وَيَسْـألونك عَـنْ الشّـموْليّـة العَـمـيْـقة ..

بقلم: السّفيْر جَمَال مُحمّد إبراهيْم
أقرب إلى القلب :
( 1 )
كيف تكون لبعضِ قرارات أولي الأمر أبعاداً كارثية، فيما لا يرى متخذوها فداحة تبعاتها، ولا تسمع آذانهم ضجيج الاحتجاج عليها، فكأنهم صمٌّ عميّ، ولا أقول همُ بكمٌ، إذ لغوهم لتبرير ما قرّروه لا يقف عند حدود كلماتٍ في تصريح، أو عند بيانٍ تتلقفه القنوات الفضائية، مرسلاً في الهواء. متخذو مثل هذه القرارات في البلدان الغارقة في الشمولية، لا يعوّلون إلا على أمرٍ واحد، وهو قناعة لديهم أنّ الرعيّة مجبولون على طاعة أولي الأمر، لا يعارضون أقوالهم ولا أفعالهم ولا ينبغي لهم. لكأنّ الطاعة العمياء عندهم، هيَ فطرة الله التي فطر الناس عليها. .
مِن آفاتِ مثل هذه “الشمولية العميقة” ازدراؤها بالرأي الآخر، واستخفافها بمعارضيها، إذ نجد مشموليها سادرين في غيّهم يحسبونه رشدا، غير آبهين بمن يعارض توجّههم، حضارياً كان أم غيرَ ذلك. على أنّ العاقل الرشيد يُدرك أنّ فلاح أولي الأمر يا قرائي الأعزاء، يكون بالتزامهم أصل الشورى في شكلها الموضوعي، كـأنْ تكون تدارساً واعياً لخلفياتها، وتمحيصاً لوقائعها، وقراءة للأوجه السالبة فيها والإيجابية، ثم طرح الخيارات، الأدنى منها والأقصى. غيرَ أنّ ذلك في عرفِ “الشموليات”، كلبنِ الطير أو كعنقاءٍ مُغربِ، سراباً لا يطاله حالمٌ. إنّ اتخاذَ القرار عملٌ يقوم على أسسٍ موضوعية، وعلى معايير علمية، أكثرها مِمّا يدخل في أصول علوم الإدارة وفنيّاتها، فأينَ نحنُ من كلّ ذلك. . ؟
( 2 )
تعمّقت “شمولية” نظام مايو تحت قيادة جعفر نميري في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، وبعد مرور أكثر من عقدٍ على قيام انقلابٍ عسكري، ادعى أنّهُ جاء ليحقّق عن صدقٍ مباديء انتفاضة أكتوبر 1964 الشعبية، تلك التي أطاحـت بحكم عبّــود الشمولي، واستبشر الناس وتطلعوا لخيرٍ سياسي عميم. يقول منصــور خالد : (( بحلول عام 1983 استيقظ السودانيون ذات صباح من شهر سبتمبر في ذلك العام ليفاجأوا بقائدهم الذي عرفوا عنهُ وأحبوا فيه الكثير، يعلن بمرســومٍ رئاســي تطبيق الشريعة عليهم وإعلان نفسه أميراً للمؤمنيـن. . )) ولتفسير ما جنحتْ إليه “شمولية” نميري، رجّح منصور إلى أنّها من بين أسباب عديدة، يتصل بعضها بتكوين شخصية نميري ((وأسلوبه الشاذ في إدارة للأمور بادعاء ضرب من ضروب الرجولة، كما أنّ ذلك الأسلوب أفضى به إلى العجز التام عن الوعي بالآثار المترتبة على قراراته. ذلك يبدو بوضوح في الطريقة التي استهان فيها بقراره بإلغاء اتفاق أديس أبابا. عندما أعلن، و لاقو إلى جانبه: “هذا الاتفاق قمتُ به أنا و لاقو وكلانا موافق على إلغائه، فلِمَ كلّ هذه الضجة؟ “. .)) أنظر صفحة 370 من كتاب د. منصور: السودان أهوال الحرب.. وطموحات السلام قصة بلدين، الصادر عن دار تراث، عام 2003.
من تداعيات هذه الضجّة التي أشار إليها نميري مُستعجباً، ما وقع من تطور أفضى بالبلاد إلى أن تنشطر إلى دولتين، بعد نحو ثلاثين عاماً من تلك الضّجة. إنّ “الشمولية” الرّعناء وقد تعمّقت عند قائدها الأمام، لم يعُد يرَ حوله من يُستشار في أمور البلاد المصيرية، إذ الشورى في النظم “الشمولية العميقة”، تذهب إلى إجازة مفتوحة وغيابٍ مُستدام. ذلك مثالٌ صارخ لخطيئة وقعتْ وكلنا شهودٌ على فداحة المصير الذي نعاني ويلاته في أيامنا الماثلة. كثيرة هي خطايا “الشموليّات العميقة”، ولكن دعني أحكي لك عن خطيئة شهدتُ طرفاً من وقائعها في وزارة الخارجية التي عملتُ فيها لسنوات طويلة، معاصراً خلالها “شموليتين” قابضتين، ذلك القبض “العميق” الذي أحدّثك عنه.
( 3 )
ساءتْ الأحوال السياسية والاقتصادية أوائل سنوات الثمانينات، سوءاً بليغاً تحت قيادة نميري وقد استفرد باتخاذ قراراتٍ مصيرية، لم تُخضع في مجملها لأيّة تدارسٍ أو تمحيصٍ أو استشارة تَحترم ? على الأقل- تلك المؤسسات التي أنشأها ذلك النظام الشمولي نفسه. حين ألغى اتفاق أديس أبابا الذي بسطَ السلام في ربوع السودان على مدى عقدٍ كامل، وحين فرض قوانين سمّاها قوانين الشريعة الإسلامية، لم تكن مرجعيته في اتخاذ مثل هذه القرارات برلمانه الذي أنشأه النظام بيديهِ، ولا جرى تلمّس آراء أخرى عبر أيّ قنوات متاحة.
عانت وزارة الخارجية، تلكم السنوات من عداء وتوجّس من عناصر قيادية في وزارة المالية، ربّما لم يكن متعمّداً، إذ أن أكثر أولئك المتوجّسين كانوا يرون في صرف العملات الصعبة على ممثليات في الخارج هدراً لا يليق بحكومة تعاني من شحٍ حادٍ من هذه العملات. حسبوا أنّ إغلاق بعض هذه الممثليات الدبلوماسية، سيوفر لميزانية الدولة بعض احتياجاتها، وما فطنوا إلى أن ذلك إجراء قد يقلص من فعالية الدبلوماسية السودانية، ويقلّل وجودها في محيطها الإقليمي الأقرب، كما في محيطها الأبعد.
خرج وزير الخارجية الرّاحل محمد ميرغني مبارك من مكتبه إلى القصر الرئاسي إثر استدعاءٍ عاجل. حين عاد بعد منتصف النهار، كان تحت إبطهِ قرارٌ رئاسي بإغلاق نصف سفارات السودان في الخارج. قرار إغلاق اثنين وعشرين سفارة من سفارات السودان نزل كالصاعقة على جهاز الدبلوماسية السودانية. نعرف عن الوزير محمد ميرغني مبارك خلفية عن التزامه الصارم بتنفيذ التوجيهات والقرارات دون كثير مجادلة، منذ أيامه الأمنية في وزارة الداخلية في خمسينيات القرن الماضي. لفراسته الأمنية اختاره الزعيم الأزهري مسئولاً عن أمن وفده الذي شارك في مؤتمر باندونق عام 1955. في وزارة الدبلوماسية وهو وزيرها، لم يتخفّف محمد ميرغني كثيراً من صرامته تلك.
( 4 )
مثلَ هذا القرار الذي استفرد به صاحبه على هذا النحو، لا يصدر إلا عن “شمولية” عميقة الجذور وبلغتْ من العمر عتيّا، ديدنها الاستهانة بأيِّ رأيٍّ مخالف، واستقواؤها نابعٌ من طول مكثها، وإقصاؤها للآخر جاء من انتصارات متوهّمة على معارضةٍ تداعتْ مصداقيتها. الذي شاع وقتها وصدّقهُ الكثيرون- وأنا واحد منهم – أنّ وزارة الخارجية لم تُستشر بشأن ذلك القرار، بل كان دورها إجرائياً بحتاً ، يتصل بتوفير المعلومات واقتراح آليات التنفيذ.
من بين السفارات التي استهدفها قرار الإغلاق، كلّ سفارات السودان في شرق أوروبا ذلك الزمان، عدا سفارة السودان في موسكو. لأعطيك مثلاً يثبت سَفَهَ ذلك القرار، سمعتُ من زملائنا الذين كانوا عاملين في سفارتنا في بوخارست، أن الحكومة الرومانية ألحّتْ على إبقاء السفارة مفتوحة، وعرضتْ خياراتٍ عديدة، تتجاوز مبرّرات الأزمة الاقتصادية، إذ أنّ رومانيا نفسها ليست في وضع اقتصادي أفضل من السودان. وأعرف أن دولا عديدة قدمت عروضاً مماثلة حتى يحتفظ السودان بسفارته لديها. لم يكن هنالك من مجالٍ لمراجعة قرار إغلاق السفارات، والوزير مبارك هو من نعرف. آخر المطاف، اضطرتْ السفارة في رومانيا لإخلاءِ مبنىً كانت تشغله بما لم يكن يثقل على ميزانية السفارة، كما اضطرّت للتصرف ببيع الأثاثات بثمنٍ بخس، وشحن سيارات السفارة إلى سفاراتٍ سودانية أخرى لم يمسّها قرار الإغلاق. لتنفيذ عملية الإلغاء، حوّلت وزارة الخارجية لبوخارست مبلغاً كان يمكن أن يغطي تكلفة تسيير أعمال السفارة، ورواتب العاملين فيها لأكثر من عام كامل. . ! وحين قرّر السودان إعادة فتح سفاراته في زمانٍ لاحقٍ، بلغت التكلفة ثلاثة أضعاف تكلفة الإغلاق أو تزيد. . !
( 5 )
أكثر ما أوجعنا، في وزارة الخارجية، هو قبول قيادتها لقرار إلغاء أغلب الوجود الدبلوماسي للسودان في إقليمه القريب، دون أن يتاح لنا إبداء رأيٍّ في ذلك، إلا ما تبادلناه في تهامسٍ لم يبرح ردهات الوزارة، وهمهمة خفيضة بلا مردود. كانت قناعة العاملين أنهم يعملون تحت نظام شمولي قابضٌ، باسطٌ يديهِ لا يقبل التراجع، بل لا ولن يقدم على المُراجعة. في الثمانينات، صار نظام مايو “الشمولي” في نظر المراقبين عميقاً راسخا. لكَ أن تتصوّر كيفَ أنّ السودان أغلق سفارتين له في بغداد وفي بيروت، وذلك كان مثار دهشة، قاربتْ الاستنكار في أوساط الجامعة العربية. في تلك السنوات كانت لبغداد اليد العليا التي ساعدت السودان وهو في ضائقة المواد البترولية. خلال شهور الأزمة الطاحنة تلك، فيما يتذكر الكبار من قرائي، كنّا نقضي قرابة يومٍ كاملٍ من أجل حفنة ليترات من البنزين. .
حين أغلق نميري سفارته في بيروت، كان للسودان احترام وتقدير في لبنان، يفوق احترام وتقدير أيّ دولة عربية أخرى له، وذلك تقدير مصدره الدّور الذي لعبته القوات العسكرية السودانية في إطار قوات الردع العربية، خلال الحرب الأهلية في لبنان(1975-1990). بعد عقدٍ كاملٍ من الغياب، جرى فتح السفارة أواسط التسعينات، وحين جئتُ بيروت سفيراً في عام 2006 ، وجدتُ ذلك الاحترام قد خفَتَ، وذلك التقدير قد تآكل، بسبب وجود جيوشٍ جرّارة من السودانيين العاطلين عن العمل، المحظوظ من بينهم يمتهن وظيفة كان سيستنكف إن عرضوها عليه في بلده. غابتْ عن ذاكرة اللبناني صورة السودان التي عرفوها في السبعينات، وتشكّلت من الأداء المميّز لكتيبة الجنود الشجعان ضمن قوات الردع العربية في سنوات الحرب الأهلية في لبنان، ومن الصورة الزاهية لرجال من أمثال محمد أحمد محجوب وجمال محمد أحمد، تركوا في سنوات الستينات بريقاً للسودان في لبنان. غياب السفارة بإغلاقها لأكثر من عشر سنوات، أسهم في غياب صورة السودان الإيجابية في ذلك البلد الشقيق.
( 6 )
تلك أمثلة لجنوح أنظمة “شمولية عميقة”، يزداد ازدراؤها بالآخر ويرسخ إقصاؤها له، بمرور الوقت، فنرى كمثل ما رأينا خلال سبتمبر2013 ، من قراراتٍ فُرضت فرضاً ولم يكتمل إجراء التشاور حولها، بل عمَدتْ الدولة لإيهام الملأِ أنّها قابلت الزعيم فلان والقيادي علان، فكأنّها تزعم أنها شاورتْ ومن موقع السطوة لم يخبْ مسعاها، وذلك يدخل في بابِ خداع الذات. لعلّ “الشمولية العميقة” في أقصَى حالاتها، لا تعمد على مخادعة الآخرين فحسب، بل على مخادعة نفسها كذلك. . !
يبقى السؤال الفلسفي: أينَ جذور هذه “الشمولية العميقة”. .؟
لعلّ أكثر ما نحتاجه هو التحليل الرّصين للنظام الأبوي الرّاسخ في مجتمعات السودان النيلي منذ قرون عديدة ، وأنّ على علماءِ الاجتماع و الأنثروبولوجيا ودارسي التاريخ والعلوم السياسية، أن ينبروا لإضاءة مفهوم هذا النظام، وعمّا إن كانت له هيمنة على مُجمل سلوكياتنا، ولاة أمورٍ ورعايا. “كبير العيلة” هو حارس القيم وراعي الأسرة في اجتماعها واقتصادها وتعليمها وكامل مناشطها- أخطأ أم أصاب- غير أن هذه السطوة في العين الراصدة، تزيد بالابتعاد عن المؤثر الخارجي وتضعف بالاقتراب منه. على عكس ما قصد الآخرون” من إبقاء السودان معزولا في إقليمه، فإنّ ذلك الإقصاء يطيل من عمر “شموليته العميقة”، ولا يُقصّر أجلَ بقائها. ثمّة حاجة للتقصّي وإعمال الفكر في أحوال اجتماعنا، وتفكيك مكوناته، فقد يعيننا ذلك على مغالبة جذور “الشموليات” السياسية “العميقة” التي أخذتْ بخناق البلاد عبر انقلاباتٍ عسكرية، بأكثر ممّا عرفنا من تعدّدية ديمقراطية. .
===
الخرطوم- 25 أكتوبر 2013
[email][email protected][/email]
وما الفائدة يا سيدي التي يجنيها الشعب السوداني من كنس هؤلاء الركيبة أو تركهم عالقين؟ فهؤلاء وأولياءهم من الإنقاذيين قد أثبتوا مرارا وتكرارا أنهم “عصبة” أو “عصابة” واحدة ذات “مصالح عديدة مشتركة” ولا عدو لها إلا “العوام” من السودانيين سواء في الماضي (منذ غردون) أو في حاضرهم أو مستقبلهم؛ فما بالك يا سعادة السفير مشفق عليهم: سواء من هم في “القاطرة” أو من في “الترلة”؟ وأنت تتدبر أمرهم بإسداء النصح والإرشاد! عفوا يبدو مقالك غير مفهوم ، أم هي النوستالجيا لا أكثر، كما يقول الخواجات!!