انسوا أميركا قليلاً!

تبين أن 99 في المئة من أوراق القضايا المصرية في أيادي الشعب المصري وليس الأميركيين.

بقلم: محمد علي إبراهيم

لا أدري ما الذي جعل أميركا تتغلغل في حياة العرب عامة والمصريين بصفة خاصة على هذا النحو. فهي تكاد تجري في دمائهم وتخرج مع أنفاسهم وتنضح من مسامهم. سيطرت على حياتنا اليومية من أول سندوتش الفول وحتى المصطلحات الاقتصادية والتحالفات الإقليمية. إذا سألت عن إرتفاع أسعار الأرز والعدس والبصل وغيره، يقولون لك “عشان الدولار”!.. العملة الأميركية تنخفض في العالم كله وتتراجع أمام نظيراتها الأوروبية والأسيوية.. ما عدا مصر.

إذا حدثت أزمة بين دولتين تجدهم يتكلمون عن الأصابع الأميركية. وإذا تدهورت أو تحسنت علاقات دول بعينها بأخرى تجدهم يفلسفون الأمور ويقولون لك إنها المصالح الأميركية.

المصيبة أن كثير من السياسيين المصريين يؤمنون أن “مفاتيح” الخير بيد أميركا، كما تملك “أقفال” الشر. لذلك يراهن الإخوان المسلمون على أن الولايات المتحدة تستطيع أن تنقذهم من أزمتهم الراهنة وتضغط بقوة على الفريق السيسي والحكومة الإنتقالية لإعادتهم لسدة الحكم مرة أخرى رغم الرفض الشعبي الجارف لهم. ومن ناحية أخرى لا تألوا الحكومة – والفريق السيسي نفسه ? جهداً لشرح الملابسات والدوافع والأسباب التي أدت إلى تحرك المصريين والقوات المسلحة لإزاحة الإخوان عن الحكم لفشلهم السياسي والاقتصادي، ولتهديدهم الأمن القومي المصري وتحويلهم سيناء إلى مرتع للقاعدة والإرهاب.

المعسكران ? الحكومة والإسلاميون ? يأملان خيراً في أميركا. فالإخوان يحلمون بتدخل عسكري يعيد الشرعية والشريعة، والحكومة تسعى لفهم صحيح لوجهة نظرها، وليس سراً أن الفريق أول عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع – ورجل مصر القوي الآن ? اتصل بوزير الدفاع الأميركي تشاك هاجل 16 مرة حتى الآن منذ 30 يونيو..

لا ينكر أحد أن أميركا ضغطت بكل الوسائل لإعادة مرسي، ثم انتابها اليأس لصلابة الموقف المصري، وهو ما يشجعني على القول بأن ما تريده واشنطن ليس قرآناً ولا انجيلاً! ولكنها تفاهمات تفشل أحياناً وتنجح أحياناً أخرى. أميركا لها مصالح ومصر كذلك. السياسيون الأذكياء يمكنهم التفاوض على المصالح والإيجابيات ويجعلونها تتغلب على السلبيات والخلافات في وجهات النظر.

المفاجأة المصرية

إن الرئيس السادات عندما أعلن أن 99% من أوراق اللعبة في يد الإدارة الأميركية كان يقصد القضية الفلسطينية فقط، ولم يقصد مطلقاً أن ننبطح لهم وننفذ ما يطلبون. والدليل أنه رفض نهائياً إقامة أي قواعد عسكرية أو تسهيلات بحرية لأميركا بعد اتفاقيات كامب ديفيد واعتماد 2.5 مليار دولار معونات اقتصادية وعسكرية من واشنطن للقاهرة.

لقد اثبت المصريون أنهم قادرون على مفاجأة أميركا.. فعلوها في 25 يناير 2011، وفي 30 يونيو 2013 وجهوا أقوى ضربة للمصالح الأميركية بإسقاط حكم الإخوان وأطاحوا بمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي بدأ الإخوان أولى خطوات تنفيذه مع إدارة أوباما وحصلوا نظير ذلك على 8 مليارات دولار.

وتجد نفسك مدفوعاً للتساؤل إذا كانت أميركا فشلت في كل الحلول التي قدمتها في العالم كله فلماذا نصر في مصر على حل أميركي، عموماً فأي حلول للأزمة المصرية بعيداً من الحل الأميركي ستكون مفيدة، فالتجارب أثبتت أن واشنطن لم تقدم حلاً سياسياً لمشكلة في دول أخرى إلا وكادت تهلك أهلها، فما بين العراق والصومال وافغانستان والسودان واليمن والبوسنة وسوريا طرحت الإدارة الأميركية حلولاً سياسية، فراح آلاف الضحايا جراء تطبيق النصائح على أرض الواقع، أما في شأن الربيع العربي فإن كل الأطراف التي اعتقدت أن العم سام لديه الحل السحري إما عصفت بها أخطاؤها وتاهت أو فشلت بفعل “الكتالوج” الأميركي المرفوض شعبياً أو في الطريق إلى التيه أو الفشل.

ضرب من الخيال

إذا ظل “الإخوان المسلمون” في مصر في انتظار الحل الأميركي فإنهم يراهنون رهاناً خاسراً، ليس لأن أميركا صارت بعد التطورات الأخيرة في مصر في موقف تعجز فيه عن تقديم حلول أو اقتراحات أو نصائح فقط، لكن ايضاً لأن واشنطن تستطيع أن تتعاطى مع الجماعة سواء في الحكم أو المعارضة، وتتعامل مع رموزها قبل وبعد ثورة يناير! وتعقد معهم الصفقات أو تبرم الاتفاقات أو تمارس مع مكتب الإرشاد التنسيق أو المواءمات، لكن أيضاً “الحليف الأميركي” لا يعرف جيداً طبيعة الجماعة ومستوى العلاقة بين أعضائها، ناهيك عن أن الأميركي لا يوزن قدرات الأطراف الأخرى في المعادلة بميزان سليم وإنما بحسب ولائها للبيت الأبيض، ولا يفرق معه إذا كان هذا الاقتراح أو ذاك يحقق مصالح “الإخوان”، فالمهم هو المصلحة الأميركية. وتكفي الإشارة إلى أن كل الجهود الأميركية والرحلات المكوكية ما بين واشنطن والقاهرة منذ تفجر الأزمة بفعل الإعلان الدستوري في نوفمبر الماضي لم تفض إلا إلى مزيد من الفشل للجماعة، فخسرت حكم مصر ووصل بها الحال إلى ما هي فيه الآن، حيث صار أقصى ما يمكن أن تفوز به عدم إقصائها وقبول الناس بها كطرف ضمن المشهد السياسي والتغاضي عن مشاهد القتل التي راح ضحيتها المئات سواء من ابناءها أو الأطراف الأخرى الجيش والشرطة والشعب.

أنياب لينة

أما الاعتماد على الأنياب الأميركية والدولية فثبت أن لا فائدة فيه، إذ ستبقى أنياباً لينة لن تؤثر في إصرار الحكم في مصر بدعم من الشعب، على المضي في خريطة الطريق السياسية التي قد تختلف أطياف المجتمع حول بعض بنودها أو تفاصيلها، لكن يتفقون على إبعاد المتورطين في العنف، تحريضاً وممارسة، من “الإخوان” عن المشاركة فيها. نعم يتحدث الأميركيون عن ضرورة مشاركة كل الأطراف في عملية تفاوضية لحل الأزمة، وقد يعتقد البعض أن الأمر يتوافق حتى مع وجهة النظر الرسمية وتلك التي تتبناها قوى سياسية مصرية منافسة لـ “الإخوان” تتحدث عن عدم الاحتكار أو احتواء شباب الجماعة، لكن تصور مائدة تجمع الرئيس المؤقت منصور أو رئيس الحكومة الببلاوي أو حتى الفريق السيسي مع مرشد “الإخوان” محمد بديع أو الرئيس المعزول محمد مرسي أمر تجاوزته الأحداث وصار من ضروب الخيال.

نعم كان الرئيس الأميركي أوباما محقاً عندما قال “لن تعود العلاقات المصرية ? الأميركية كما كانت قبل الإطاحة بمرسي” (وحكم الإخوان). فالأميركيون خسروا ما استثمروه وظنوا وفقاً لحسابات خاطئة ما كانوا يعتقدون أنهم سيربحونه، لكن مسار العلاقات بين واشنطن والقاهرة سيتغير لأسباب مصرية أيضا بعدما تبين أن 99 في المئة من أوراق القضايا المصرية في أيادي الشعب المصري وليس الأميركيين، وبعدما أيقن المصريون أن مساندة واشنطن لثورة يناير أو القبول بنتائجها لم يكن دعما للديموقراطية أو حرصاً على خيارات الشعوب وإنما لكون نظام مبارك فقد مقومات بقائه. ويبدو أن المصريين كأنهم عثروا على الصيغة التي ترضيهم في العلاقة مع واشنطن وأصبحوا على قناعة بأن قضاياهم لن تحل ابدأ من البيت الأبيض وإن الحل بالنسبة لـ “الإخوان أن يتمصروا لأن التجربة اثبتت أن مصر لن تتأخون”.

مطلوب فرامل

والآن وبعد هذا الشرح المطول.. اعتقد أنه أصبح لزاماً على المصريين تغيير سلوك حياتهم تجاه “الحلم الأميركي” و”النموذج الأميركي”.. هذه كلها أضغاث أحلام. أميركا تعبد الديكتاتورية إذا خدمت مصالحها ولك في الصين خير مثال.. وتكره الديموقراطية إذا تعارضت مع مصالحها كما حدث في قبرص وغزة وفنزويلا وباكستان وجورجيا.. علينا أن نتوقف عن التهافت للحصول على تأشيرة لأميركا، أو أن تسعى بعض سيدات المجتمع للسفر للولايات المتحدة كي تلد ابنها أو ابنتها في مستشفى أميركي ليحصل على الجنسية.. أميركا لا تملك لنا ضراً ولا نفعاً، بالعكس العرب ? لو أرادوا ? لأقاموا سوقاً عربية مشتركة تغنيهم عن أي استيراد.. هذا وقت العمل وليس الكلام.. نريد سياسة مستقلة للعرب جميعاً.. وإذا كانت قطر هي النموذج العربي لإسرائيل، فدعونا نعاقبها أو نحجمها.. لن تحل قطر محل مصر حتى لو امتلكت كنوز الدنيا.. الدول ليست بالثراء ولكن بالحضارة والمكانة والموقع والجيش.. هناك دول فقيرة كالهند مثلاً ولكنها عظيمة في استقلالها وقرارها.

انسوا أميركا قليلاً.. لا أقول نعاديها أو ندير ظهورنا لها.. لكن لا داعي لكل هذا الوله بها والحديث عن دورها وتعظيم امكانياتها.. ولا تنسوا أن دولة فقيرة اسمها فيتنام أذلتها ومرغت رأسها في الوحل.. لا نقول أننا قادرون على تحدي العم سام، ولكننا قادرون أن نكون مستقلين وأسياداً لأنفسنا.

محمد علي إبراهيم

رئيس تحرير صحيفة الجمهورية سابقا – مصر
ميدل ايست أونلاين

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..