مصر: الانعكاس على الإِسلام السياسي والإِسلام

فضحت انتفاضة مصر نوايا الإسلام السياسي، فخفت بريقه. وهذه بشرى بتحرير الإسلام من الحزبية ومن ربقة أحزاب ضيعت على المواطن دينه ودنياه.
بقلم: رشيد الخيّون
لم ينتهِ حكم الرئيس الأسبق مبارك 2011 لولا أن الجيش المصري حسم الأمر، وهيأ ظرفاً مناسباً للانتخابات العامة، وجرت بسلام، لكن ما اتضح أن الرئيس الممارس للسُّلطة هو محمد بديع المرشد العام لجماعة “الإخوان المسلمين” لا الرئيس المنتخب محمد مرسي، الذي تظاهر باعتزال العمل العقائدي والحزبي والتفرغ لرئاسة مصر، فحصل العكس انشغل بتأسيس “الإخوان” في السلطة، فخرجت الملايين وربما نصفهم من منتخبيه يقولون: “ارحل”.
فماذا يفعل الجيش ومصر تموج وتمور، والكراهية أخذت تتفشى، ففي عقر الرئاسة صار الخطاب “كسر شوكة الكافرين والمنافقين”؟ ومَن هم المقصودون بهذا الخطاب سوى الملايين الذين نزلوا إلى الميادين ضد “الإخوان” قبل مرسي.
بعد هذا الاستهلال، لفتت نظري كلمة الصحافي إبراهيم عيسى “اليوم انتصر الإسلام” نشرتها “التحرير” المصرية (4 يوليو). ربما يُفهم من العنوان أنه يتحدث عن انتصار يُعادل فتح مكة، إلا أن ما حدث، حسب عيسى، فتح مِن نوع آخر، محاولة لتحرير الإسلام من الأحزاب الدينية، ومَن يطلع على تصريحات زعيم إخواني بأن جماعته ربانية المنشأ، يدرك درجة الغرور بالسلطة وبسلاح الدين.
ليس خافياً أن أحدهم اعتبر مرسي فاتح مصر الثَّاني بعد عمرو ابن العاص (ت 43 هـ)، وإذا رضى الرئيس بأنه فاتح مصر الثاني فمعنى هذا أن المصريين كانوا، قبل فوزه، ليسوا على الإسلام، ولا بد من عقد اتفاق ذمة مع المسيحيين! كذلك لم يفرق الرئيس في خطاباته، لثقافته الحزبية الدينية، بين الشَّرع، ويعني التكليف الإلهي، وبين الشرعية التي منحها له 13 مليوناً مقابل 12 مليوناً لغير الإسلامي هو أحمد شفيق.
وبهذا لا يُستغرب ما كتبه إبراهيم عيسى: “اليوم انتصر الإسلام”، والكاتب غير منتمٍ لـ”الفلول”، السَّوط الذي يرفعه “الإخوان” ضد معارضيهم، وقرين هذا بالعراق مصطلح “الصَّداميين” الذي يُرفع بوجه مَن ينتقد ممارسات الأحزاب الدينية الشَّنيعة، يُرفع حتى ضد من أفنى عمره بمحاربة الصَّداميين.وإذا كان “الإخوان” يصفون خصومهم دينياً بمعاداة الإسلام، ففي العراق يتهمونهم بمعاداة الإسلام ونهج آل البيت، وإذا حاولتَ أن تفهم ما يُراد بالإسلام وآل البيت في السياسة والاقتصاد لا تسمع إلا ألفاظاً عائمة.
ما معنى أن يمارس “الإخوان” السياسة، في الأجواء الديمقراطية، وهم ينقشون في شعارهم المركزي الآية “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ” (الأنفال: 60). معلوم عن هذه الآية متى نزلت ولمَن وجهت! حتى ترفع شعاراً ضد الخصوم في الانتخابات، وهم ليسوا مقاتلي المسلمين في بدر، وبقية الجماهير ليسوا مشركي قريش ولا كفار العرب، الفئات التي قصدتهم الآية والزَّمان الذي نزلت فيه (انظر: الطَّبرسي، مجمع البيان).
لا يُفسر هذا إلا بأن غير “الإخوان” كانوا المقصودين بها. ومعلوم أن سورة الأنفال والتَّوبة، وتأتي الواحدة منهما تلو الأخرى، حوتا أشد الآيات عنفاً ضد المشركين، وجاءت “التَّوبة” خالية من البسملة، إما “لأنها أمان وبراءة نزلت بالسَّيف” (السيوطي، الإتقان في علوم القرآن)، وإما لأنهما كانتا سورة واحدة. فتأمل في توظيفات “الإخوان” واعتبارهم لمن لا يركب مركبهم.
سيردون علينا: أنتم لستم أهل تفسير ولا فقه؟ وسنرد: ما كنا نتعرض لولا سعيكم لتحجيم الدين بتسييسه، وتجريده سيفاً على رقاب المسلمين! نعم مِن الحق الدفاع عمَّا يُساعدهم على التعايش، وعن الديمقراطية والإسلام معاً اللذين يراد اختطافهما، فبسبب ممارسات وشعارات الأحزاب الدينية أخذ غير الواعين لهذه اللعبة التجرؤ على الدِّين، ولا أتردد في القول: إن الأحزاب الدينية بممارساتها باسم الدين بدأت تخلق جيلاً يتطلع إلى معاندة الدين صراحة، لأن هذه الأحزاب تُقدم نفسها هي الممثلة لدين الله.
معلوم أن العمل في السياسة باسم الدين يتكئ على ما يعتبرونه مبررات لقيام أنظمة دينية؛ لكنهم يغفلون ما لا يؤيد ذلك، فآية الحاكمية “إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّه” (الأنعام: 57) يوضحها الحديث: “الْخِلَافَةُ فِي قُرَيْشٍ وَالْحُكْمُ فِي الْأَنْصَارِ وَالدَّعْوَةُ (الأذان) فِي الْحَبَشَةِ” (مسند ابن حنبل، والسَّيوطي، رفع شأن الحبشان). بمعنى أن الحكم الذي بنوا عليه حاكميتهم يخص القضايا الشرعية، وهو مثلما ذهب إليه علماء دين معروفون، لا السلطة السياسية.
شاهد آخر: أن النبي أخبر قومه أنه لا ينوي أن يكون حاكماً “ما جئت بما جئتكم به أطلبُ أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً نذيراً، فبَلغتكم رسالات ربِّي” (ابن هشام، السيرة). آيات شخصت مهمة الدين بالتبشير والتذكير والهداية لا السلطة السياسية.
شاهد آخر ما جاء في تأمير الأمراء: “وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لا” (الكتب الستة، صحيح مسلم، الجهاد والسير).
شاهد أخير، في مقالنا، وما هو بأخير في التَّاريخ والأثر، عندما رُفعت آية الحاكمية، “إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ”، شعاراً ضد خليفة زمانه علي بن أبي طالب (اغتيل 40 هـ): “لِمَ حكمتَ الرِّجال، لا حكم إلا لله” (الشَّهرستاني، الملل والنَّحل)! أجابهم: “يَقُولُونَ: لاَ إِمْرَةَ، فَإِنَّهُ لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِير بَرّ أَوْ فَاجِر، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، وَيُبَلِّغُ اللهُ فِيهَا الأجَلَ، وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيءُ، وَيُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ، وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ…” (نهج البلاغة). فالإمرة السُّلطة السياسية، والحكم يعني المسائل الشرعية!
بعد هذا، يحق لغير الإسلاميين، مِن المسلمين، أن يردوا على طلاب السلطة الدينية بما في الدين نفسه، فلماذا حلال لهم وحرام على غيرهم؟ هذا وانتهي بالقول: إن ما حدث مِن انتفاضة بمصر هو كشف لنوايا الإسلام السياسي، وخفوت البريق الذي كان له في المعارضة، وهذا ما سينعكس إيجاباً على الإسلام، كونه يتحرر من الحزبية، وسلباً على الإسلام السياسي، فمعه وأحزابه لا يحصل المواطن على دين ولا دُنيا، يُقمع باسم الله وبعبارة “الله أكبر”، انظر إلى تظاهراتهم!
رشيد الخيّون
[email][email protected][/email] ميدل ايست أونلاين