واشنطن التي لا تعرف ماذا تريد!

لا تنتظر المنطقة حتى تصحو واشنطن من غفوة رئيسها. تدخّل إيران وحزب الله في سوريا، وتحرك الشعب والجيش في مصر، وذهاب الرياض ودول خليجية لتثبيت خياراتهم في المنطقة هي مؤشرات على مناورات تنشط في ظل غياب أي مبادرات أميركية. تحريك الملف الفلسطيني لا يبدو أن احدا يكترث له.

بقلم: محمد قواص

يلاحظ أهل المنطقة العربية أن سأماً ما أصاب الأميركيين في المنطقة. تولى الرئيس باراك أوباما، منذ وصوله إلى البيت الأبيص، تعديل توجّهات بلاده وأولياتها في العالم. أراد الرجل تخليص بلاده من مستنقعات دموية ورثها عن سلفه الجمهوري جورج بوش وفريقه. كانت طموحات الجمهوريين الجدد آنذاك تروم تفصيل العالم وإعادة رسمه وفق مقاسات أيديولوجية تقسّم العالم بين خير وشر، وتصنّف الناس بين “من معنا ومن ضدنا”، فكان أن تعرضت القوى العسكرية والاقتصادية الأميركية لورشة استنزاف عملاقة أمعنت الأزمات المالية العالمية في تفاقمها.

تولى أوباما فرض تصحيح ذاتي على الأجندات الاستراتيجية لبلاده. وضع الرئيس الأميركي كوابح تحدُّ من اندفاعات سلفه النيوليبرالية واستثماراته الإرادوية في فرض الديمقراطية على العالم عامة وعلى الشرق الأوسط خاصة. ذهب أوباما إلى رسم “استدارة” تدريجية، قد تصل إلى حد إدارة الظهر للمنطقة برمتها. ترك سيّد البيت الأبيض جمرَ المنطقة يعسُّ ويخبو وفق الآليات الذاتية الشرق أوسطية.

تراجع أوباما عن طموحاته الكبرى في تحقيق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين. نجح بنيامين نتنياهو في صدّ ضغوطه وإحباط آماله والالتفاف على البيت الأبيض من خلال الكونغرس واللوبي اليهودي. إضطر الرئيس الأميركي، في ما يشبه الانصياع، إلى تكرار تأكيد العلاقة الاستراتيجية مع تل أبيب، لا سيما ضمان الحفاظ على أمن الدولة العبرية. ومع ذلك ما زال البيت الابيض يعوّل (ربما بحثا عن انجاز تاريخي يُنسب للرئيس) على تحقيق اختراق ما في هذا الملف يفسّر همّة وزير الخارجية جون كيري وتجواله على عواصم المنطقة، وتحريه استئناف مفاوضات معلّقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

وتبدو حال الاستقالة الأميركية أكثر وضوحا في الحالة العراقية. كدنا ننسى أن الولايات المتحدة أسقطت نظاما سياسيا هناك وأقامت نظاما آخر. وكدنا نسهو عن أن الولايات المتحدة كانت الدولة التي تحتل العراق قبل سنوات. فتكاد العلاقة بين واشنطن وبغداد تُختصرُ بتواصل هاتفي، اللهم إلا من بعض الزيارات الخاطفة التي يقوم بها نائب الرئيس جو بايدن (الموكل إليه على ما يبدو، وبسأم، ملف الشأن العراقي).

استقالت واشنطن من العراق تاركة أمر بلاد الرافدين يتنازعه أهل البلد المتساكنين على شفير الحرب الأهلية. قدّمت الولايات المتحدة، التي ترفع لواء الخصومة مع طهران، العراق هدية لإيران. أصبح العراق جزءا من سياسة إيران الخارجية حيث نفوذ طهران مباشر على نظام بغداد وعلى الأحزاب الشيعية في البلاد، فيما تحاول تركيا من خلال إقليم كردستان تعزيز نفوذ يثبّت لها موطئ قدم في البلاد، وتسعى دول خليجية إلى اطلالة متأخرة على شؤون العراق من بوابة السنّة ورموزهم وقياداتهم.

لكن ما يفصح أكثر عن وهن السياسة الأميركية في المنطقة ظهر بوضوح مع انطلاق موجات “الربيع العربي”. تولى عبثُ المنطقة ارباك الاستدارة الأميركية وتعطيل ايقاعاتها. بمعنى آخر تمّ فضحُ ما أُريد له أن يكون في واشنطن مستورا. وتمّ تسليط الضوء على حال ارتجال خيالي وقياسي في مقاربة شؤون المنطقة.

وضع أوباما وفريقه خطط قلب الأولويات الأميركية لصالح آسيا حيث تتعملق الصين وتكبر الهند. اعتمدت تلك الخطط على استتباب أمور الشرق الاوسط، بمعنى استقرار روتينية مسائل المنطقة في التوتر والمراوحة. لكن العواصف التي هبّت من تونس لتعبث في كل المنطقة ولا تستقر على حال، أعاد الشرق الاوسط هماً يُقذف في وجه إدارة البيت الأبيض دون أن يعني ذلك عودة المنطقة لتكون أولوية أميركية. كشف أمر “الربيع” عند العرب فضيحة سياسة الارتجال التي واكبت بها إدارة البيت الأبيض انهيارات المنطقة.

بين ليلة وضحاها، هرعت واشنطن لإرضاء كافة الفرقاء وعدم المراهنة على طرف دون آخر، في سعيّ صبياني ليكون لها نصيب مع أي حصان رابح. دعت الولايات المتحدة المنتفضين لمحاورة زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر بصفتهما اصدقاء لواشنطن، ليتم التخلي عنهما، وحتى الدفع بهما خارج أسوار الحكم، لصالح الحاكم المجهول الجديد. ارتجلت الإدارة الأميركية مباركة متعجّلة لسيادة الإخوان المسلمين على المنطقة، وتولّت التوجس لاحقاً من الخيارات الاسلامية المتقدمة بالسلاح في مالي وليبيا وتونس وسوريا. وفيما ارتاحت إلى عملية سياسية أتت بمحمد مرسي وصحبه إلى الحكم في مصر تيمنا بالتجربة التركية، راقبت بقلق اندثار هذا الحكم أمام ملايين يتراصون ومؤسسة عسكرية تحسم الخيارات.

المقاربة الأميركية للنزاع السوري تمثّل أقصى درجات التخبط وأعلى مستويات المراهقة. لعب السفير الأميركي في دمشق دورا تحريضيا في بداية اندلاع المظاهرات، على نحو أوحى أن بلاده تبارك الحراك. لم تولِ واشنطن اهتماما بما أثارته دمشق، منذ بداية الأزمة، من مواجهة نظامها لتنظيم القاعدة ومجموعات أصولية أخرى، واعتبرت الأمر مزاعم تبريرية تضليلية يسوّقها النظام، قبل أن تلتحق فيما بعد بالرواية الرسمية السورية، وتتحفظ على المعارضة برمتها بسبب جزئياتها الأصولية المتطرفة. ولا شك أن تخبطا يسود الأداء الأميركي اليومي في الشأن السوري، من حيث اعطاء الاشارات المتناقضة على نحو يوحي أن واشنطن غير مكترثة بالكارثة الانسانية التي لا أفق لتوقفها حتى الآن (رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي لم يستبعد استمرار النزاع “عقوداً”).

في تبعثر الاشارات الصادرة من واشنطن يتعثر المراقب في الاهتداء على خط سير واضح للسياسة الحالية لإدارة أوباما في واشطن (آخر تلك الاشارات بالنسبة للشأن السوري رسالة وجهها ديمبسي لمجلس الشيوخ يتحدث فيها عن خمسة سيناريوهات للتدخل، فيما البيت الأبيض يطالب بتسريع الدعم الغربي للمعارضة السورية!). بعضهم يستغرب أن يسقط خيار الولايات المتحدة المتمثّل بحكم مرسي والإخوان (وهو خيار يظهر على الأقل في الجزء الذي برز في تصريحات السفيرة الأميركية في القاهرة وموقفها السلبي من مظاهرات حملة “تمرد”)، على يد قوى شعبية وعسكرية في الداخل لا تُعتبر بعيدة عن الأجواء الأميركية أو متناقضة معها، لا سيما المؤسسة العسكرية المصرية التي ترعاها المساعدات العسكرية الأميركية الشهيرة منذ اتفاقات كامب دايفيد عام 1978. كما أن سقوط مرسي سارعت إلى مباركته، وقد تكون ساهمت به، قوى اقليمية، لا سيما خليجية، أفرجت عن نفسها وعن مزاجها من خلال ضخّ المليارات، ربما بعد ساعات من خطاب عبدالفتاح السيسي الذي أعلن “خارطة المستقبل”.

تنسحب الرمادية دون تردد على مقاربة واشنطن للشأن الإيراني. أضحت الإدارة الأميركية تتصرف وكأنها “تصلي” لتغيير داخلي (في غياب القدرة على إحداث تغيير من الخارج) يروّض الموقف الإيراني، كـ “الثورة الخضراء” التي أطلّت غداة انتخابات عام 2009 الرئاسية، أو من خلال الانتخابات الأخيرة بحيث تعوّل الإدارة الأميركية على الرئيس المنتخب الجديد حسن روحاني. وفي ظلال الانتظار الاميركي، تستمر إيران في تطوير برنامجها النووي، وتتحرك إيران بحرية في تعزيز نفوذها في المنطقة، وتدعيم حلفائها، لا سيما في لبنان وسوريا، دون أي اكتراث أميركي يُذكر.

يشعرُ حلفاء واشنطن في المنطقة أن أخطارا تنمو وتترعرع، تهددُ كينونتهم وديمومة أنظمتهم. تغيب الخطوط والمحظورات وتتعطل الأضواء الحمراء والخضراء. هذا يفسر تحرك بعض الدول الحليفة تاريخيا للولايات المتحدة، كدول الخليج العربي والاردن والمغرب..إلخ، إلى مقاربة استحقاقات المنطقة على نحو لا يروق لإوباما وفريقه.

وقد ظهر الخلاف إلى العلن في تصريحات عديدة لوزير الخارجية السعودي سعود الفيصل، وفي مقاربة مجلس التعاون الخليجي للشأن الإيراني والموقف من حزب الله، وفي إدارة السعودية بعد قطر للأزمة السورية، وفي الدعم المالي اللافت للسعودية والكويت والامارات لمصر ما بعد مرسي، على الرغم من ضبابية موقف واشنطن واتجاهه في بدء الأزمة إلى التشكيك في مبادرة وزير الدفاع المصري والمؤسسة العسكرية المصرية.

وعلى الرغم من تراكم كمٍّ من الاحتمالات لتفسير هذا السأم الأميركي بقيادة أوباما من شؤون المنطقة، إلا أن المراقبين لا يخاطرون في حسم أمر استقالة واشنطن. المراقبون يرصدون مواكبة، وربما دعم، واشنطن للتغيير الذي حصل مؤخرا في رأس السلطة في قطر، وميل أميركي طارئ للتخلي عن خيارها الاخواني (بدءا من حراك الشارع في تركيا انتهاء بالاطاحة بمرسي في مصر). ويلحظ المراقبون مقدار الالتزام الاقليمي بالخطوط الحمراء الكبرى التي وضعتها الادارة الاميركية لتسليح أو عدم تسليح المعارضة السورية.

لا تنتظر المنطقة حتى تصحو واشنطن من غفوة رئيسها (مقالات صحافية أميركية بدأت تثير مؤخراً مسألة كفاءة أوباما في إدارة شؤون الولايات المتحدة). وما تدخّل إيران وحزب الله في سوريا، وتحرك الشعب والجيش في مصر، وذهاب الرياض ودول خليجية لتثبيت خياراتهم في المنطقة… إلخ، إلا مؤشرات على مناورات تنشط في ظل غياب أي مبادرات أميركية، اللهم إلا تلك التي أفضت إلى إستئناف الإسرائيلية – الفلسطينية، والتي لا يؤمن بها الإسرائيليون ولا يعوّل عليها الفلسطينيون.

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي

ميدل ايست أونلاين

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..