الغناء النوبي في مصر والسودان .. شعراء قنا قدموا السيرة الهلالية في صورة مختلفة عن الأبنودي

القاهرة ـ ‘القدس العربي’ ـ من عبدالفضيل طه: مصر والسودان تجمعهما روابط ممتدة على مر التاريخ ومن يدرس تاريخ البلدين يجد أن العلاقة ليست بنت اليوم ولا الأمس القريب، لكنها تمتد بجذورها الى ما قبل تاريخ الأسرات ثم في تاريخ الأسرات أي في العصر الفرعوني، وكثير من حكام مصر تزوجوا من السودان وتزوج مصريون من سودانيات واختلط دم الشعبين وتشابهت حياتهم قديماً وحديثا وتواصلت العلاقات الحميمة حتى اليوم.
وكانت منظمة النوبة هي حلقة الاتصال القوية بين الشمال والجنوب، وكانت النوبة ملتقى فن مصر والسودان، واستوعب النوبيون الفن من أطرافه جنوبا وشمالا.
وأذكر ان هناك عشرات من شعراء الربابة من صعيد مصر كانوا يقضون الليالي الطوال يجوبون قرى جنوب مصر في النوبة ويقضون أياما في كل قرية حيث تتم ضيافتهم في ‘خيمة’ القرية أي المضيفة الخاصة بالقرية حيث يقدم لهم الطعام والشراب وفي كل مساء اثناء وجودهم يجتمع أبناء القرية في الفضاء المحيط بالخيمة يستمعون ويستمتعون بسيرة أبو زيد الهلالي وعنزة والظاهر بيبرس وغيرها.
كما يقدم هؤلاء الشعراء بعض القصائد النبوية، وأذكر أن كبار سيدات هذه القرى كن يحفظن هذه السير عن ظهر قلب، ولابد أن أقول هنا، أن سيرة بني هلال التي كان يقدمها شعراء ابناء قنا وغيرها تختلف عما نسمعه اليوم من الأديب عبدالرحمن الأبنودي ومن يستعين بهم في رواية السير مثل، عم جابر او عم الضوي، وكانت ابيات بني هلال في النوبة تختلف كما قلت عن بداياتها عند الابنودي وهذه سمة السير التي تنتقل شفاهة، يقول شاعر الربابة في النوبة:
يا نجد منك رحلنا، ومنك طلبنا البلاد
يخونك ودنا وعشمنا
وشقينا في البلاد
ومنها عندما وصل الهلالية لتونس وأحب العلام الجازية او الجاز، كما كانوا يطلقون عليها، وهنا تقاعس عن نصرة أهله.
يقول له الزناتي خليفة:
علام، شبكوك بالجاز، مثل الخروف الكباش
وحتى أن نحلوك ننجز، والشيء ما يعملوا فيك ماشي
ومعنى هذه الكلمات الشعرية أن العلام هام بالجازية وهي حجازية من نجد وكان هو فارسا من فرسان زناتة لكنه لم يحارب في صفوف معركة من أجل الجازية ومن هنا كان لوم الزناتي خليفة له معاتبا، شبكوك بالجاز ‘الجازية أي بني هلال رموه بالجازية وهي من أجمل بنات العرب مثل الخروف الكباش أي انه اصبح مثل كبش الخروف الذي يقوده صاحبه كما يريد وحتى انحلوك، انحلوك اي قاموا بقص شعرك، يتجز وكلمة يتجز تعطي نفس المعنى أي انه انقاد كلياً لهواه، حتى إذا أرادوا أن ينحلوا شعره لم يقاوم.
هذه المعاني اعتقد انها لم تذكر في كثير من نسخ سيرة بني هلال وتلاحظ فيها بيئة الصعيد ‘الجواز’ والنوبة ايضا مثل حتى أن نحلوك، وغيرها.

شعراء المدي

كما كان يفد على منطقة النوبة من صعيد مصر كثير من شعراء القصائد النبوية ويقيمون في مساجدها ليالي الذكر ومن القصائد التي كانت تتلى من مساجد النوبة من هؤلاء:
صلوات الله تغشى دائماً
على نبينا المصطفى جد الحسين
و صلوا يا أهل الكمال على النبي باهي الجمال
قدمه في صخر علّم، والحجى صلى وسلم
أو يقولون قصيدة على لسان الحمار الذي حملته عليه حليمة السعدية لترضعه في منازل قدمها وكان يعرج لكنه اعتدل في مشيته، فكان أسرع داية في الركب وتساءل الناس حول سرعته فأنطقه الله كما تقول الرواية الحمار الذي أنشد على لسانه:
أنا على ظهري أمام الأنبياء
حليم الوجه مرفوع الولاية ‘الراية’
توجني تياج العز ربي
وأخرج من حشاي ظلام قلبي
وهذا قليل من كثير كنا نستمع اليه ونحن أطفال في قرى النوبة.

السودانيون

وكما كان يأتي شعراء الشمال من جنوب مصر كان يأتي إلى النوبة شعراء من شمال السودان ويقضون هم الآخرون ألايام والليالي في خيم قرى النوبة، وكان هؤلاء الشعراء يستعملون الايقاع على الطار، وهم يؤدون أناشيدهم، ومنها أو قل أشهرها كما كانوا يقولونه مدحا في الميرغني وهو أحد حكماء السودان والذي كان ينتسب الى سيدنا الحسين، وكانت هذه المدائح التي تقال في مدحه ومدح من ينتمون إليه تركز على الوقار وسمة الزعامة منذ الطفولة الباكرة.
مرحباً بذرية الحسين، الشريف الجد وياسين، مرحبا
شيخك الجراك في الحسين، عمره ما جال ليك يا وليد، مرحبا
ومعنى ما قيل ان أهل قرى السودان ترحب بالميرغني الذي هو من ذرية سيدنا الحسين وجده الرسول صلى الله عليه وسلم، وشيخك الذي تولى تدريسك القرآن في الحسين ‘الكتاب’، لم يقل لك يوما اقرأ يا ولد كما يقول لأقرانك وهو نوع من التكريم للطفل.
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن القصائد التي تذكر بالإخوة ما دأب شعراء السودان على تلاوته في لياليهم بالنوبة.
من رقاد الويل واي أن
وخاش دفن الليل واي أنا
أهلي تانيين، دفنوا جوصارين واي أنا
ومعنى الأبيات أن الإنسان يخشى الحساب مهما كانت أعماله جيدة وتخشى الدفن ليلا، ويوم الحساب ينهل كل إنسان عن ولده كما جاء في القرآن الكريم آيات بهذا المعنى ويشهد على أفعالك يوم القيامة اللسان والايدي والقدم وغيرها من أعضاء، ثم يعبر الشاعر عن حزنه في وحدته في قبره الموحش بينما وراه التراب، اهله الحزانى وعادوا من المقابر، صادين أي عائدين.
وكثير من مظاهر الحضارة والمدنية المشتركة بين مصر والسودان تجدها مجسمة في النوبة التي لابد أن يعبرها كل غادر رائح في البلدين الشقيقين معا، ورغم صعوبة المواصلات، زمان، كانت القوافل لا تنتهي بين شمال الوادي وجنوبه.

القدس

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..