خيارات المؤتمر الوطني الصعبة: الشريعة أو وحدة السودان

موقف حزب المؤتمر الوطني وحكومته من قضية الوحدة والإنفصال يتلخص في انه يريد الاحتفاظ "بالكيكة" سالمة ويأكلها في نفس الوقت (have their cake and eat it). فهو يرغب في الحفاظ على خطابه الاسلاموي سالما ويحتفظ بالسودان موحدا في نفس الوقت. فهو من جهة متمسك بوحدة السودان "كما ورثناه من أجدادنا" ، على حد قول الرئيس البشير، وهم من جهة أخرى متمسك بخطابه الاسلاموي الإقصائي. وهذا يعني "أكل الجدادة وخم بيضها". وهذا ما لم يمكن أن يحدث ولكن يبدو ان الحزب يظن أنه من الممكن تحقيق ذلك بأساليب الخداع والفهلوة والمرواغة والشطارة التي استخدمها إبان الفترة الإنتقالية وقادت الى توسيع فجوة الثقة بينه وبين الحركة الشعبية لتحرير السودان.

المؤتمر الوطني وحكومته، بل والسودان كله، الان في مفترق طرق لا توجد فيه "زقاقات" يمكن الهروب من خلالها، كما هي عادة حكومة الإنقاذ منذ أن جاءت الى السلطة في يونيو 1989. فإذا كانت وحدة السودان هما وأولوية قصوى لحزب المؤتمر الوطني في المرحلة القادمة فهو إذا أمام أحد خيارين لا ثالث لهما: إما أن يتخلى عن كل شعارات المشروع الحضاري، التي ثبت زيفها عمليا ونظريا، وكل شعاراته ودعواته لتطبيق للشريعة (وإن كان قد تخلى عنها عمليا فنيفاشا والإنتخابات نفسها هي تخلي عن الشريعة) ويتبنى قيام دولة مدنية دستورية تكون على مسافة واحدة من كل الأديان والثقافات، أو أن يقبل بتفتيت السودان وإنفضال الجنوب وتكوين دولة جديدة علي أراضيه.

ولعله من سؤ طالع المؤتمر الوطني ان لكل من الخيارين ثمن باهظ ومستحقات لا يمكنه تحمل تبعاتها. فالخيار الأول، بطبيعة الحال، يعني، بالإضافة الى وزر تفتيت السودان، فقدان الحزب لكل مبررات وجوده وفقدانه لما تبقى له من مصداقية وسط المهوسين من أتباعه والجهات السلفية التي تقدم له السند الأيدولوجي مثل "هيئة علماء السودان"، والجماعات الأسلامية الأخرى التي تتعاطف مع شعار الشريعة مثل جماعة الوهابية، والأخوان المسلمون وما تبقى من شباب المجاهدين الذين لم تأكلهم حرب الجنوب. أما الخيار الثاني فيمثل الثمن الباهظ الذي يمكن ان يدفعه المؤتمر الوطني جراء تمسكه بالخيار الأول الذي يعطي التقاعس عن قبوله مبررا تاريخيا لقبول إنقصال الجنوب والإعتراف به من قبل المجتمع الدولي المستعد تماما لقبول الخيار الإنفصالي وقيام دولة الجنوب المستقلة.

ومن أدلة هذا الإستعداد الدولي لقبول قيام دولة منفصلة في الجنوب أن الولايات المتحدة الأمريكية، كما أوردت صحيفة "الصحافة" الاليكترونية الصادرة في 10 يونيو 2010، أسندت ملف الجنوب لنائب رئيسها بايدن "وأبلغت الإدارة الأميركية، حكومة جنوب السودان رسميا بأنها ستعترف بقيام دولة في الجنوب حال ترجيح الجنوبيين لخيار الانفصال في الاستفتاء على حق تقرير المصير في يناير 2011، وأكدت أنها ستدعم الدولة الوليدة وتعمل على استقرارها".

وفي حقيقة الأمر هناك شك كبير في أن يجعل تخلي الحكومة تماما عن خيار الشريعة الوحدة خيارا جاذبا للجنوبين بعد ما عايشوه من تلاعبات بنيفاشا في إبان الفترة الإنتقالية ومحاولات الحكومة للإلتفاف عليها للحفاظ على شمولية الإنقاذ كما حدث في الإحصاء السكاني واجازة قانون الانتخابات، والتسجيل لها واجراءاتها، وقانون الأمن والوطني وغيرها من المراوغات. كما أن المؤتمر الوطني إستخدم الشريعة كخطاب إنتخابي وحيد في الانتخابات الأخيرة. هذا بالإضافة الى الدعوات الإنفصالية الوقحة التي تأتي على لسان كثير من الدوائر المحسوبة على حزب المؤتمر الوطني. وليس أدل على هذا من الصيحة العجيبة الصادرة من منبر السلام العادل معلنة أن "منبر الجنوب أرض (كفر) وليست ديار (إسلام)" وقولة رئيس المنبر الطيب مصطفي " نطالب بالانفصال حتي ولو دخل الجنوبيون في دين الله أفواجا!!". فالمسألة إذا ليست مسألة اسلام ودين ولكنها مسألة عنصرية تخالف كل البناء القيمي الذي اقامه الاسلام وساوى ييه بين سيدنا بلال وسيدنا ابي ذر، رضي الله عنهما، على قاعدة لا "فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى".

ومن الناحية الأخرى، فإن الجنوبين قيادة وشعبا قد وطنوا أنفسهم على الإنفصال وقيام دولتهم المستقلة. فقد أوردت صحيفة الوطن في نسختها الإليكترونية الصادرة في 10 يونيو 2010 خبرا يقول " في أول تحرك شعبي رسمي نحو فصل الجنوب خرجت جموع شبابية هادرة بمدينة جوبا حاضرة الجنوب، وطافت شوارعها مردِّدة هتافات تنادي بفصل الجنوب. وأبلغ شهود عيان «الوطن» بأن الجموع تردِّد هتافات تنادي بقيام دولة الجنوب". ولهم عندي في ذلك كل العذر، فانهم و منذ فجر الاستقلال السياسي للسودان، لم يجدو من الحكومات الشمالية، السابقة والحاضرة، غير السيف والسوط والتهميش. ومما زاد الطين بلة ان الحكومة الحالية جاءت بلافتة اسلاموية تبرر للإفصاء والتهميش وتعامل الجنوبين الذين تمردوا عليها، ليس كمواطنين لهم حقوق وواجبات دستورية، ولكن ككفرة يجب قتالهم وإجبارهم على قبول الإسلام.

لقد رسم الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان الحاكمة في الجنوب، باقان أموم، في حوار مع «الشرق الأوسط»، صورة قاتمة للأوضاع.. قائلا إن قطار الوحدة قد ولى.. ولم تبق قطرة أمل واحدة لوحدة السودان، «إلا إذا قام المؤتمر الوطني (بزعامة الرئيس عمر البشير) باحتلال الجنوب عسكريا.. وبالتالي فلن تكون وحدة.. وإنما احتلال». كما هدد بأن أي دعوة لتأجيل الاستفتاء، ستكون بمثابة دعوة لنقض اتفاقية السلام وبالتالي العودة لمرحلة الحرب. كما أشار إلى أن عرقلة الاستفتاء أو محاولة إلغائه ستؤدي أيضا إلى أن يقوم برلمان الجنوب باتخاذ قرارات وخيارات أخرى بديلة".

والسؤال الان هو: هل كانت الشريعة سببا في هذه الدعوات الإنفصالية من قبل الجنوبين؟ لا يخفى على المراقب أن التنافر الذي ميز الفترة الإنتقالية بين الشريكين هو في الحقيقة إنعكاس للتنافر الأيدولوجي بين الحركة الشعبية وحزب المؤتمر الوطني. وقد أعلنت قيادات الحركة الشعبية بشكل متكرر نفورها من الخطاب الأسلاموي الإقصائي للمؤتمر الوطني. ففي إجابة على سؤال من صحيفة الشرق الأوسط يقول" هل هذا يعني أننا سنشهد ميلاد دولة جديدة لا محالة في مطلع العام المقبل؟ ألا يوجد أي أمل للوحدة؟ أجاب أموم بكل وضوح "، أجاب باقان اموم بحسم " في ظل نظام الإنقاذ الوطني، ومشروعه الإسلامي، لا يوجد حل، ولا قطرة أمل واحدة من أجل تحقيق وحدة السودان. لأن توجه الإنقاذ هو توجه إقصائي.. ومن نتائجه المنطقية انقسام السودان إلى دول، وابتعاد الجنوب، لأن مشروع الإنقاذ أقصى الجنوبيين في المقام الأول. لا يمكن أن تنتهج الإقصاء وتتحدث عن الوحدة. لا توجد إمكانية أو أي فرصة حتى ولو ضئيلة لتحقيق وحدة السودان، إلا إذا قام المؤتمر الوطني، بإعادة احتلال الجنوب والسيطرة عليه بالقوة العسكرية. وستكون خطوة دموية، وبذلك لن تكون وحدة، ولكن احتلال".

لقد حذر الأخوان الجمهوريون منذ فترة طويلة من هذا المأزق المعضلة في منشور "هذا او الطوفان" التاريخي الذي أصدره الأخوان الجمهوريون في 2 ديسمبر 1984، عشية تطبيق قوانين سيتمبر 1983 الاسلاموية، والذي تظهر قراءته الان، بعد أكثر من عقدين من صدوره، وكانه كتب ليواجه معضلتنا الحاضرة. ورد في ذلك المنشور التاريخي، وهويتحدث عن قوانين سبتمبر " إن هذه القوانين قد هددت وحدة البلاد ، وقسمت هذا الشعب في الشمال والجنوب و ذلك بما أثارته من حساسية دينية كانت من العوامل الأساسية التي أدت إلى تفاقم مشكلة الجنوب .. إن من خطل الرأي أن يزعم أحد أن المسيحي لا يضار بتطبيق الشريعة .. ذلك بأن المسلم في هذه الشريعة وصي على غير المسلم ، بموجب آية السيف ، وآية الجزية .. فحقوقهما غير متساوية .. أما المواطن ، اليوم ، فلا يكفي أن تكون له حرية العبادة وحدها ، وإنما من حقه أن يتمتع بسائر حقوق المواطنة ، وعلي قدم المساواة ، مع كافة المواطنين الآخرين .. إن للمواطنين في الجنوب حقا في بلادهم لا تكفله لهم الشريعة ، وإنما يكفله لهم الإسلام في مستوى أصول القرآن ( السنة) . ويجب أن نلاحظ هنا أن المنشور يتحدث عن الشريعة الإسلامية في نصاعتها وشكلها القراني وليس الشريعة المزيفة التي يتبناها قادة الإسلام السياسي ومنهم قيادات المؤتمر الوطني. اللهم أحفظ السودان واحدا موحدا وإلا فألهمنا الصبر والسلوان….!!!!!!!!

د. احمد مصطفى الحسين
[email protected]

تعليق واحد

  1. الشريعةالاسمية على الطريقة الانقاذية الكلها محسوبية او وحدة السودان ولاخيار ثالث نهائيا لان الجنوبيين تعلمو والغرب يساعدهم وانتهى عهد التسلط غشان الناس لاتضيع الوقت وتهي نفسها لما هو سئ ونحن ماشايفين هنالك شريعة اللهم الا الاسم اعداء الشريعة الان مبسوسطين لان السودان فشل ومحبى الشريعة اصيبو بخيبة امل كبيرة في العالم
    الدين اصبح مطية للوصول الي السلطة فقط وعند الوصول اليها تجد المحسوبية والفساد الذى لانجدة في بلاد الكفار

  2. قال تعالى ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصرى حى تتبع ملتهم )

    الناظر لحال الجنوبين هم لا يريدون فقط الإنفصال بل يريدونا ان نتخلى عن شريعتنا السمحة الابية كلا أنها لظى ابدا بل من وراء يرديون ان نتلخى عن ديننا الحنيف وأن نتبع ديدنهم ودينهم

    تكالب موقف الاعداء منا لقاء بين شرق مستبد وغرب بالعداوة واجهانا

    اعمل حسابكم ياجنوبين لودايرن الحرب نحن قدام

  3. حكماء السودان الان تنقصهم الحكمة والرؤية الثاقبة .وتتملكهم العاطفة الدينية. رغم ان الدين الاسلامي دخل السودان من غير حرب وتغلغل فينا رويدا رويدا حتى صار عاداتنا وحركاتنا من غير تطبيق الشر يعه وفرضها على المجتمع من قبل اجدادنا الاوائل الذين كونوا الخلاوي والطرق وانتشر الاسلام من غير سيف فان من الحكمة النظر . يجب ان تكون هناك دراسة حكيمة .هل يمكن ان ينتشر الاسلام في الجنوب عندما يتم تاخير الشريعة الاسلامية او عندما يتم الانفصال.الحكمة هو كيف ينتشر الاسلام ودخول الناس افواجا . عمر بن الخطاب ارسل بعض السرايا لفتوحات البلدان الشماليه في اسيا وعندما دخل المسلمين احد البلدان وكان هنا ملك وفتحوا المدينة التي كان على راسها الملك ارسل الملك الى سيدناعمر بن الخطاب رضي الله عنه بان جنوده وجيشه اخذوهم على حين غرة من غير اخطارهم بالحرب وفتحوا المدينة ما كان من عمر الاان ارسل الى قائد الجيش الاسلامى ان يخرج خارج المدينة
    وان يخيرهم اولا بين ثلاث الاسلام اولا ثم الجزية ثم الحرب . انظروا ماذا اختاروا اختاروا الاسلام لماذا ؟ لهكذا سلوك. كيف يحتلوا دولة ثم يخرجوا منها مرة ثانية لكي يخيروا اهلها ويعطوهم فترة لكي يجهزوا اذا ارادوا قتالا. وهكذا انتشر الاسلام. فلينظر ولاة الامر كيف ينتشر الاسلام في الجنوب وكيف يمكن ان ينتشر في افريقيا.هل بان ينفصل الجنوب ولن ينتشر وهل بتاخير الشريعة ولم الارض والانطلاق للدعوةو التفرغ لها وتاهيل الدعاة. الحكمة كيف ينتشر الاسلام في الجنوب. فاعتبروا يا اولي الالباب.

  4. كل سياسات الانقاذ طيلة الـ21 سنة الماضية مخالفة للشريعة

    هل من المنتظر ان يطبق قوش ونافع وعبدالرحيم الشريعة حتى لو حكموا 100 سنة؟

  5. صدق الحق (لن ترضي عنك اليهود ولا النصاري حتي تتبع ملتهم) فالنتوكل علي الله ولانشتري رضي الناس بسخطه وهذا خير لنا وفرصة لاتعوض حتي نتم تطبيق الشريعة خالصة ناصعة بيضاء من غير سؤ ونتك هؤلاء الناس لحالهم فسيندمون ولن ينفع حينها الندم اذا كان ثمن وحدة السودان هو شريعة السماء فاينفصل الجنوب اليوم قبل الغد فلنا ديننا ولهم دينهم وانهم لو يعلمون ان دولة الشريعة علي علاتها اعطتهم ما يعطهم له اي نظام حكم السودان ولكنه المرض والغرض ولانها لاتعمي العيون ولكن تعمي القلوب التي في الصدور و فبشري لنا ستكتمل الشريعة وسيطبق منهج السماء وسيسعد الناس ايما سعادة , من الشمال من ابتغي غير ذلك فليذهب لهم لان وعد الله ان يركم الخبث بعضه علي بعض , اما اخوتنا المسلمين من الجنوب فهم اخوة لنا سنقاسمهم اموالنا ولن نتركهم لمشار وباقان وعرمان

  6. المدعو وكيل اى شريعة انت جاى تقول عليها وماعايز تخليها فى بلد غى اصقاع الدنيا دى كلها نسبة الجريمة فيها ذينا بعد ماجات الانقاذ انت بتضحك على نفسك يا صاح الشريعة شوف جرائم السرقة والاحتيال والاختلاس من المال العام والرشوة والتى فقنا فيها جميع الدنيا وانت عارف الكلام ده الزنا فقنا حتى الدول الاكثر اباحية فى العالم ولو انا كضاب اسال عن الموضوع فى دار المايقوما الاطفال الغير شرعيين يفوقون عدد اقرانهم فى خمسة بلدان اوربية بلد الاباحة قال شريعة قال ياسيدى تعال مع بعض نشوف موضوع تانى نحاول نبرر به انفصالنا من الناس دى

  7. شفت ليك حرامية بطبقو ليك شريعة وهل خلاص دة الفضل اتحدى ناس الانقاض ىعلنوها دولة اسلامية راجع البرنامج الانتخابى السودان رايح فيها مع الحرامية يعنى الحكومات السابقة كان بتمنغ الصلاة ولا الصيام بعدين يوم القيامة الحساب فردى

  8. دكتور أحمد مصطفى الحسين، ماذا تقول أنت : الوحدة أم الشريعة؟؟ وتذكر أن الوحدة يمكن قراءتها بوجوه عدة أدناها أن تكون \\"براك\\" فى الموقع داك ومافيش بشر معاك!!! فويل لمن ضيع الأمانة وأشترى الفانية بالباقية، أيها الدكتور، ألا إنها الشريعة ، كل الشريعة ولا شئ غير الشريعة. ولن يغني عنك دجاج الأرض وبيضه فتيلاً ويا ليت قومي يعلمون.

  9. الحكمة والنظرة الثاقبة فى تعليق الاخ ابوبكر عثمان فضيل لك التحية وياليت
    القوم يفهمون … والسودان اكبر من هؤلاء الاقزام الذين يتمشدقون بالشريعة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..