثار الأمر حفيظة أحد الركاب، والذي وصفهم بالمجانين تارة، والمخربين تارة أخرى، غير أن هجومه على أصحاب تمرد كان سبباً في إندلاع ملاسنة صارخة بين مستقلي سيارة الأجرة، بين مؤيد ومعارض لتلك الحملة. حسم السائق على أثرها الأمر بصوت جهوري لاعناً فيه الرئيس وجماعته، ولاعناً اليوم الذي تمكنوا فيه من الحكم.
عند مدخل الجسر المؤدي إلى حي الزمالك، كان هناك مجموعة أخرى من الشباب يدعون المواطنين إلى التوقيع على حملة تمرد. بضع خطوات عبر الشارع الذي يتخذ إسم شجرة الدر، هذه المرأة الأكثر دهاءً في التاريخ المصري. كانت الأجواء هادئة تماماً حتى الوصول إلى مقر وزارة الثقافة المصرية، رمز المؤسسة الثقافية الرسمية، حيث يتصاعد زخم من نوع آخر. فهنا يدافع المصريون عن ثقافتهم التي تجري محاولات لطمسها. يدافعون عنها بالدعاء والغناء والشعر والرقص والموسيقى. تتواصل الأمسيات ليلاً، ويلتحم صداها مع مشهد النهر العظيم. هنا جرت أحداث كثيرة. تعاقب حكام، وسالت دماء، وأسقطت ممالك. عبرت جيوش، وعربدت جحافل غزاة. لكن النهر ظل باقياً، يسري هادئاً كالدهر، كما كان منذ شق طريقه إلى هنا في سحيق الأزمان.
لن يستطيع الإخوان أو غيرهم أن يغيرو مسار النيل. هكذا قال أحد المشاركين في الإعتصام عند وزارة الثقافة. في هذا الإعتصام أسماء عدة، نأى كثير منها عن حظيرة المؤسسة الرسمية طوال سنوات، ولكن، ها هم يدافعون اليوم عنها بأجسادهم. فالمعركة اليوم لا تشبه سابقاتها، فالريح عاتية، والخطر داهم. يدافع المصريون اليوم عن ثقافتهم وسط أجواء تنذر بصدام محتوم يتم التجييش له والتجهيز من أجله خلال الأيام القادمة. يعلم الجميع أن شيئاً ما يلوح في الأفق، غير أن ملامحه ربما تستعصي على الإدراك في ظل هذا الفوران الذي يعم الشارع المصري. تهديدات التيارات السلفية. عنف الإخوان المتزايد وتوجسهم، والذي يترجم إلى فعاليات ومؤتمرات مفاجئة تحت شعارات بعينها، في محاولة أخيرة على ما يبدو لإستدرار تعاطف المصريين. القدس.. سوريا.. مياه النيل، كلها وسائل تم إستخدامها خلال الأيام القليلة الماضية. حتى الإتهامات الممجوجة بالتكفير والعداء للدين التي تعودوا على إطلاقها في وجه معارضيهم في أوقات مماثلة، لم تعد تُجدي اليوم على ما يبدو. وعلى قدر ضبابية المشهد الذي تتصدره صورة سوريالية ملأت أخيراً فضاء الإنترنت للرئيس الهارب من هتاف الجماهير الغاضبة، فهو ينبئ بأيام ثقال قادمة، قد تغير من حسابات الجميع.
ياسر سلطان
ميدل ايست أونلاين