جحا العربي.. الواقع التاريخي والرمز الفني

النجار يؤكد أن ما من قطر عربي إلا عرف جحا، بسمته وملامحه وأسلوبه وفلسفته في الحياة والتعبير، وكل ذلك يساهم في تأكيد الوحدة القومية.

القاهرة ـ من أيمن محمود

مؤلف هذا الكتاب، د. محمد رجب النجار، حاصل على دكتوراه في الأدب الشعبي العربي، عمل أستاذا في جامعات مصر والكويت لسنوات عديدة، له العديد من الإسهامات الفنية والنقدية في مجال الأدب الشعبي العربي، ومن إصداراته نذكر: “أبوزيد الهلالي”، “دراسة نقدية في الإبداع الشعبي العربي”، “حكايات الشطار والعيارين في التراث العربي”، “بردة البوصيري.. قراءة فولكلورية”، “من فنون الأدب الشعبي في التراث العربي”، وغيرها.

وفي كتابه “جحا العربي” شخصيته وفلسفته في الحياة والتعبير، يؤكد المؤلف أن ما من قطر عربي إلا عرف جحا، بسمته وملامحه وأسلوبه وفلسفته في الحياة والتعبير، وكل ذلك يساهم في تأكيد الوحدة القومية، وتجسيد غاياتها وقيمتها قدر ما ساهم المأثور الشعبي العربي في صنعها، فعرف في هذا النموذج “القومي” عصا توازن في خضم تحدياته ومعوقاته وتمثل نوادره زادًا فنيًا ونفسيًا، مقر يدفعه إلى الابتسام والسخر، وقد يدفعه إلى الضحك والدعابة، لما فيها من انحراف عن المألوف أو تلاعب باللفظ أو خطأ في القياس.

ويخصص الكاتب الباب الأول من الكتاب طارقًا شخصية جحا بين الواقع التاريخي والرمز الفني، وذلك من خلال شخصية جحا العربي، والتركي، والمصري فيقول عن جحا المصري: لعل النموذج الجحوي لم يلق من الذيوع والانتشار في العالم العربي مثلما لقي في البيئة المصرية، على الرغم من أنه شخصية غير مصرية، وإنما عرفته البيئة المصرية رمزًا فنيًا منقولًا إليها، له أسلوب فني مميز في الحياة والتعبير، في إطار فني أثير لدى الشخصية المصرية، والمزاج المصري، هو إطار السخر والتندر والفكاهة، فتلقفته نموذجًا فنيًا وشعبيًا ويرجح المؤلف أن النموذج الجحوي قد عرف في مصر على مرحلتين، المرحلة الأولى: هي تلك التي شاعت فيها النوادر العربية في البيئة المصرية منذ العصور الإسلامية الأولى ـ مع بداية التعريف ـ وهي مرحلة شاعت فيها نوادر الحمقى والمتحامقين، على وجه الخصوص، وكان نصيب جحا من الشهرة، إبان تلك الفترة، كنصيب غيره من الحمقى والمتحامقين ـ وما أكثرهم ـ وإن كانت نوادره جميعًا قد رددت دون أن تنسب إليه شخصية، وخاصة بعد أن عدل الوجدان الشعبي المصري من وظائفه ـ لا من أسلوبه ـ فلم يعد السخر من خلة الحماقة أو الغباء في ذاته، وإنما أصبحت نوادر الحمقى ـ بما فيهم نوادر جحا نفسه ـ ذات وظيفة سياسية أو اجتماعية مباشرة، غايتها النقد السياسي أو الاجتماعي والنيل ـ معنويًا ـ من الحكام والولاة الذين تدلوا على مصر.

وأما المرحلة الثانية، فهي تلك التي شهدت بداية الاهتمام بالواقع التاريخي لجحا إبان القرن التاسع الهجري، حين اهتم السيوطي وغيره من علماء مصر وفقهائها بالترجمة لجحا، كما كانت هذه المرحلة بداية انتشار النموذج الجحوي في مصر، بنوادره وباسمه معًا، وفيها عرف باسمه رمزًا فنيًا، وعلمًا غطيًا من أعلام الفكاهة الساخرة، استقطب الكثير من نوادر غيره، أو مما جد من نوادر.

? ظاهرة سيكوسو سيولوجية

ويرى الكاتب أن علاقة الشخصية المصرية بالضحك يمكن أن تزداد وضوحًا إذا ما أشرنا إلى الدلالة الاجتماعية للضحك، باعتباره ظاهرة سيكوسو سيولوجية، فالموقف الفكاهي عن الشخصية المصرية، يمكن النظر إليه، ليتضح لنا بوضوح الوظيفة الأولى التي يقوم بها، إنما هي تخفيف أعباء الواقع عن كواهلها، وتخليصها إلى حسن من بعض تبعات الحياة، قد كان جنوح الشخصية المصرية إلى السخر هو “الثأر السلمي العادل أو الجزاء الاجتماعي الذي فطنت إليه الشخصية المصرية من أجل المحافظة على صميم كيانها الاجتماعي”.

ومن ناحية أخرى، فاللذة الكبرى التي وجدها الشعب المصري في جحا ـ أو في الشخصية أو النمط الجحوي رمز “شرطي” للضحك والفكاهة والدعابة ـ إنما ترجع في الجانب الأكبر منها إلى هذا الشعور بالتحرر من الواقع، والتحلل من الحياة الجدية، عن طريق الهزار والتفكه والمزاح.

? جحا والنقد السياسي

يلقي المؤلف الضوء على الرمز القوي الجحوي في علاقته بالأشكال المختلفة للسلطة السياسية فيذكر علاقة جحا والسلطان قائلًا: تعد نوادر الرمز الجحوي، مع السلطان، تجسيدًا حيًا وفعالًا لكل ما تمر به عصور الظلم والاستبداد، من بطش وقمع وقهر وكبت وخوف وطغيان، وهي من هذا المنظور إنما تعكس لنا الرؤية القومية الرافضة لكل قوى الظلم والعدوان، وهي مواقف تناقضية بطبيعة الحال، منها ما ينطوي على قيم وسلوكيات وأخلاقيات سلبية، وأخرى تنطوي على قيم وسلوكيات وأخلاقيات إيجابية.. ومن هذه المواقف نرى النموذج الجحوي يقف إلى جانب الناس ضد السلطان، فكيشف لهم عن مظالمه، وعن حماقة عقله، وسفاهة رأيه، وجور أحكامه، في قالب من السخر والتندر.

قال له تيمور يومًا: أستطيع أن تخبرني كم أساوي من المال فنظر جحا إليه مترددًا ثم قال: لا أظنك تساوي أقل من ألف دينار، فضحك تيمور حتى استلقى على ظهره ثم قال: إنك لم تبلغ في جوابك شيئًا، إن ملابسي وحدها تساوي ذلك المقدار من الدنانير، فقال جحا: لقد صدق ظني إذن، فما كنت أنظر في تقدير ثمنك إلا إلى هذه الملابس.

أما عن علاقة جحا والقضاء فيقول المؤلف: تؤكد النادرة الجحوية أن تحقيق العدالة وسيادة القانون في مجتمع ما رهن بطبيعة النظام السياسي ونزاهة القائمين عليه، وإذا كان القضاة منذ أقدم العصور ـ هدفا لسهام النقد اللاذع فإنه يعني مجالًا خصبًا ـ بغير شك ـ للنموذج الجحوي، وتأتي نوادر جحا في القضاء لتعكس موقف الناس من القضاء، ومآخذهم عليه، من خلال الرمز الجحوي الذي وضع مواقف قضائية كثيرة متباينة لتكون رؤيته، ومواقفه منها أقرب إلى الواقع التجريبي، ولهذا أيضًا لم يكن من قبيل المصرفة أن يجيئ الرمز الجحوي ـ في أغلب نوادره مع القضاء ـ متقاضيًا يجسد لنا مفاسد القضاء وعيوبه عن كبت وعن تجربة.. فتراه ـ قاضيًا ـ يعتلي منصب القضاة ليحكم بين الناس بالعدل ويفصل بين المتنازعين بالقسطاس المستقيم، ومن ثم يحقق الوجه الآخر للصورة التي رأيناه فيها متقاضيًا، إذ نراه هذه المرة يحقق القيم المفقودة والمثل المنشودة في القضاء. فهو يؤمن بأن القضاء للناس لا عليهم ـ على حد تعبيره في بعض نوادره ـ ونراه كذلك يقول بما يشبه دور المحامي، فيقف مدافعًا عن أصحاب الحقوق والمظلومين وينتصر لهم، وقد تراه شاهد زور أحيانًا؟ ولكنه سرعان ما يعترف، ولا يخرج في أدواره الثلاثة الأخيرة، عن مفهومه للقضاء منه وفي رأيه ـ الجمعي ـ قضاء الناس، لأعلى الناس.

? جحا والنقد الاجتماعي

يؤكد الكاتب أن النوادر الجحوية المرتبطة بحياة الناس، قد ارتكزت أساسًا على المواقف السلبية للناس، سجلتها وأدانتها في أسلوب متميز يجمع بين الفكاهة والسخرية والحكمة في آن واحد، ومن ثم ألقت الضوء على كثير من العيوب الاجتماعية والنفسية والخلقية، كما كشفت في سخرية مرة وتهكم لاذع الكثير من طباع الناس وتفكيرهم السلبي فجدت وسخرت من ادعاءاتهم الكاذبة، وعاداتهم الجامدة وحماقاتهم وغرورهم.

يذكر المؤلف أن المرأة أو الزوجة قد فازت بالنصيب الأوفى من المأثور الجحوي سواء في جانبه الاجتماعي أو الفكاهي، وبالرغم من أن النادرة الجحوية هنا قد وقفت عند إبراز الجانب السلبي للمرأة عامة والزوجة خاصة، إلا أن الرمز الجحوي لم يكن يضمر كراهية للمرأة، وإن ركز في تناوله لها على إبراز جوانبها السلبية فحسب، وخاصة إذا كانت زوجة له، فهي حمقاء، غبية، جاهلة، لا خلاق لها، خائنة لمال زوجها وعرضه وشرفه، قادرة على الكيد له.. ومن هذه النوادر: خرجت زوجته في نصف الليل، فلقيها واحد فقال لها: أتخرجين وحدك في هذا التوقيت؟ فأجابته: أنا ما أبالي، إن لقيني إنسان فأنا في طلبه، وإن لقيني شيطان فأنا في طاعته؟!قيل لجحا يومًا: إن امرأتك تدور كثيرًا، فقال: لو كان ذلك صحيحًا لحضرت إلى بيتنا!

? جحا وأبناؤه

يرى المؤلف أن الابن الجحوي ـ كالزوجة الجحوية ـ يجمع بين المتناقضات، فهو أحمق أبله ساذج تارة، وماكر عنيف خبيث ذكي متحامق تارة أخرى، ولا يجب أن تؤخذ نوادر جحا مع ابنه مأخذ الفكاهة أو من جانبها المرح فحسب، برغم طغيان هذا الجانب عليه ـ فجحا مع ابنه إنما يحاول أن تنتقل إليه تجربته وفلسفته في محاورات طريفة، ولعل نادرة “جحا وابنه وحماره” من أشهر ما أثر عن النموذج الجحوي من دروس في تنشئته لابنه، فكان ذلك أول درس علمه جحا لابنه، فرضاء الناس حقًا غاية لا تدرك، وعلى الإنسان أن يفعل ما يعتقد أنه الحق والواجب، ولا يبالي بسخرية الساخرين.

ويواصل الكاتب حديثه عن جحا قائلًا: إن هذه الشخصية الساخرة “جحا” تؤكد بدورها وحدة الحياة، فلم تقتصر مواقف جحا على علاقته بالناس، وخير ما يصور ارتباط جحا بالأحياء تعاطفه مع حماره الذي لم يكن يعامله معاملة الإنسان للحيوان الأعجم، بل ارتقى به حتى جعل منه صديقًا أو شبه صديق، يتحدث إليه، ويصب في أذنيه سخرياته اللاذعة من الحياة والأحياء ـ والحق أن حمار جحا ـ برغم ما عرف عنه من بلادة ـ كان أليفًا، وديعًا، صبورًا، وقد اقتناه جحا ليقضي به مصالحه، وليحقق لنفسه شيئًا من زينة الحياة، فضلًا عن اقتدائه بالأنبياء والصالحين في ركوب الحمير، ومما هو جدير بالذكر أن حمار جحا كان من ناحية أخرى يعلن بواسطته رأيه ويخلع عليه كثيرًا من حماقات الناس وعيوبهم، ومجمل القول إن جحا لا يذكر في أي أدب ولا في أية بيئة إسلامية، إلا وتذكر معه ثلاث شخصيات رئيسية متممة لشخصيته الفنية، وهي زوجته وولده وحماره، أو الثالثوث الجحوي، فلم ينفرد بها النموذج العربي، وكل من هذه الشخصيات الثلاث نموذج فني متمايز بكثير من الخصائص والمفارقات، بحيث تعد “شخصيات نمطية جاهزة”.

وفي ختامة الكتاب يقول المؤلف: بالرغم مما نسب إلى جحا من نوادر في الحمق، فإننا نجد أن معظم نوادر الرمز الجحوي تنتمي إلى هذا النوع، أعني إلى التحامق، أسلوبًا ووظيفة، تعبيرًا وفلسفة، فترى بعض نوادره التي نتبين منها بعض أسلوبه في التعبير، وهي نوادر تتوسط بين الحكمة البينة، والسذاجة البينة، يجمع بينهما التحامق ـ الوجه الآخر للرمز الجحوي ـ بما وراءه من دوافع.

(خدمة وكالة الصحافة العربية)

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..