صرخةٌ في البرٌية ….الطريق الثالث ؟؟

مهدي رابح
اصبح جراب حاوي الإنقاذ خاوياً ، فاستجداء الشرعية بالتسربل برداء التدين لم يعد مجدياً و لا يصدقه حتي أطفال المدارس الذين عطروا شوارع الخرطوم بالدماء ، الفساد رائحته المُزكمة أصبحت لا تطاق و ورقة التوت المسكينة لا يمكنها اخفاء سَوءةٍ أضحت بحجم فيل ، وهيبة الدولة و شرعيتها المدّعاة طارت مراكيبها في وجوه الشيوخ الورعين المجرمين ، و شراء الذمم اصبح عسيراً بعد خواء الخزائن فأصبح المرتزقة يتلجلجون ، و الفشل الذريع يصرخ من كلّ جانب ، دعونا نكن واقعيين ….
النظام مات سريرياً ،
السؤال هو متي يحمل نعشه علي الأعناق الي مثواه لوداع اخيرٍ سعيد ، قبل ان يأخذ معه الوطن رهينة ؟ .
السؤال الأكبر ،
وبعد تخطي هذه المرحلة الكئيبة من تأريخنا بإذن الله، و متضرعين له ان يكون ذلك قريبا و دون إراقة مزيد من الدماء الزكيّة ، و علي المدي المنظور ، هل من حقّنا أن نحلم بتغيير سلس و من ثمّ بدولة تحقق احلام المواطن السوداني في الرفاه و العدالة الاجتماعية و التنمية و الحريّة ، و برجال سياسة جدد يترفعون عن الصغائر و يضعون مصلحة الوطن فوق المصالح الشخصية ، الحزبية ، القبلية او غيرها ؟؟ . أم هل سنعيد انتاج شخصية الشيخ الورع المجرم ، و التي حاولنا تعريفها سابقاً ، ثانيةً و ثالثةً في دورة جهنمية ، بما إنها بضاعة لا تنتهي صلاحيتها كما اثبت تاريخ السودان منذ الثورة المهدية و حكم السيدين من بعد ؟.
الاجابة تكمن فيما سيتمخض عنه هذا الغليان الشعبي ، و من سيتسّيد المنابر في المرحلة القادمة … في غياب قيادات جاذبة و تكلُّس الأحزاب التقليدية و ما تنوء به من فشل تاريخي يجب ان تحاسب عليه و خطاب أجوف و مكرر ،بالاضافة لعدم قبول أو استعداد المواطن السوداني لاستيعاب رؤي القوي التي تطالب بدولة مدنيّة بعد ، سيكون الامر عسيراً للغاية ، فهل سيعتلي الشيخ الترابي ، مهندس الإنقاذ الاول و معارضه الأشرس بعد ذلك منذ انقسام الحركة أو ما يسمونه المفاصلة ، سدّة الحكم مرّة أخري بما انه يتزعم احدي اكثر الكيانات الحزبية المعارضة تناسقا و تماسكا ، و ان خطابه التكتيكي الداعي لتغيير النظام و الديموقراطية اصبح مقبولاً في غياب اي خطاب آخر واضح ، وفي ظل معاناة الشعب السوداني من قِصر الذاكرة المزمن، بالاضافة لتمثيله ، اي حزب المؤتمر الشعبي ، ملجأً آمناً لأعضاء النظام الذين سيغادرون السفينة قبل ان تصل القاع وهو ما يمثل قوّة دافعة و جيشا جرارا من شاكلة الشيوخ الورعين المجرمين ، لتبدأ الدورة المذكورة من جديد ام هل سيُحكم العسكر قبضتهم من جديد تحت شعارات أخري من شاكلة إنقاذ الوطن ، واضعين في الاعتبار ان المؤسسات القومية المنوط بها الحفاظ علي الأمن و القانون و حماية الوطن علي ما يبدو في السطح تم أدلجتها بصورة كبيرة ، و أضحت قوميتها في مهب ريح الاستقطاب الجهوي و القبلي ؟ فتحولت لأداة طيِّعة في يد النظام ، و يده الباطشة الغليظة .
ام خليط من هذا و ذاك ، اي الرجوع الي السنوات المظلمة من 1989 الي منتصف التسعينات ؟؟
و ما هو موقف القوي المعارضة المسلحة من التغيير القادم لا محالة ، و التي تزداد مساحة المناطق المتحكمة فيها سعة ، و اجتثاثها بالقوة امر غير ممكن عمليا ، و هي بدورها دون ريب متأثرة بالاستقطاب القبلي و الاثني ، هل سيأتي التغيير من جانبها ؟ هل هذان هما الخياران اليائسان المتوفران في المستقبل القريب ، تغيير من المركز و اعادة انتاج الإنقاذ ؟ ام تغيير من الخارج بقيادة قوي مسلحة غير متجانسة ،
…….
فيتضخم السؤال و يصبح هل نحن علي شفا صوملة أخري أو لبننة ؟هل سيصبح السودان سوريا الثانية ؟؟
ام أنّ هنالك طريق ثالث محتمل ؟
غاية ما نستطيع فعله الآن هو ان نضع أيدينا علي قلوبنا ،و أن نحلم و نعمل من اجل سيناريو او طريق الثالث ، يقينا من كوابيس الدول الفاشلة التي تحيط بنا و التي تحولت في زمن وجيز الي ركام و ارض جدباء دون أمل ، وهو مصير قاس لو تعلمون .
و الطريق الثالث ، الحلم الذي يراودني شخصيا دون أدِّعاءٍ متكلّف باكتشاف الذرّة أو اجتراح الحلول العبقرية الفريدة ، هو ان يتم التغيير من المركز بامتداد و تصاعد الثورة الشعبية السلمية ، عبر أدوات الاحتجاج ، المقاطعة ، الإضرابات و العصيان المدني ، و بظهور قيادات شابة تنحاز للوطن اولا ، و نجاحها عبر الإصرار علي تبني الحلول السلمية المبدعة في تحييد كل الأطراف الحاملة للسلاح دون استثناء ( وهي أُمنية اعلم أنّها قد تبدو جنونّية أو حالمة لكنها ليست مستحيلة ) ، و من ثَمّ الأعداد لفترة انتقالية تبلغ ما يمكن قبوله لدورة انتخابية كاملة ، اي من اربع الي خمس سنوات ، بقيادة جماعية ، خليط من شخصيات نزيهة نظاميَّة و مدنيّة ، تكون نواة لنظام ديموقراطي قابل للحياة ، تعطي فيها كل القوي السياسية بما فيها الاسلاموية و التقليدية و الحديثة و غيرها حرية التطوير و الترويج لبرامجها و إقامة مؤتمراتها العامة و تزامناً مع ذلك يقام مؤتمر دستوري جامع يُعدُّ فيه لدستور جديد بإجماع وطني و يستفتي فيه الشعب بالتصويت المباشر ، يرسِي قواعد دولة القانون و المؤسسات ، حتي لا تكون البلاد نهباً لمن بيده السلطان و السلاح ، و تحت رحمة أهوائه و ضعفه امام الشهوات ، وهي كما تعلمنا في الدروس الماضية كثيرة .
المرحلة المشار اليها يجب أن تستثمر في تدشين اعادة بناء المؤسسات القومية علي أسس جديدة تتخطي الجهوية و القبلية و البدء في ترميم علاقات السودان الخارجية التي عانت كثيرا و أدّت لعزلة لم يسبق لها مثيل ، و إطلاق عملية ايجاد حلول ذكية و طويلة المدي للوضع الاقتصادي المزري الذي يسير حثيثا نحو الانهيار . و هنا الإصرار علي اضافة كلمات من شاكلة تدشين ، بدء و إطلاق ، لان إصلاح الخراب الذي عمّ البلاد علي كل المستويات يحتاج الي عقود من العمل الدوؤب و المضني .
كما يجب أن تشمل المرحلة الانتقالية المحاسبة القضائية العادلة علي الجرائم التي اقترفت خلال ربع القرن الماضي ، علي أساس المصالحة الوطنية علي شاكلة ما تم في جنوب افريقيا بُعيد إلغاء الابارتايد و تسنم نيلسون مانديلا لمقاليد الحكم ، أي الاعتراف و الاعتذار و العفو أو التعويض للأطراف المتضررة في حال قبول الاعتذار ، حتي نبدأ صفحة جديدة من التسامي علي الماضي و إرساء سلوك جديد في التعاطي مع العمل السياسي ، جوهره التسامح الذي عرفنا به منذ الأزل ، أدواته الالتزام الحرفي و الأخلاقي بالقانون لترسيخ قيمة التبادل السلمي للسلطة و غايته بناء وطن يسع الجميع .
المشكل الحقيقي هو انه كي يصبح هذا الطريق الثالث سالكا اذا جاز التعبير يجب ان يكون جزأ من مشروع قومي يلتف حوله الجميع ، و يجب ان يروج له من قبل قيادات وسطية ذات كاريزما و قبول ربما يفرزهم هذا الحراك السياسي الحالي ، يستثني منه السياسيون المحترفون الابديون و كل منتمٍ للمؤتمر الوطني ، تحت راية كيان غير حزبي ، اقرب الي منظمة مدنية ( غير ربحية !!!) لإعادة بناء الوطن ، يعمل بصلاحيات واسعة من اجل إرساء قواعد جديدة للعبة ، يكون محايدا حزبيا لكن حاسما في كل ما يخص الالتزام بالدستور ، بما فيه من كفالة لحقوق الانسان ، تنتهي مدّة صلاحيته بانتهاء الفترة الانتقالية لكن يستمر كجسم مراقب لفترتين انتخابيتين علي اقل تقدير و يلتزم قادته باعتزال العمل السياسي حالما تتحقق الأهداف المرجوَّة منه ، مع كل التكريم الذي يستحقونه .
هل هذا الحلم الأشبه بالهلوسة ممكن التحقيق ؟؟؟ام سيمكث مع آلاف من أترابه مأسوف عليه في أرفف ارشيف التنظير السوداني ،
كل ذلك قد يبدو كصرخةٍ في البريّة ، لكن رغم ذلك سندعوا له ما استطعنا ، هذا الطريق الثالث !! ، ربما نجد آذاناً صاغية في مكان ما ؟؟ .
مهدي رابح