أحتجاجات السودان استنساخ توصيف الأزمة والحل الأمني

يشهد السودان منذ أيام حركة احتجاجات شعبية هي الأوسع منذ تسلم الرئيس البشير السلطة عام 1989، وفي حصيلة أولية سقط أكثر من 100 قتيل، ما يؤكد أن خلفية الاحتجاجات أعمق من أزمة رفع الدعم عن المشتقات النفطية، وأن توصيفات الحكومة السودانية للجهات التي تقف خلف الاحتجاجات تمهد لتكرار سيناريو الحلول الأمنية في بعض البلدان العربية.
كتب ? عامر راشد
تأخر السودان في الانضمام إلى قائمة ما يصطلح على تسميته بـ”ثورات الربيع العربي” يعزى إلى استطاعة الحكومة السودانية قمع الحراك الشعبي مبكراً ربيع العام 2011، حيث نجحت أجهزة الأمن باحتواء الحراك الشعبي في بداياته، ومنع تحوله إلى حراك جارف انطلاقاً من الفعاليات التي كانت الجامعات بؤرتها، وتضامن معها في أيامها الأولى عدد محدود نسبياً من القطاعات الشعبية. وجرت بعدها احتجاجات عارمة لم تصل إلى زخم حراك شعبي شامل، أهمها في حزيران/ يونيو 2012، وصف الرئيس عمر حسن البشير من وقفوا وراءها وشاركوا فيها بأنهم “شذاذ آفاق وفقاقيع ستزول قريباً”.
إلا أن انفجار احتجاجات شعبية واسعة النطاق منتصف الأسبوع الجاري، أطلق شرارتها قرار الحكومة السودانية رفع الدعم الحكومي عن المشتقات النفطية، لتخفيف العبء عن الميزانية العامة للدولة، أتى ليؤكد أن الحراك الشعبي ظل خلال العامين الماضيين في حالة كمون وتحفز، بينما فشلت الحكومة السودانية في معالجة الملفات التي يمكن أن تشكل عاملاً لاندلاع مظاهرات معارضة تخرج عن نطاق السيطرة، ومن المشكوك في أن تنجح معها الحلول الأمنية، مثلما لم تنجح في بلدان عربية أخرى.
وللتذكير، كانت خطة التقشف وخطة رفع الدعم عن المحروقات، التي أعلنت عنها الحكومة السودانية في حزيران/ يونيو 2012، وتراجعت عنها مؤقتاً في وقت لاحق، هي المحفز لخروج مئات آلاف فقراء السودان إلى الشوارع، في بلد تجمع الآراء على أنه يعاني من جائحة جوع مستوطن، واعترفت بذلك وزارة الرعاية والضمان الاجتماعي السودانية في تقرير صادر عنها، في تشرين الأول/أكتوبر 2009.
وفي سياق متصل، وكما أشرنا في مقالة سابقة، تتقاطع العديد من الدراسات المسحية المتخصصة في أن 46.5 في المئة من السودانيين يرزحون تحت خط الفقر، بواقع إنفاق شهري 114 جنيهاً سودانياً للفرد، أي ما يعادل أقل من خمسة وعشرين دولاراً أميركياً، وهو أقل من مستوى خط الفقر العالمي الذي حدَّده البنك الدولي في عام 1990 بما دون دولار واحد للفرد في اليوم. وأشارت الدراسات إلى صعوبة تحقيق أهداف الألفية الثالثة للسودان في الموعد الذي حدَّدته الحكومة بسقف العام 2015، وذلك بسبب ارتفاع نسبة الفقر الناجمة عن استراتيجيات التنمية المستدامة المنحازة للحضر والمركز على حساب تهميش الريف ومناطق الأطراف، وإهمال تنمية القطاع الزراعي التقليدي، الذي يعتمد عليه حوالي 67 في المئة من السكان في سبيل كسب عيشهم.
وشكلِّت السياسات الحكومية السودانية في ظل 24 عاماً من حكم الرئيس عمر حسن البشير عامل إحباط لملايين السودانيين، سواء على صعيد الاقتصاد والتنمية المجتمعية، أو على صعيد الحريات العامة والمشاركة السياسية، وصولاً إلى أخطاء كارثية أدت إلى انفصال الجنوب عن الشمال، واندلاع حرب أهلية في دارفور امتدت إلى ولايات أخرى، دون أن تستخلص الحكومة السودانية الدروس والعبر من ذلك، للبدء في معالجات تمنع استفحال الأوضاع المأساوية في كل المناحي السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وتدهور البلاد نحو اضطرابات وفوضى واسعة.
وبمراجعة الشعارات التي أطلقها في السابق المحتجون على سياسات الحكومة السودانية ونظام حكم الرئيس عمر حسن البشير، وأعيد إطلاقها في الاحتجاجات الراهنة، من الواضح أن فئات واسعة من المحتجين تدرك أن الأزمة الاقتصادية، وسعي الحكومة لمعالجة بعض مظاهر الأزمة بقرارات ليست شعبية، ترتبط على نحو وثيق ببنية نظام سياسي قائم على الفردية، والاستحواذ على السلطة ورفض المشاركة السياسية، وخنق الحريات المدنية والعامة، وانتشار مظاهر الفساد في مؤسسات وإدارات الدولة، وتفشي الجهوية والقبلية فيها، وسوء إدارة لافت في معالجة الملفات الحساسة، تتجلى في أن الإستراتيجيات الحكومية الفاشلة أصبحت من أخطر آليات إنتاج الفقر والتهميش، بما زاد من ثروات الأغنياء وفقر الفقراء.. الخ.
وتعدُّ الطريقة التي عالجت فيها الحكومات السودانية، في عهد الرئيس البشير، مسألة الأقليات العرقية والإثنية والدينية، أحد أكبر جوانب الفشل، وإذا أضيف إليه جوانب فشل أخرى مثل غياب التنمية والاستقرار السياسي والأمني، والسجل السيئ للحريات، ومصادرة الديمقراطية وإلغاء التعددية، يمكن تفسير سبب المحنة المركبة التي تعصف بالسودان منذ أكثر من ثلاثة عقود، وتقوده نحو مجهول سياسي.
ولا يبشر بالخير لجوء الحكومة إلى اعتماد الحل الأمني في قمع الاحتجاجات الشعبية، لأن سفك الدماء يقود الأزمة بين الحكومة والشارع إلى منزلق خطير، وقع ذلك في ليبيا والعراق واليمن وسورية والبحرين ومصر، حيث مازالت هذه البلدان تدفع فاتورة باهظة للحلول الأمنية، ومن المرشح أن يدفع بعضها فواتير أكبر إذا لم يتم التراجع عن هذه الحلول لصالح حلول سياسية.
ويثبت اليوم أكثر من أي وقت مضى أن المجال لم يعد متاحاً لمناورات كتلك التي استخدمت في السابق، فالاحتجاجات الحالية بقوتها واتساعها، يمثل رفع الدعم عن المشتقات النفطية مجرد شرارة أشعلت حالة الاحتقان الشعبي في الشارع السوداني، وتفيد المؤشرات أنها ليست كمثيلاتها سابقاً، بل تمتلك هذه المرَّة ما يلزم من مقومات الاستمرار والتصعيد.
وبالتالي فإن نظام حكم الرئيس البشير معني بتقديم ما يتوجب عليه من فواتير متأخرة، بالشروع في وضع عقد اجتماعي جديد يخرج السودان من محنته، مقوماته الأولية إطلاق الحريات المدنية والسياسية، والإفراج عن التعددية، ومعالجة المظالم الاجتماعية والعرقية والاثنية على أساس احترام حقوق المواطنة والمساواة، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع بانتخابات نزيهة وشفافة كطريق للتغيير والتداول السلمي للسلطة، ووضع دستور دائم بمشاركة الجميع، كضمانة للإصلاحات المنشودة، وكدعامة لعملية التحول الديمقراطي في مسار جدي ومنتج، كي لا يغرق السودان في استنساخ توصيف الأزمة تعامياً عن أسبابها الحقيقية، بإدعاء أنها جزء من مؤامرة خارجية، لتبرير استنساخ الحلول الأمنية التي جربت في بلدان عربية أخرى، وثبت فشلها وعقمها، فضلاً عن خطرها على حاضر ومستقبل تلك البلدان.