الفتيات في الهند لَسْن في أمان

عندما كانت سبهانا غازمر تنشأ في المنطقة الجبلية من شمال شرق الهند، كانت تقاتل الصبيان الذين يوجّهون إليها كلاماً مهيناً. لكنها تخاف في هذه الأيام من السير وركوب وسائل النقل العام في شوارع مدينة نيودلهي الكبرى. حتى إنها تخشى النوم في شقتها المؤلفة من غرفة واحدة حيث يعجّ سريرها بالحيوانات القماشية.
كتب الخبر: ماغنيار مارك
تقع شقة سبهانا غازمر على بُعد بضع مئات الأقدام من المحطة التي تشمل حافلة ركبتها شابة بات مصيرها يطارد غازمر: فقد تعرضت تلك الشابة للاغتصاب المتكرر من السائق وأصدقائه، ثم واجهت مع صديقها هجوماً بالقضبان المعدنية. سرعان ما توفيت متأثرة بجروحها بعد أسبوعين.
لطالما كانت حوادث الاغتصاب أنباء ثابتة في عناوين الهند الرئيسة منذ سنوات، لكنّ الاعتداء الوحشي الذي وقع في شهر ديسمبر كان كفيلاً بتفجير الوضع. رأت شابات كثيرات أنفسهن في الضحية، وهي طالبة كانت تتخصص بالعلاج الفيزيائي، عمرها 23 عاماً، وكانت إمكاناتها المادية متواضعة وقد انتقلت إلى نيودلهي لتحقيق «الحلم الهندي» وكسب الاستقلالية في الوقت نفسه.
قالت غازمر (29 عاماً): {مهما أردنا أن نتمتع بالقوة والجرأة وأن نثبت قدرات النساء، لا مفر من أن نغير وجهتنا ونركض إذا رأينا شابين أو ثلاثة. منذ شهر ديسمبر بالكاد أخرج من الشقة، ولا حتى مع أصدقائي. كان يمكن أن أكون أنا الضحية. كل امرأة تفكر بهذه الطريقة}.
غازمر موظفة منفتحة ومرحة، تعمل ليلاً في مركز اتصال في نيودلهي وتجيب عن أسئلة الأميركيين عن بطاقات الائتمان. تجني راتباً تفوق قيمته ما يجنيه والدها الجندي أو والدتها المعلّمة وتحلم في نهاية المطاف بتأسيس شركتها الخاصة.
لكنّ نقاط الشبه التي تجمعها بضحية الاعتداء في الحافلة لا تتماشى مع طموحاتها بتحسين حياتها.
بعد سنة على بدء العمل في مركز اتصال آخر في عام 2009 واستئجارها شقتها، توجهت إلى منطقة تسوق في وقت مبكر من إحدى الأمسيات مع صديق لها. فيما كانا ينتظران مركبة {توك توك} بثلاث عجلات، هاجمها عدد من الرجال: كانوا ثلاثة شبان في بداية العشرينات من العمر ثم انضم إليهم شابان آخران. كانوا ينوون إجبارها على صعود السيارة لاغتصابها كما تقول.
بما أنها كانت قد انتقلت لتوها إلى المدينة، كانت ساذجة جداً لدرجة أنها نادتهم {إخوتها} (من باب الاحترام) وسألتهم عما يريدونه، ما جعلهم أكثر عدائية.
حين كان المعتدون يحاولون جر غازمر إلى السيارة، بدأوا يضربونها. مرّ عشرات المشاة بالقرب من ذلك المكان وتوقف بعضهم لمشاهدة ما يحصل، لكنّها تتذكر أن أحداً لم يساعدها، وهو أمر لا يمكن أن يحدث في بلدتها الأم: «إذا أزعجنا أي شاب في مانيبور، يكفي أن نصرخ كي يساعدنا الجميع. لكن في دلهي، تسود عقلية مختلفة جداً. يجب أن يفكر كل شخص بمصلحته الخاصة. النساء أكثر قوة في مانيبور، أما نحن فلا نحتمل هذا الوضع».
حاول صديق غازمر الدفاع عنها وإلهاء الشبان. حين شعرت بأن الفرصة مناسبة، خلعت صندلها وركضت حافية القدمين لمسافة معينة وعادت إلى شقتها. كانت تشعر بالرعب فأقفلت البوابتين والباب وراءها، ثم جلست وهي ترتجف في سريرها وتتساءل عما حصل لصديقها.
بعد ساعة، اتصل بها وهنّأها على سرعة بديهتها وطريقة هربها. ثم أخبرها بأنه يستطيع إنقاذ نفسه، لكنه ما كان يستطيع إنقاذها. وأكد لها أيضاً أنه حاول الدفاع عن نفسه ضد أحد الشبان لكنّ الآخرين هاجموه من الخلف، فحطموا وجهه وكسروا ضلعه وضربوا معدته. اتصلت غازمر بالشرطة لكنها لم تحضر مطلقاً، لذا قصدا المستشفى.
هروب إلى الزواج
كل بضعة أيام، تقول غازمر إن والدتها تتصل بها وتضغط عليها كي تغادر {دلهي الخطيرة} وتجد زوجاً لها وتستقر في مانيبور. لكنها ترفض: {ما من وظائف جيدة في مانيبور ولا وجود للكهرباء. الأمر أشبه بالابتزاز العاطفي. الزواج ثم الزواج ولا شيء إلا الزواج. حين تتصل، أجعل الهاتف أحياناً بوضع {صامت} لأنني أعرف ما ستقوله لي}.
تستمتع غازمر، وهي الأصغر بين أربع شقيقات، باستقلاليتها كونها تجني أموالها الخاصة وتشتري ما تريده من دون تردد. في كل مرة تقصد منزلها لزيارة عائلتها، تشعر بالسعادة ليومين ولكن سرعان ما تضجر: {أحب هامش الحرية في حياتي. إنها المدينة الكبرى}.
لكن تأتي تلك الحرية مقابل ثمن معين: تطل شقتها على مبنى من أربعة طوابق وهي قريبة من المبنى المجاور لدرجة أنّ أياً كان يستطيع القفز إلى الشرفة الموازية، وهو ما فعله بعض الشبان السكيرين قبل بضعة أشهر.
منذ ذلك الحين، شدد صاحب المبنى التدابير الأمنية وأضاف كاميرات وبوابات إلكترونية، فأصبحت الأنابيب الظاهرة وقشور الطلاء والأرض القذرة في المبنى متناقضة مع الأجهزة المعاصرة.
كان التحدث مع الأميركيين على الهاتف لساعات طويلة من كل ليلة (لا تعترف بعض مراكز الاتصال بأنها موجودة في الهند وتحمل غازمر اسماً مستعاراً هو سونيا سميث) كفيلاً بتفتّح عقلها. قد يعبّر المتصلون على الجانب الآخر من المكالمة عن غضبهم معتبرين أن الهنود يسرقون وظائف الأميركيين، لكن يتسم معظمهم بالود والسخاء. حتى إنهم يخبرونها بأن صوتها يوحي بأنها جميلة ولا شك في أن كثيرين معجبون بها: {أخبرني أحد أصدقائي: في الولايات المتحدة، يبتسم الناس ويتصرفون بلطف. لكن هنا، يجب أن نكبت كل شيء في داخلنا. لا يمكن التعامل بصراحة وإلا سيكوّن الشبان فكرة خاطئة}.
حياة اجتماعية معدومة
بعد حادثة الاغتصاب في شهر ديسمبر، عرضت شركة غازمر نقلها إلى دوام النهار، لكن لا يمنحها ذلك الدوام يومَي عطلة متلاحقين، لذا رفضت العرض.
تتبع الحافلة الصغيرة التي استعانت بها الشركة لنقل العمّال قواعد تمنع كل امرأة من أن تكون أول أو آخر من يتواجد في الحافلة كي لا يحاول السائق استغلال الوضع، لكن لا تزال المشكلة قائمة بحسب غازمر. لا تعلم مطلقاً متى تصل الحافلة لأخذها. حتى إنها تنتظر وحدها لبضع دقائق، ما يجذب المتلصصين والسائقين الذين يتوقفون ويعرضون إيصالها إلى أي مكان تريده. تعترف: {الأمر يسيطر على تفكيري دوماً. أخشى مغادرة منزلي}.
منذ اعتداء شهر ديسمبر، لا تخرج إلا عند الضرورة ومع أصدقاء ذكور، وقد أصبحت حياتها الاجتماعية شبه معدومة. يعني ذلك أنها تمضي ساعات طويلة في شقتها حيث نسيت زينة العيد على الجدار بالقرب من مروحة مزعجة ومرآة معلّقة مع شريط لاصق.
كانت تحضر الحفلات أحياناً في أيام عطلتها لكنها توقفت عن ذلك وباتت تحرص دوماً على العودة إلى المنزل بعد فترة قصيرة من حلول الظلام. كذلك بدأت ترتدي ملابس أكثر احتشاماً ولا تلبس قمصاناً بلا أكمام وسراويل قصيرة إلا في مكتبها.
على صعيد آخر، تعلمت غازمر بعض دروس الدفاع عن النفس. منذ بضعة أشهر، كانت تنتظر سيارة أجرة مع صديقتها، فمر بقربها رجل واحتك بها على رغم وجود مساحة كافية بالقرب منها. فسألته بصوت مرتفع إذا كان يريد أن تتصل بالشرطة وكانت مستاءة على رغم خوفها، ثم أوشكت على صفعه قبل أن تُبعدها صديقتها: {في بلدتي، كنت لأضرب ذلك الرجل. لكن في دلهي، يجب أن نكون أكثر حذراً}.
لكنها لم تتخلَ يوماً عن روحها القتالية. في الفترة الأخيرة، لم يكفّ رجل عن لمسها داخل حافلة مكتظة. فأخرجت دبوساً ووخزته به ونظرت إليه بكل سرور حين بدت علامات الألم والصدمة على وجهه ثم ابتعد عنها.
رداً على السخط العام بعد حوادث الاغتصاب الجماعي، صدرت قوانين جديدة ترفع عقوبة الاغتصاب والاغتصاب الجماعي والمطاردة وجرائم جنسية أخرى. لا تثق غازمر بأن الإعدام يكفي لردع ما يحصل وهي ترى ضرورة ضرب وإهانة المعتقلين علناً. تظن أن عدداً مفرطاً من المذنبين في الهند يستعملون الرشوة أو المعارف السياسية لإصدار أحكام رمزية.
تقول غازمر: {لا بد من فرض عقوبات صارمة وإلا لن يتغير الوضع. الفتيات في الهند لَسْن في أمان}.
أضرار نفسية
على الورق، تبقى إحصاءات حوادث الاغتصاب في الهند أدنى من المعدل المسجل في عدد من الدول الغربية، لكن يؤكد الخبراء على وقوع عدد هائل من الاعتداءات من دون الإبلاغ عنها. وفق تقرير نشرته الأمم المتحدة في نوفمبر 2012، اعتبرت 5% من النساء والشابات فقط أن شوارع نيودلهي آمنة من العنف الجنسي. تحتل الهند المرتبة 129 من أصل 147 بلداً وفق تصنيف الأمم المتحدة لمؤشر المساواة بين الجنسين، وراء بنغلادش ورواندا.
خلّف هجوم شهر سبتمبر الوحشي أضراراً نفسية ونشر مشاعر القلق في أنحاء ذلك المجتمع حيث تواجه المرأة مضايقات وتهديدات شبه يومية، ما يجعلها تشعر بأنها فريسة.
تقول شيف فيسفاناثان، أستاذة علم اجتماع في {كلية جندال للسياسات الحكومية والعامة} في مدينة سونيبات، في شمال نيودلهي: {الشرطة لا تهتم بالموضوع والبيرقراطيون لا يبالون والسياسون يعتبرون النساء مغريات. هكذا هو النظام كله. تواجه المرأة كثيراً من الإهانات وتتعرض للمضايقات والاعتداءات. يترافق هذا الوضع مع أثر نفسي واضح، مثل الإحراج، وقد يتبرأ بعض العائلات من بناتهنّ}.
لا يثق معظم النساء بالشرطة الهندية ويؤكد بعضهن على تبني استراتيجيات جديدة لحماية أنفسهن. منذ شهر ديسمبر، ارتفعت نسبة مبيعات رذاذ الفلفل وتراخيص الأسلحة للنساء، وتؤكد نسبة كبيرة منهن على تواصلهن بشكل شبه دائم مع الأهل فضلاً عن إرسال رقم لوحة الحافلات أو سيارات الأجرة قبل ركوبها. بفضل بعض التطبيقات الجديدة، يمكن أن تطلب النساء المساعدة عبر استعمال {نظام تحديد المواقع} (GPS) في الهاتف الخلوي.
الجريدة
كذلك بدأت ترتدي ملابس أكثر احتشاماً ولا تلبس قمصاناً بلا أكمام وسراويل قصيرة إلا في مكتبها.
هنا مربط الفرس، لو لبست كل واحدة لبس محتشم وأبتعدت قدر الإمكان عن التبرج والسفور والمياعة لإنتهت ظاهرة التحرش الجنسي.