أحزان الجماعة

لن ينفع جماعة الأخوان أن تقدم نفسها كضحية لانقلاب وهي التي استنجدت بأميركا ضد المصريين.
بقلم: فرانسوا باسيلي
جلس الدكتور محمد بديع المرشد العام لجماعة الاخوان المسلمين صامتا ليس على وجهه أي ملمح لمشاعر واضحة في الدقائق التي ظهر فيها في الفيديو الذي صور له بعد القاء القبض عليه. رحت أتأمل ملامح الرجل محاولا استشفاف ما يدور في رأسه أو وجدانه، ولكن وجهه بدا جامدا محايدا لا يشي بما يعتمل وراءه. ورغم رفضي الكامل لكل ما يمثله الرجل وجماعته إلا أنني شعرت نحوه بالرثاء بشكل إنساني بحت، فلابد أن الرجل يعاني من شعور هائل بالحزن الوجودي المزلزل، فهو ليس فقط قد فقد فجأة، وفي لحظة، حلم عمره وحلم جماعته التاريخي الذي انتظروه اكثر من ثمانين عاما وكان قد تحقق لهم بشكل مذهل وهو حكم أكبر دولة عربية وبداية إعادة تشكيل المنطقة لتحقيق حلم إعادة الخلافة الاسلامية وهم على رأسها، ليس فقط قد سقط هذا الحلم المدهش فجأة، وسقط معه الرجل من موقعه الذي ظل يحكم منه مصر بالوكالة لعام كامل ظن أنه سيمتد ليصبح سنوات بل عقودا عديدة، ولكن الرجل قد فقد منذ أيام نجله عمار محمد بديع الذي توفي أمام مسجد الفتح بعد تبادل لإطلاق النار بين المعتصمين داخل المسجد وقوات الأمن.
مأساة الرجل إذن هي مأساة عامة وخاصة في نفس الوقت، يفقد حلم عمره الديني- السياسي ويفقد نجله في نفس اللحظة، وفي نفس المعركة الخاسرة، وتسقط أيضا بالرصاص أسماء محمد البلتاجي الابنة الوحيدة للقيادي البارز في الجماعة محمد البلتاجي، بينما يتوالى القبض على معظم القيادات العليا والوسطى للجماعة وقد تفرقت هاربة في كل إتجاه داخل القاهرة وفي مشارق مصر ومغاربها، بالإضافة إلى سقوط المئات من أنصار الجماعة في مواجهات دموية مع الأمن في الأيام القليلة السابقة.
حزن السقوط
إنها مأساة لا تكاد تضاهيها تراجيديات شكسبير بكل ما فيها من صراعات ومؤامرات وخيانات ونهايات فادحة، بل هي مأساة يمكن مقارنتها بالتراجيديات الإغريقية وأساطيرها الدرامية المحتدمة، هي الكوميديا الإلهية لدانتي أو هي جحيمه الذي يتحقق بأبعاده الدرامية الدموية الهائلة. فما حدث للجماعة في مصر هو في كل الأحوال وبكل المقاييس مصيبة لا مثيل لوقعها وهولها، لا شك سينظر إليها الرجل وجماعته باعتبارها أعظم محنة يمكن أن يبلي بها الله عباده، فهي ضربة تأتي من الأرض ومن السماء معا، لتزلزل أركان معبد الإيمان الذي يلوذ به كل مؤمن، فلابد أن الرجل ومعه كل جماعته يتسائلون كيف يرضى الله سبحانه بهذا القدر الهائل من آلام السقوط والتقويض والإنهيار من أعلى العليين لجماعة كان كل حلمها هو إعادة أمجاد الخلافة الإسلامية وإعلاء راية الإسلام الحق فوق العالمين؟ كيف يخذل الله من آمن بمثل هذا الحلم العظيم وتحمل في سبيله آلام السجن والملاحقة والتشريد والتعذيب من النظم المختلفة في مصر على مدى أكثر من سبعين عاما؟ أي ابتلاء عظيم هذا الذي يبتلي به الله عباده؟ ولماذا؟ كيف يسمح الله العادل الرحيم بأن تسقط الجماعة هكذا في أعظم محنة تنزل بها في تاريخها المليء بالمحن المزلزلة، وبعد أن كانت قد قطفت أخيرا ثمرة سنوات العذاب والاقصاء والإعتقال والاضطهاد فدانت لها مصر الكنانة بكل ما فيها ومن فيها؟
لابد أن هذه التساؤلات كانت تعصف بعقل وقلب المرشد العام وهو يجلس صامتا، وحيدا، أمامه زجاجة مياه وكوب عصير قدمه له من قاموا “بأسره” – بلغة الجماعة – يحيط به العشرات من أعدائه، وليس من اعتاد عليهم من عشرات المحبين الطائعين له من أعضاء جماعته، لابد أنه لا يكاد يصدق ما جرى له ولجماعته في الأسابيع القليلة الماضية، بل في العامين الماضيين بكل ما فيهما من خطوات النجاح المذهل الذي حققته الجماعة أولا في دخولها مجلس الشعب بهذا الشكل القوي الذي أثبت تأييد الجماهير لها، ثم فوز مرشحها برئاسة الجمهورية في لحظة تاريخية لم تكن الجماعة لتتصورها إلا في الأحلام، وقيام الرئيس الاخواني بالتخلص السريع والسهل من قيادة المجلس العسكري التي بدت كأنها تشاركه الحكم، ثم الصعود السريع المضطرد للجماعة في خطواتها الثابتة نحو التمكين لها في الاستحواذ على أهم مفاتيح ومفاصل الدولة المصرية سواء في الوزارات أو المحليات أو المؤسسات والهيئات، ومنها ما كان محرما عليها الإقتراب منها طول الوقت مثل الجيش والشرطة والمخابرات، هذا كله وسط أجواء ترحيب بل تهليل عالمي وخاصة أميركي واضح وجلي، حتى أن مجلة التايم الأميركية الأشهر كانت تنوي إختيار مرسي كرجل عام 2012 ولكنها اضطرت في أخر لحظة لتغيير اختيارها بعد أن قام الرئيس المصري بإعلان دستوري وصفته المعارضة بأنه دكتاتوري منح به نفسه كل السلطات وحصن به قراراته ضد أحكام القضاء، ومع ذلك اختاروا الرجل من بين الخمس شخصيات الأهم في العالم لذلك العام.
حزن الخيانة
لابد أنها أحزان هائلة تلك التي تعصف بالرجل وجماعته، ومما يزيد من وجعها بلا شك هو الشعور بأن ما حدث لهم كان بسبب ما يرون أنه خيانة من الفريق السيسي وزيرالدفاع. ففي المواجهة الفاصلة بينه وبين الرئيس المعزول مرسي قال مرسي للسيسي: أنا الذي أتيت بك! وكأنه يستعيد كلمات يوليوس قيصر وهو يترنح هاويا وخنجر قائده وزميله بروتس يغور في قلبه فينظر في عينيه سائلا في إستنكار تناقلته العصور من بعده: حتى أنت يا بروتس؟ هكذا سينظر الرجل وجماعته إلى محنتهم الجديدة وهكذا سيدخلونها في أدبياتهم التي سيحفظها كل من يجيء بعدهم فيزداد بذلك توهج فكرة الإستشهاد التي تشتعل براقة في فكر وتاريخ الجماعة تضمن بها إستمرار الشحن العاطفي الذي تجذب به أنقى الشباب ليدخل في طاعتها ويقسم على أهدافها. ولكن أدبيات الجماعة هذه لن تحفظ العبارة الخطيرة التالية التي قالها مرسي للسيسي: أميركا مش حاتسيبكم. وبهذا يعترف من كان رئيس مصر أنه كان يعتقد أن بقاءه في منصبه مرهون برضا القوة الأعظم في العالم وأن كل رهاناته كانت على هذه القوة وليس على شعب مصر، فالرجل لم يقل للسيسي الشعب مش حايسيبكم.
لقد حدثت خيانة إذن، لكنها لم تكن خيانة من السيسي لرئيسه، فولاء الجيش الأول هو للوطن وليس لشخص الرئيس وجماعته، فالسيسي والجيش المصري تصرف على أعلى قدر من المسؤلية والإنتماء الوطني الحار حينما إصطف إلى جانب الشعب، من خان هو من أسند ظهره عبثا وجهلا على قوة خارجية تعاقد معها لمصلحة جماعته على حساب مصلحة مصر، هي إذن خيانة وطنية من أعلى مسؤول في الدولة لا مثيل لها في تاريخ مصر. فحتى الملك فاروق وهو من أصل غير مصري كان خصما للانجليز وليس عميلا لهم، فهل سيملك الاخوان القدرة على النظر داخل أنفسهم ليروا كيف رآهم الشعب المصري الذي صوت لهم وائتمنهم على مصير وطن بحجم وتاريخ وعظمة مصر فلم يجد فيهم سوى جماعة خائنة للأمانة فاشلة في تحمل المسؤلية لا هم لها سوى العمل على تمكين أعضائها من مفاصل الدولة المصرية وتغيير هوية مصر التاريخية لتخرج من ثوبها الحضاري الباهر وتتلفح بعباية الاخوان السوداء الضيقة الخانقة؟
بالطبع لن تقدر الجماعة على هذا فالصدق مع النفس ليس من طبيعتها التاريخية، والمؤكد أن الجماعة ستزيد من جرعة مشاعر الإستشهاد التي تتشربها بتلذذ وشغف، ألم يكن هذا واضحا منذ البداية، حين قام مؤسسها حسن البنا بتسمية إحدى بناته إستشهاد؟ ولا أعتقد أن رجلا أخر في مصر في القرن العشرين سمى ابنته بهذا الاسم الذي يعتبر اغتصابا قاسيا لبراءة طفلة منذ مولدها، وألا يفسر لنا هذا كيف كان من الطبيعي لقيادات هذه الجماعة أن تأخذ الأطفال الأبرياء من أحضان أمهاتهم أو من بيوت الملاجيء لكي تسوقهم وقد أعطتهم أكفانا يحملونها وملابس يلبسونها تحمل عبارة مشروع شهيد؟ فهل ستشمل أحزان الجماعة ولو خيطا واهيا من الندم لما وصلت إليه صورتها في أعين أغلبية المصريين باعتبارها جماعة خائنة تستدعي الأجنبي ضد أبناء الوطن؟
حزن الفشل
كما أننا لسنا بالسذاجة التي تجعلنا نتوهم أن أحزان الجماعة يمكن أن تشمل حزنا أو ندما على ما أصاب مصر على يدي الحكم الاخواني من أضرار هائلة تمس أمنها وسلامتها ومكانتها في العالم بشكل لم تعرفه مصر منذ عصر إنحطاط المماليك. فالجماعة غير قادرة على رؤية نفسها فلا تستطيع أن ترى ما رآه كل مصري من فشل كاد أن يكون كوميديا لولا أنه كان قاسيا جدا على نفسية المصريين بما يحمل من مهانة لمصر كانت تفضحها كل كلمة ينطق بها مرسي وكل حركة وفعل وقرار يأخذه أو يرسله له مكتب إرشاد الجماعة، وقد اعترف أحد مستشاري الرئيس المستقيلين والمحسوبين على الجماعة أن بعض القرارات كانت تعرض مسبقا على مكتب الإرشاد، كما رأينا كيف كان شخصا بلا صفة في الدولة مثل خيرت الشاطر يقوم بأدوار سياسية ويجري مقابلات دولية وكأن مصر قد صارت عزبة دواجن يؤجرها الرئيس لمن يشاء. لقد كان فشل الجماعة كاملا وهائلا، كما كان فسادها فظا وفجا.
كان نقص الخبرة والكفاءة والذكاء في كوادر الجماعة أمرا واضحا وفاضحا لذلك كان الفشل الهائل إلى حد الهزل هو مصيرها، ومثال واحد لهذا الفشل الهزلي هو ما رآه المصريون بأعينهم على شاشات التلفزيون حين شاهدوا رئيس مصر يترأس مؤتمرا لمناقشة قضية أمن مصر القومي المتمثل في التهديد الاثيوبي لمياه النيل فإذا بالحاضرين يخوضون في مناقشات خطيرة عن القيام بأعمال تخريبية داخل اثوبيا غير واعين بأن الإجتماع مذاع على الهواء لكي يرى العالم كله فضيحة إخفاق الرئاسة المصرية في إدارة إجتماع على هذا القدر من الأهمية فيخرج على هذا القدر من الهزل والهبل، ولكن أسوأ ما أدان الجماعة وأسقطها في ضمير المصريين كان وضعها مصلحة الجماعة فوق مصلحة مصر، والنظر إلى مصر ليس كوطن هائل له تاريخ عظيم ولكن كمجرد إمارة يمكن أن تتبع مركز الخلافة الإسلامية التي كانت الجماعة في حلم دائم بها، ولو كان هذا المركز في ماليزيا أو القدس أو إسطنبول، هي إذن خيانة الجماعة لمصر كوطن وكحضارة وكتاريخ ما أسرع بإسقاطها في ضمير المصريين ثم في الشوارع التي خرج إليها ثلاثون مليون مصري يعلنون فيها هذا السقوط.
حزن الهزيمة
وهل ستشمل أحزان الجماعة مسؤليتها عن ضحايا بالمئات، تقول الجماعة أنهم بالآلاف، بين قتيل وجريح في صفوفها راحوا ضحية معركة كانت الجماعة تعرف، أو كان يجب عليها أن تعرف، أنها لابد ستكون خاسرة بالضرورة، فقد كانت معارك الجماعة في الماضي كلها خاسرة رغم أنها كانت ضد النظام فقط، فما بالها وهي اليوم في معركة ليس فقط مع الشرطة ولكن أيضا مع الجيش المصري، والشعب المصري بمختلف أطيافه ومؤسساته، من قضاء إلى إعلام إلى المؤسسات الثقافية والفنية والدينية. فقد قامت الجماعة برعونة غير مسبوقة بمعاداة المؤسستين الدينيتين الكبرتين في مصر وهما الأزهر الشريف والكنيسة القبطية، فقد راحت الجماعة تهاجم شيخ الأزهر وتقلل من شأنه وتجاهله مرسي في أحد لقاءاته بشكل فظ وغبي.
كما تم في عهد الجماعة الإعتداء بالرصاص والحجارة ولأول مرة في التاريخ على كاتدرائية الأقباط بالقاهرة مؤديا إلى مقتل واصابة العشرات، غير اعتداءات أخرى وقعت في عهد مرسي، كللتها الجماعة بعد عزله بسلسلة من عمليات الحرق والهدم لعدد هائل من الكنائس والأديرة القبطية في مختلف محافظات مصر بشكل غير مسبوق في التاريخ المصري، مما عزز لدى المصريين مسلمين وأقباط أن الجماعة لابد أنها كانت وراء كافة عمليات العنف الطائفي ضد الأقباط على مدى الأربعين عاما الماضية منذ أن أطلق السادات جحافل الجماعة وحلفائها من الجماعات الاسلاموية على المجتمع المصري في السبعينيات، وأستمر نظام مبارك في الرقص مع الجماعة رقصة سياسية وأمنية مبتذلة لم تمنعها من ترويع الأقباط بشكل يشفي غليل كراهيتها لهم من ناحية ويلبي حاجة النظام إلى إبتزاز الأقباط من ناحية أخرى.
لن تكون محاولة إغتيال وزير الداخلية منذ أيام آخر محاولات تيار تاريخه مكتظ بأعمال ارهابية مماثلة، فسيلجأ إلى العنف كما لجأ إليه دائما كلما وجد أن النظام قد إنتصر عليه وأن المصريين قد انصرفوا عن الفكر المتطرف لهذا التيار، ونتوقع تكرار هذه الأعمال الارهابية من تفجيرات واغتيالات هنا وهناك لفترة من الوقت كما كان الوضع في التسعينيات، وما هذه الأعمال الارهابية في الواقع سوى صورة من صور الانتحار للجماعة والاعتراف الضمني منها بهزيمتها في معركة بائسة يائسة خاسرة بالضرورة، فلن تخرج جماعة مهما كانت فاشيتها من معركة مع وطن بحجم مصر سوى بالهزيمة.
حزن الندم
ولعل الحزن الأكبر للجماعة هو حزن مشوب بندم من يعرف أنه أخطأ خطأ تاريخيا هائلا رغم عدم قدرته على الاعتراف بذلك. فلا شك أنه في داخل ضمير مرشد الجماعة السجين والكثيرين من قياداتها، رغم كل محاولات الانكار والمكابرة، شعور قاتل بأن النتيجة المأساوية التي وصلوا إليها على المستويين التنظيمي والشخصي كان يمكن تفاديها، وكان يمكن للجماعة أن تبقى على رأس السلطة في مصر على الأقل لمدة الأربع سنوات المرسية وربما لأكثر منها بكثير لو كانت الجماعة قد لجمت جماح جشعها المتوحش ولم تحاول الإستئثار بالسلطة وإحتكار الحكم وحاولت بشكل أكبر وجهد أعظم احتضان كافة قطاعات الدولة المصرية ومؤسساتها الهامة، ولم تحاول، كما قال أردوغان لصديقه مرسي، أن تقضم أكثر مما تقدر أن تمضغ، وأن تصبر وتتمهل ولا تحاول أخونة الدولة المصرية العريقة، ولا تهرول إلى طبخ دستور ترفضه كل التيارات غير الاسلاموية، وتمتنع عن تخويف غير المتأسلمين من المصريين في مجالات السياحة والثقافة والفنون والابداع والسينما وغيرها، بالإضافة إلى اهمال علاقتها مع الأقليات وخاصة شركاء الوطن من المسيحيين الذين شاهدوا بانزعاج شديد أفواج الارهابيين القدامى يسمح لها النظام بالعودة الحميدة من الخارج إلى مصر فيما يمنح مرسي العفو عن مئات من المساجين الارهابيين دون تقديم ولو تفسيرات أو تطمينات كلامية حول هذا الأمر.
هل يمكن أن تكون الجماعة قد شعرت بالندم على الهرولة العدوانية نحو فرض الرؤية الاخوانية على مصر كلها وهو ما دفع المصريين إلى الإنتفاض والتمرد دفاعا عن هويتهم الأصيلة بإسقاط الاخوان؟ هل يمكن أن يكون الجماعة قد ندمت على خطابها الديني المتشدد المتعسف الزاعق المخالف لتدين المصريين الوسطي التلقائي الهادئ؟ هل ندمت الجماعة على جريمتها ضد الانسانية حين زجت بالشباب بل والأطفال في معركة جنونية غير ضرورية وغير متكافئة مع الأمن المصري والشعب المصري كله فسقط المئات من أعضائها المغرر بهم، وسقط أبناء القادة من الشباب والشابات ضحايا لهذه الجريمة بينما لم يصب أحد من رجال قيادات الجماعة ولو بخدش؟
تاريخ الجماعة يقول لنا أن الجماعة لا تندم لأنها لا ترى ولا تعترف بأي أخطاء لها فقياداتها تقدم نفسها لأتباعها باعتبارها قيادة ملهمة تطلب وتستحق السمع والطاعة وبالتالي فهي لا تملك رفاهية أن تندم، هي فقط تبرر بأن ما يحدث لها هي محن وابتلاء من الله لعباده المؤمنين، بينما كل محن الجماعة هي من صنعها بنفسها ولنفسها، هي محن تحدث كنتيجة طبيعية لأخطاء وخطايا وجرائم الجماعة وجشعها وشهوتها في التسلط والتملك الأرضي وليس لعلاقة لها بالسماء. وبسبب ذلك الإنكار الأبدي للأخطاء والتبرير المستمر المتستر بالدين للخطايا والجرائم فلا نجاة للجماعة أبدا من محنها التي تصنعها بيديها ولا أمل في أي تغيير حقيقي في أفكارها وأساليبها، ولذلك فكل كلام عن مصالحة أو إعادة تأهيل للجماعة هو مزيج من الجهل بالطبيعة الفاشية للجماعة والخيانة لمصر ومصلحتها العليا.
حزن الوداع
في النهاية فإن الحزن الأخير للجماعة هو حزن الوداع، فلابد أن الجماعة تكاد ترى نهايتها مكتوبة بأحرف سوداء تلطخ كل جدران المباني التي أحرقتها في أنحاء مصر بما يفوق إحراقها للقاهرة في 26 يناير 1952، فعلى جدران كل قسم شرطة أحرقه الاخوان وقتلوا وسحلوا ضباطه وجنوده، وعلى جدران متحف ملوي الذي احرقوه ونهبوا ما به من آثار مصر القديمة التي لا تقدر بثمن ولا يعرف هذا التيار الظلامي قيمة لها، وعلى جدران كل كنيسة ودير وملجأ أيتام قبطي حرقه وهدمه الاخوان، لابد أن المصريين الذين تمج أنفسهم المسالمة هذا العنف الوحشي وهذه الكراهية الفظة قد رأوا نهاية الاخوان مكتوبة بأحرف من السواد الذي تركه رماد هذه الحرائق على الجدران، الجماعة تدرك الآن لأول مرة في تاريخها أن الشعب المصري، وليس النظام فقط، قد صار عدوا لها رافضا لفكرها الكاره الكريه ولأفعالها الارهابية الدموية المجافية للطبيعة المصرية قبل أي شيء آخر.
يحق للجماعة إذن أن تحزن حزن الوداع وأن يمشي قادتها في جنازتها إلى مثواها الأخير، وكما لم يمش في جنازة مؤسس الجماعة حسن البنا سوى رجل واحد هو الزعيم القبطي مكرم عبيد، فإن الجماعة هذه المرة قد لا تجد حتى ذلك القبطي الوحيد الذي يمشي في جنازتها للمواساة، ذلك أن الجماعة قد قطعت رباط الرحم الذي يربطها بمسقط رأسها مصر، ولم يعد في قلب مصر تجاه هذه الجماعة المشوهة الشرهة غير الرغبة الحثيثة في الخلاص منها كما يرغب الجسد المريض في الخلاص من مرض خبيث ظل ينهش فيه لسنوات، فكان لابد في النهاية من إستئصاله في عملية جراحية خطيرة، مؤلمة، ضرورية، وناجحة تماما بإذن الله.
فرانسوا باسيلي
ميدل ايست أونلاين