بين جرأة البنطلون وغباء الجلاد!..هذا "…." هو السودان الذي نحبه..فمن الذي يحاول توريط هذا الاسم الكبير في مستنقع العودة إلى الوراء.؟

"1"
المشهد كان غايةً في البؤس، والألم، والقهر، وعندما يتحالف الثلاثة معاً لتشكيل مشهد فإن المحصلة تكون خيبة أمل عظيمة بحجم جبل.

"2"
هذا بالضبط ما حدث عندما نشرت وسائط اليوتيوب مشهد جلد الفتاة السودانية ببشاعة ذكرتني ببشاعة القرون الوسطى عندما كان الصليب المقدس يتصدر الصفوف موقداً النيران العظيمة التي تلتهم الكتب والعلماء فيما تفوح في الأجواء روائح اللحم المشوي للساحرات المشتبه بهن في انتظار العثور على مكانسهن الأسطورية المفقودة.

"3"
الكارثة في هذا المشهد أن توقيته لم يكن ملائماً على الإطلاق، فالسودان الذي يتهيأ لانفصال جزء منه تحت ضغوط استعمار عادت إليه الروح بعد سبات لم يطل به الزمن، والسودان الذي هو بأمس الحاجة ليكسب معركة الإعلام الدولية بعد الاتهامات بمجازر دارفور وبعد محاولات الدوائر الغربية تشويه سمعة هذا البلد العزيز على قلوبنا.

"4"
لم يكن التوقيت مناسباً أيها الجلاد الغبي، يا من كنت ممسكاً بالسوط الوحشي وكأنه أسطورة لعينة من أساطير الرعب سيئة الذكر، ولم تكن مشاكل السودان تسكن جسد المرأة الذي تجلده، لم تكن دارفور هناك، ولم يكن النفط هناك، ولا مجرى النيل هناك، ولا ديون البنك الدولي هناك، ولا المحكمة الدولية بقراراتها هناك، هناك لم يكن ثمة شيء سوى جسد امرأة تستغيث من حرارة سوطك البشع كبشاعة ذلك المشهد الذي تبرأت منه البشاعة.

"5"
لو كنت مكان البشير لأعدمت الجلاد الغبي وزميله، ولأعدمت من كان مسؤولاً عن هذه السقطة الغبية وعلى مرأى من كل عدسات تصوير هذا العالم، فقط لأبرئ السودان من تهمةٍ التخلف، ولأعلن على الملأ أن عقلية السودان المتحضر ليست على هذا الشكل.

"6"
السودان الذي نحبه ليس جلاداً يمسك بسوط بشع وينهال على جسد امرأة، السودان الذي نحبه هو سودان وادي النيل، وهو سودان حضارة الخرطوم منذ عام 3400 قبل الميلاد، وهو سودان حضارة مملكة كوش العظيمة 2500 قبل الميلاد، وهو سودان عطبرة وسودان الطيب صالح، والسودان الذي نعرفه هو سودان "مريود" الطيب صالح، وسودان قصائد محمد الفيتوري، وسودان النيلين العظيمين، وسودان الشعر وسودان اللغة الشاهقة وسودان ترانيم خليل فرح الرائعات. هذا هو السودان الذي نعشقه أيها المسؤولون عن السودان، فمن الذي يحاول توريط هذا الاسم الكبير في مستنقع العودة إلى الوراء، ومن الذي يريد تقديمه للعالم على أنه سودان السوط البشع، وسودان الجلاد الذي لا يرحم؟

"7"
الغريب أن التوقيت ليس وحده الخطأ الكبير، إذ إن السبب هو بحد ذاته خطأ لا يمكن غفرانه، ففي مسببات الحكم على المرأة بالجلد أنها ارتدت بنطلوناً، وأنها أدينت بأفعال منافية للشريعة، وأنها جلدت بموجب الشريعة الإسلامية ذاتها، ولكن، هذا الإسلام المفترى عليه هو ذاته الإسلام الذي ينص على أن الجلد هو عقوبة بغرض الزجر والردع، وأن الأمر بالجلد في مكان عام هو أمر خاص بالزانية والزاني بموجب الآية الثانية من سورة النور، وأن لحكم الزنا شروطا تجعل من المستحيل إثباته عملياً، وبالتالي فإن الجلد غير ممكن عملياً، وإن الفقهاء وضعوا شروطاً صارمة لعملية الجلد "إذا وقعت" من شأن الالتزام بها أن تجعل عملية الجلد بعيدة عن الإيذاء النفسي والجسدي أشد البعد، فالمريض يؤخر جلده حتى يشفى، والحامل يؤخر جلدها حتى تضع مولودها، وحتى ظروف الطقس الحار أو البرد الشديد تؤجل الجلد.

"8"
ولكي تؤكد الشريعة أن الجلد هو عملية زجر وردع، لا عملية إرهاب وقسوة وإذلال وألم مبرح، فإنها نصت وبوضوح على أن يكون الجالد متوسط القوة البدنية، وأن يستعمل سوطاً قديماً مستعملاً لوقت طويل، وأن يراعى اختيار نوعية السوط بالنسبة لجلد النساء والأطفال، وأن لا يتسبب الجلد في إسالة الدم أو كسر العظم، ولكي تضمن الشريعة هذا الحد من الأمان فإنها تصر على أن لا يرفع الجالد يده بحيث يظهر أبطه، وتمنع الشريعة أن يجلد الرأس أو الوجه أو الصدر أو البطن.

"9"
هذه هي الشريعة الإسلامية التي تفترون عليها، وهذا هو الإسلام الذي شوهتم صورته وأسأتم إليه، فهل كان مشهد الجلد على هذا النحو؟ لم يكن كذلك أيها السادة، كان إساءة للسودان العظيم، يستحق عليها من ارتكبوها أن يجلدوا بالمثل، بنفس السوط البشع وبنفس الهمجية المقززة، ونفس العذر الغريب، أن ترتدي البنطلون، وأن تخالف الضحية شريعة السوط القادم من القرون الوسطى.

"10"
لا زلت آمل أن يتفطن المسؤولون في السودان إلى مؤامرة الإساءة إليهم وإلى السودان الذي نحبه ونهواه، وأن يبادروا وعلى الملأ بجلد من أرادوا أن يجلدوا السودان بتهمة أنه ارتدى البنطلون!!.

الصديق بودوارة*
* كاتب ليبي

العرب اونلاين

تعليق واحد

  1. من حسنات الشريط ان عرفنا بان ليبيا فيها من يكتب ولم اكن اعلم قبل ذلك بان ليبيا فيها من يكتب او حتى فيها كتب وعلمى بان الليبين حتى الان يتسالو عن امكانية زراعة المكرونة

  2. وبعد علمك ياخ عبدلله بان هنالك كتاب ليبين ماهو رايك فيما كتب ام حالك كاعضاء المؤتمر الوطني دفن الرؤس في الرمال عند مواجهه الحقاق ننتظر ردك عما كتب عن الموضوع وليست المكرونه

  3. (لو كنت مكان البشير لأعدمت الجلاد الغبي وزميله، ولأعدمت من كان مسؤولاً عن هذه السقطة الغبية……)
    كلامك كله جميل وفى محلة, ولكن اخالفك الرأى فى مسالة اعدام الجلاد الغبى فهو ينفذ اوامر السلطة والتى تعتبر المسئول الاول .فهذا الجلاد الغبى ماهو الا حصيلة التركيبة التى تريدها السلطة فى تكوين الانسان السودانى (المتحضر) الذى ينفذ ما تملية عليه السلطة. تدهور التعليم وعدم درج التربية الوطنية ونشر روح التعايش السلمى بين ابناء الوطن الواحد منذ الصغر خاصة فى بلد متعدد الاعراق والثقافات, وتأخذ فيه القبلية والجهوية حيزا واسعا فى الثقافة العامة لمواطنيه, ماهى الا دليل على هذا.
    لك التحية

  4. سبحانة الله لاول مرة اعرف فى ليبيا كتاب بس ان شاء الله يكون بكتبوا عن سلبيات بلدهم عشان ما ينطبق عليهم المثل السودانى (الغلبةراجلة جات تادب حماها)ولكن نرجع ونقول دا كلو من القدوقدو خليتو البكم والاخرس فى وطنه ينظر فينا وعايز يورينا الصح من الغلط الله يجازى محنك يا القدو قدو

  5. كل صاحب ضمير حي استنكر الجلد بهذه الصورة.

    أما خفافيش الظلام فإنها لا تستطيع إلا ان تعيش في الكهوف. ولكن ماذا نفعل ما شريعة القرون الوسطى هذه.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..