أبوعركي البخيت .. عن بعد المسافة وقربها

كثير هو الذي سُطّر عن دور الإبداع وتشكلاته في المراقي العليا،وفي مدارك الذوق والوعي،وأنسنة الوجود.وإلى ما يجب أن يطمح إليه الفن كمشروع جمالي نهضوي،ينطلق من حيزه الثقافي الخاص إلى دلالته الأنسانية القصوى،لتنبلج شعاعاته من نقطة تعامد الجمالي التذوقي بالإدراكي الإنساني العريض.ويقع ذلك بلا شك ضمن حدود ما حاوله إدوارد سعيد،وهو ينقب عميقاً للإحاطة بتعريف المثقف،كذات متمللة مناوشة ومتجاوزة لليقينيات السهلة،لا تخضع بطبعها للمستقر بأعرافه وحدوده المسوّرة وأفكاره المقولبة وأنماطه الجاهزة.لذلك فأن قدرها أن تُسوّط وتنُفى وتُحرم من الحفاوة،بل وتُستهدف بالمقولات التصغيرية المبتذلة غير المسئولة،في أتون نزاعها الشاق والدائم مع الوصاية والأوصياء.
ويمضي إدوارد سعيد ليتمم جهوده لإعادة تعريف المثقف المبدع بشكل إحاطي دقيق، بتركيز كبير على حرص المثقف الإنساني،رغم المناوئة والقهر،على التغلغل وراء التجربة المادية المباشرة،مستهدفاً تكريس الخير والمنفعة والوعي والحرية لمجتمعه.ووفقاً لذلك يبدو إدوارد سعيد مطمئناً إلى تعريف شريحة المثقفين كجماعة ملتزمة منهمكة في إنتاج التنوير والوعي، تربط مصيرها بحياة الإنسان وهمومه، على الرغم من حملات التشويه المنظمة، التي تثابر بمكر زعاف لاختزال صورة المثقف الذهنية إلى محض نموذج بوهيمي منخرط في محاربة الطواحين.
ولعل ما ذكرناه يقودنا بخطوات واسعة إلى مشهدنا الإبداعي لمعاينة مشروع الفنان أبوعركي البخيت، في أفقه الإنساني الواسع،بجدارته الفنية،وشارته التنويرية،وعلو هامته الوطنية. خاصة وأن الأستاذ أبو عركي البخيت قد أعلن ضمناً بعودته الضافية عن إدراكه العميق لجسامة مسئولية الإبداع في هذه المرحلة بتأرجحاتها العنيفة، وعن تدبره لحقيقة أن كل أرض يرحل عنها النخل،تصبح سهلة مباحة لغزو عرائش المتسلقات الزاحفة ومسطحات العوالق الرخوة،وأن كل أفق يغادره النهار،تتمطى فيه العتمة، ويستوطنه العطن لا محالة.
فها هو أبوعركي يصعد ليمتلك صدر المسرح، فتترى الحكايات من هنا وهناك،تضج بها الأسافير وتتناقلها الألسن وتحرثها الأقلام. يهلل بعضها بعودة العافية للحواس،لتنعتق من المعاقرة الجبرية لطعم الرداءة، وبانسكاب بهجة الألوان الأصيلة على تلك المساحات الملساء، التي انفرد بها الرمادي حيناً من الدهر، فأنشب فيها قسوته، ودلق فيها بؤسه ومخياله المتقشف. وتعلو من هناك أصوات مستبشرة برزق إبداعي سخي،آت بعد أتراح المخامص، وتوالي مواسم الخصب الخاسرة، وتفشي جائحة (الاستسقاء)، تلك التي تجعل المهزول يكترش من أملاق. تنطلق البشارات في المدى برزق هو ثروة وجدانية هتون،لا يجوز أن نختلف على اقتسامها، فهي مبذولة بمحبة، تسري للجميع بعدل وسعة.
حكايات وحكايات عن أبوعركي وهو يصدح هناك في صبر أم درمان، فاذا النفوس خلجان مفتوحة يتصاعد مدها، ليحكى وقائع إشهار عشق كتيم بين ثبج الماء وجاذبية القمر. وهناك الحكايا العجيبة عن أقيانوس الشتات الذي اختض ومسته الرعدة، حين أدرك الكل بوجدان جمعي أنهم في مرمى تراشق بذخيرة الشجن الحية.
وتتوالى الحكايات من كل فج عن غناء ظاهره عذوبة وباطنه رحمة،تتغمد الذين ينتهبهم عصف المخاوف،في خيمة الوطن قليلة الأوتاد، وأولئك المبعثرون في كل وادٍ.فالكل في الخوف الجارح سواء، منذورون لجسامة الاحتمالات المفتوحة على مهب الآتي العاتي.
يغني أبوعركي لـ (يدخل رواكيبنا واوضنا)، يطوف بأرجاء البيت الكبير، يضمد أسواره المائلة ويمسح على ذلك الطائر الغر،الذي ظل يرتطم بالمرآة دهراً يحسبها باباً للخروج، يريح الأعين لبرهة من شقوة منادمة سراب الشاشات،يهدئ القلوب الواجفة من أجواء ركلات الجزاء الخطيرة، وخشونة اللاعبين القساة.
ولا ننسى الحكايا التي زُفّت من داخل المسرح عن معارج التلقي،التي بلغت شأواً في التفاعل، ومنزلة في الحسن ارتسمت على الروح والمحيا، بما يعفي من تجشم تفسيرها. ليتحول بها المسرح القومي إلى كنف حميم رحيم، يتضام فيه الحضور بآصرة دفء أسري، ووحدة شعورية روحية النفح، عرفانية المقام،تعرج بهم لقطف رحيق متع فارعة.يحملهم الصوت إلى معارج أخرى فلكأن مئات الوجوه تلوح هنالك، فهذا الخليل (من شعاره دخوا المآزق)، وذاك محمود درويش بتجربته الشاقة، التي كشفت للملأ سوءة (خوف الطغاة من الأغنيات)، وهو يأتمن رياح الغناء اللواقح على بذوره،فتحملها عبر المدى. ليستوي في مقام الهم الفادح الخليل ودرويش وأبو عركي ومارسيل خليفة،وهم يهدهدون أوجاع السامعين بأمنية عزيزة، وإن إختلفت الكلمات..(تصبحون على وطن)!
-إنتهى-

لمياء شمت
الرأي العام

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..