بعد (الفنـا).. وفي ذات السنة..اا

بعد (الفنـا).. وفي ذات السنة!

رباح الصادق

تأخر التعداد السكاني الخامس للسكان والمساكن عامين إذ كان يفترض إجراؤه بنهاية 2006م فلم يجر إلا بأبريل 2008م، وتأخر تسليم نتيجته للرئاسة ومنها للمفوضية القومية للانتخابات حتى مايو 2009م بين متسائل ومتشكك.. أخيرا تم نشر نتائجه عبر مؤتمر فخيم قدمت فيه (32) ورقة وضعها أكثر من خمسين باحثا في الجهاز المركزي للإحصاء وخارجه، افتتح برقصات الفنون الشعبية، ودعيت لحضوره الولايات والمجتمع المدني والإعلام والأحزاب السياسية. واستغرق الفترة (18-21 يوليو 2011م). وقد حضرنا جانبا منه يغري بالتداول المبدئي.
الغرض من المؤتمر (تمليك بيانات التعداد لكل مستخدمي البيانات). ولسبب ما، وبعد ذهاب الجنوب، اتخذ المؤتمر الإنجليزية لغة! مستخدمو البيانات يشملون كافة قطاعات المجتمع السوداني وغالبهم – وبفضل (ثورة) التعليم العالي و(حيرة) التعليم العام- يتعاملون مع اللغة العربية (يالله الله) أما الإنجليزية فـ(شعراً ما عندهم ليهو رقبة) أي فوق طاقة التعامل الأريحي لديهم. وكثير من مقدمي الأوراق كذلك. كانت العروض الضوئية أعجمية وبعض المقدمين يعرضونها بالعربية وحسنا فعلوا، بينما آخرون يصرون على التقديم بلغة المؤتمر. بعضهم أجاد بينما الغالبية تعثّر ووقع. قال البروفيسور خليل مدني إن جهدا بذل في الأوراق لكنه ضاع في اللغة التي أحيانا غيرت من المعنى!
ولماذا الإنجليزية؟ هل لمزيد تشفير للمعلومات المشفرة أصلا بتقديمها في شكل إحصائي جاف وصعب الفهم على غير المختصين؟ أم أن ذلك اهتمام أكبر بالمجتمع الدولي؟
المطلوب الآن لإبداء حسن النية تجاه المجتمع السوداني ترجمة الأوراق للعربية وبطرق مبسطة تفيد متخذ القرار والمستخدم العادي الذي هو هدف المؤتمر المعلن.
الملاحظة الثانية البارزة والتي ركز عليها بعض الخبراء الوطنيين والعرب المستضافين من الأردن وفلسطين هو الأخطاء البالغة والتضارب الظاهر بين مخرجات وأرقام الأوراق.. قال أحدهم معلقا على جدول للخصوبة: هل هناك نساء في السودان عمرهن أقل من (15) سنة ولدن أكثر من (10) أطفال؟ كما أشاروا للفرق في حساب عمر الزواج وكانت تلك من محن التضارب القصوى إذ قالت ورقة إن متوسط عمر الزواج للذكور (21.6) عاما وللإناث (19.2) عاما. وقالت أخرى إن العمر للذكور هو (29)، وقالت ثالثة إنه للذكور (19) وللإناث (17)، وقال بروفيسور محمد عوض الكريم إن ذلك يدعو لكثير من الشك فقد كان عمر زواج الذكور بحسب إحصاء 1993م هو (29,3) سنة وهذا فرق شاسع ينبغي النظر إليه بحذر. نفس التضارب في حساب نسبة الإعاقة فهل هي (2,6%) أم هي (4.6%) وعلقت د. وداد إبراهيم خليل بأن نسبة الإعاقة في العالم نحو (10%) ومع ظروف الحرب لا يتوقع أن تكون النسبة في السودان اقل ولكن بسبب قلة الوعي للتبليغ عن الإعاقة وعدم إدراك معناها، وأشارت البروفيسور بلقيس بدري إلى مسح آخر أجرى مع الحذر في خطأ إدراك الناس لمفهوم الإعاقة ونتائجه أكثر دقة. وكان هناك لغط حول حساب نسبة الفقر، ونسب التشغيل والبطالة وطريقة حساب الإعانة الاقتصادية، وهكذا. علقت البروفيسور بلقيس بقولها: سآخذ الإحصاءات الواردة بحذر وأتشكك في البيانات، فحينما أجمع النسب الواردة في جداول الأوراق أجدها تزيد عن (100%) (أي خطأ حسابي). الشاهد.. كان هناك تضارب كبير في الأرقام واعترف كثير من مقدمي الأوراق تحت عين الفحص السريعة (لأن الأوراق لم توزع إلا داخل جلسات العمل مما قلل من فرصة فحصها وكشف الأخطاء) بخطأ مطبعي أو خطأ في الحساب، أو نقص في البيانات.. وهكذا، اتضح أن الجهاز المركزي للإحصاء الذي ينبغي أن يقوم على أسس حسابية دقيقة قام على (كوار) كما تفيد المقولة الشائعة: (حساب أم كوار؟) أي (تكويش وتكويم). قالت صديقة حكينا لها عن غابة الأرقام في المؤتمر: كل شيء في بلادنا يقوم على الحساب يفشل، فذهنية (الكوار) هي الشائعة!
ولا ننسى ذكر قول قائد المنصة في جلسة العمل الثامنة قامعا المتسائلين حول الأرقام العجيبة، قائلا: الحساب ولد! إذن علينا أن نحترم أرقام الإحصاء ولا نغالطها! ولم يكن ذلك العنف اللفظي الوحيد ضد المرأة في المؤتمر، فقد امتلأ ضجيجا حينما ذكرنا ضمن سياسات تمكين المرأة المطلوبة: مراجعة الإطار القانوني الذي يهين النساء مثل قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م وقانون النظام العام لولاية الخرطوم لسنة 1996م، ودللنا على ظلمه بقولنا إن الدستور يتيح للمرأة أن تصبح رئيسة للجمهورية، بينما يسلبها قانون الأحوال الشخصية للمسلمين حق حرية العمل والحركة والتنقل ويجعل عملها وسكناتها وسفرها قيد إذن الزوج وسماحه! وهذا مما بح به صوت النساء السودانيات مؤكدات أن الإسلام أقر أهليتهن الكاملة في التصرف في مالهن وفي معتقدهن وفي أنفسهن بقيود يصنعها الدين ويحرسنها فلا حارس عليهن. قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض). ولكنه (المشروع الحضاري) وأسوأ مخلفاته بعد زواله المرتقب. فالقاعة التي كانت تصفق لتعليقات الدكتور ناصر السيد – القيادي بالحزب الاشتراكي الإسلامي – في كل مرة ينتقد الحكومة ويطالب باستقلالية جهاز الإحصاء وبإسقاط النظام، هي ذاتها التي ابتلعت طعم المشروع الحضاري في قراءته المنكفئة للنساء.
الملاحظة الرئيسية حول المؤتمر هي أن التعداد الذي جاء ضمن اتفاقية السلام ولتأكيد أهدافه وأهمها جعل الوحدة جاذبة كان حلقة في الشقاق وفي جعل الانفصال جاذبا، حتى كان تجاوزه باتفاق 24 فبراير 2010م غير الدستوري، بزيادة أربعين مقعداً إضافياً للجنوب بالتعيين، وأربعة مقاعد لولاية جنوب كردفان، ومقعدين لأبيي في المجلس الوطني، كمعالجة لأخطاء التعداد.
والتعداد يشكل هما رئيسيا لدارفور التي تنظر لغبار قافلة الجنوب المبتعدة ويهم بعضها باللحاق. وكان أحدَّ انتقاد للتعداد من قبل مجلس شورى قبيلة الفور المطالب بإلغاء نتائجه والرجوع لتعداد سنة 1993م. إنه يشكل غبنا حقيقيا لا يزال يقض مضجع الوطن المتشظي.
أما كان الأجدى للمؤتمر الاهتمام بالغبائن وبحث كيفية تحسين أرقام التعداد والآليات الفنية الممكنة لمراجعة فجوات غرب دارفور ومعسكرات النازحين والشرق وغيرها؟
أبأس ما في المؤتمر أنه جاء متضمنا أرقام الجنوب في أوراقه! هل كان سهلا غض الطرف عن مظالم الجنوب حتى كان ما كان، وصعب إزاحة أرقام الجنوب بعد أن صار الجنوب ذاته في خبر كان؟
برغم الجهد والمال المصروف.. نظل نسأل: ما الفائدة أن تخرج تلك البيانات بعد ثلاث سنوات، (مغردة) بجرحنا بعد (الفنا).. وفي ذات السنة؟
وليبق ما بيننا

الرأي العام

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..