أخبار السودان

منحوتات شارع الغابة.. الهجرة جنوباً

الخرطوم – محمد عبد الباقي

لا ينفك الإنسان عن بيئته التي عاش فيها طفولته وبواكير صباه، فتظل تفاصيلها تمور في عقله كمرجل يغلي بالتفاصيل والأحداث التي تختبئ داخل ركن ركين من الذاكرة الإنسانية المبدعة والخلاّقة لتتبدى حينما تُستدعى، لذلك يستلهم كثير من المبدعين أعمالهم من موروثاتهم الثقافية ومشاهداتهم اليومية، ومن بداية ارتباطهم بالحياة والكون من حولهم، ولأن الإبداع الذي يبهر الناس، ليس سوى ذاك الإبداع الذي يستمدونه من عناصر وتفاصيل حياتهم اليومية في بساطتها وسماحتها.
ما قادني إلى هذا، هو ذاك المشهد المطروح على شارع الغابة، والذي يُجسد الثقافة السودانية بدلالاتها المُوغلة في الأفريقيانية، إلى جانب طرحه لثقافات سودانية مُتعددة، أنه سوق المنحوتات الخشبية )الأناتيك(، قبالة غابة السنط بالخرطوم، الذي تأسس منذ أكثر من ثمانية عشرة عاماً، ظل يجسد خلالها معالم الطبيعة في منحوتات لحيوانات برّية وبحرية من أشجار الأبنوس والتيك.
لوحة جمالية

بفضل الحاجة إلى كسب (العيش) تحول شارع الغابة إلى لوحة جمالية، وبدأت الروح تدب في أوصاله التي ظلت تئن زمناً طويلاً تحت وطأة زبالة (المدينة)، حين كان شارع الغابة يحكي عن مأساة بيئية تسفر عن قبح وقذارة، والآن عندما يمر الناس من هناك فإنهم على الأقل يمتعون أعينهم بمناظر باهرة ومدهشة، وما أحدثه هؤلاء الشباب في هذه المنطقة، لا يُصدق. وكيما تصدقون لما لا ترافقونا في هذه الجولة.

أين تعلم هؤلاء؟
ودهشة الذين يشاهدون معارض المنحوتات التي تعرض بضاعتها في الهجير تأتي من رغبتهم في معرفة بأي المعاهد أو الجامعات درس هؤلاء فن نحت الأشكال والمجسمات الطبيعية، فتبلغ دهشتهم مداها عندما يعلمون أنهم هواة فقط، وأن ما يقومون به ناتج عن موهبة فطرية، قبل أن تتحول إلى مهنة لاحقاً.
وفي السياق، قال النحات (فلمونت): “أنا شفت كل الحيوانات دي”، مُشيراً بأصبعه إلى مجسمات وحيد القرن، الزراف، وخلافهما، موضحاً أنه في (الجنوب) توجد كل هذه الحيوانات، لذلك ليس صعباً عليه نحتها أو رسمها. ومضى قائلاً: “الحكاية دي ما صعبة شديد بالنسبة لي”، هناك من لم يشاهدوا إطلاقاً مثل هذه الحيوانات على الطبيعة لذلك يتصورون أن تجسيمها في منحوتات أمر صعب وعسير.

الهجرة نحو الجنوب
في عام 1995م، أقيم أول معرض لمنحوتات الأبنوس على شارع الغابة، بحسب السيد (أكوين) الذي أضاف: “حضرنا إلى هذا المكان، وبدأنا في عرض منحوتاتنا، حينها كان ركاماً وحطاماً من مخلفات المباني، يعني بالعربي كدا كان مكان (عفن شديد)، ونحن من قمنا بنظافته من كل تلك الأوساخ حتى أصبح من أفضل وأجمل الأمكنة في العاصمة الخرطوم”. واستدرك (أكوين) قائلاً: “بعد أن نظفنا الرصيف جيداً، توسع المعروض، حتى أصبح سوقاً كما تراه الآن، لكن حركة البيع بدأت تضعف وتتراجع لأن الزبائن (بقوا ما بجوا)، لذلك سافر نحاتون كثيرون إلى الجنوب بعد الانفصال، فقلّ المعروض في السوق واختفت الكثير المنحوتات، فقط تبقت أشياء بسيطة كما ترى.
حليل الخواجات
من جهته، لم يخف (شول) حزنه على تدهور وضع السوق، بعد أن تضاءلت أعداد الخواجات و(بقوا ما بجوا يشتروا زي زمان). وأضاف: السوق بقى تعبان، لأن (الخواجات) كانوا يمثلون القوى الشرائية الأكبر، أما الآن فمعظم الزبائن من المصريين و(شوية) سودانيين، ومضى مُفسراً ذلك بقوله: “طبعاً أنت تعلم أن السودانيين ما عندهم (قروش)، أما المصريون فإنهم يفضلون الشراء بأسعار زهيدة، “عشان كدا سوق بقى ضارب” على حد تعبيره.
في الصمت كلام
كل الذين تحدثوا عن تدهور الوضع في سوق المنحوتات الذي يسيطر عليه منسوبو دولة جنوب السودان، كانت شكواهم تتضمن الكثير من الإشارات والإيحاءات، دون أن يرفعوا أصواتهم عالياً بالشكوى، وأعتقد أن السبب الرئيس في هذا هو إحساسهم بأنهم لم يعودوا كما كانوا من قبل مواطنين سودانيين يحق لهم الجهر بالشكوى.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..