السودان: دلالات الإصلاح الذي يدعو إليه غازي صلاح الدين

د. يوسف نور عوض

نال السودان استقلاله في عام ألف وتسعمئة وستة وخمسين، ومنذ ذلك الوقت تعاقبت على حكمه ثلاثة أنظمة عسكرية، كان أولها نظام حكم الرئيس الفريق إبراهيم عبود في عام 1958 واستمر هذا الحكم ست سنوات حتى أسقطته ثورة طلابية في عام 1964، وكان ثانيها نظام حكم الرئيس جعفر النميري الذي بدأ في عام 1969 واستمر حتى عام 1985 وأسقطته ثورة شعبية، أما الحكم الثالث فهو حكم الإنقاذ الذي بدأ في عام 1989 وهو مستمر حتى اليوم، ولكن هذه الأنظمة العسكرية تختلف في طبيعتها عن الأنظمة التي سادت في العالم العربي، فهي في طبيعتها لم تكن أنظمة إرهابية أو تعتمد بصورة كاملة على أجهزة المخابرات، إذ تحكمت فيها الأخلاق السودانية بصفة عامة، ولكن ذلك لا يعني أنها لم تستخدم العنف ضد معارضيها، إذ مرت مراحل استخدم فيها العنف بقسوة ضد المعارضين ولكن تلك كانت مراحل محدودة.

وإذا نظرنا بصفة عامة وجدنا أن الفساد لم يستشر في أنظمة الحكم السودانية، إذ خرج الفريق عبود من الحكم وهو مدين للبنك الزراعي بخمسة آلاف جنيه، وخرج الرئيس النميري وهو لا يملك ما يعالج به نفسه في الولايات المتحدة، ولكن ذلك لا يعني أنه لم تكن هناك حالات فساد ،ولكنها كانت محدودة جدا إذا ما قورنت بما حدث في بلاد عربية وغير عربية أخرى.
ويبقى السؤال المهم هو، لماذا كانت هناك أنظمة عسكرية ولم يتخذ الحكم صورة مدنية خالصة ؟

والإجابة بكل بساطة هي أن الدولة الحديثة لم تتبلور على شكل واضح في السودان، وما رأيناه في بدء عهد الاستقلال لم يكن صورة صحيحة لما يجب أن يكون عليه مستقبل البلاد، فقد رأينا المشهد في ذلك الوقت ينحصر في الحزب الوطني الاتحادي وحزب الاتحاد الوطني وحزب الشعب الديموقرطي وحزب الأمة، وقد أسست الأحزاب الثلاثة الأولى نفسها على طائفة الختمية بزعامة السيد على الميرغني، كما أسس حزب الأمة نفسه على طائفة الأنصار، وهم المجموعة التي ساندت الإمام المهدي في حربه ضد الحكم التركي وكان موطنها في غرب السودان. وقد فشلت جميع هذه الأحزاب في أن تؤسس نظاما ديموقراطيا حقيقيا في البلاد، وكان ظهور الأنظمة العسكرية بسبب هذا الفشل والإخفاق، ولكن الأنظمة العسكرية في مجملها انشغلت بمشكلات الحكم ولم تستطع أن تؤسس النظام الذي تبنى عليه الدولة الحديثة. ونرى أن التحدي الرئيسي الذي واجه ويواجه هذه الأنظمة هو تحدي الانشقاقات الجهوية التي أدت في أول الأمر إلى إقامة دولة الجنوب، وهي توجد مشاكل مماثلة في منطقتي ?أبيي? و?النيل الأزرق?. وأيضا في دارفور، وكل هذه الانشقاقات الجهوية تريد الوصول إلى الحكم دون أن تفكر في الواقع العملي للبلد الذي تعيش فيه.

وكنت من قبل قد ذكرت أن السودان بلد يخضع لوحدة جغرافية وليست سياسية، وهذه هي الحقيقة التي أدركها محمد علي باشا مؤسس السودان في عام 1820 والمقصود بالوحدة الجغرافية هو أن كل أقاليم السودان ترتبط في كيان جغرافي واحد، وقد اتضح ذلك حين انفصل جنوب السودان، إذ وجد الجنوبيون أنفسهم غير قادرين على تصدير نفطهم دون الوصول إلى اتفاق مع شمال السودان، وستواجه جميع أقاليم السودان المنتفضة هذا الواقع بكون المنفذ الوحيد لها إلى الخارج هو عن طريق شمال السودان أو شرقه، وبدون ذلك فإن المنفذ الآخر هو عبر دول أخرى مجاورة، وعند ذلك يواجه أهل تلك الأقاليم مشكلة جديدة، ولا يعني ما ذهبنا إليه أنه لا توجد خلافات ثقافية أو إثنية بين مواطني الأقاليم في السودان، فمثل هذه الاختلافات موجودة ولكن السودان ليس نسيج وحده في هذا العالم إذ هذه الاختلافات موجودة في كل بلاد الدنيا وتعالج بطرق مختلفة، وبالنسبة للسودان فإن أفضل الطرق لمعالجتها هي الحكم الذاتي، وذلك ما اتبعه الانكليز في حكم السودان عندما قسموا البلد إلى ثماني مديريات، في كل واحدة منها إدارة خاصة تحت حكم مدير خاص
ولا شك أن السودان يواجه في هذه الأيام ظروفا صعبة، خاصة بعد ثورات الربيع العربي التي انطلقت في عدد من البلاد العربية وأحدثت تغييرات مهمة فيها، ولكن المسؤولين في السودان قالوا إن بلادهم بعيدة مما حدث في العالم العربي، ولكن التظاهرات الأخيرة بسبب رفع الدعم عن المحروقات وارتفاع أسعار الخبز وغير تلك من الأمور التي تهم الشعب السوداني جعلت الكثيرين يقولون إن السودان ليس بعيدا عما حدث في العالم العربي لأن المسألة تتعلق في نهاية الأمر بمصالح الشعب المباشرة بكون الجماهير قد لا تتحرك في الأمور التي تتعلق بالسياسات العليا، ولكن بمجرد أن تؤثر قرارات الحكومة في مستوى حياة الناس فإنهم يكونون مضطرين للخروج دفاعا عن مصالحهم. وذلك ما حدث في السودان وما شعرت به بعض القيادات في حزب المؤتمر الوطني الحاكم بزعامة الدكتور غازي صلاح الدين الذي تقدم بمذكرة لإصلاح نظام الحزب الوطني الحاكم وكانت النتيجة أن أبعد من الحزب، فقرر هو وأتباعه تكوين تنظيم سياسي أو حزب جديد لا يعتمد على قاعدة شعبية في الوقت الحاضر، ولكن غازي يتطلع إلى أن تلتف حوله الجماهير، ولا شك أن ما ذهب إليه ?غازي صلاح الدين? بعيد عن واقع الإصلاح الحقيقي، فقد يكون الدكتور غازي قد شعر بأن هناك خللا في إدارة الأمور في البلاد، ولكن الحل ليس هو تأسيس حزب إصلاحي يقوم مقام الحزب الوطني، ذلك أن الأحزاب إنما تؤسس في داخل النظم الديموقراطية، وقد شرحنا من قبل الأسس التي تقوم عليها نظم الحكم في السودان، وبذلك يكون ما يحتاجه الإصلاح هو البدء في التفكير النظري لتأسيس نظام يستوعب كل الاتجاهات، وكل الأقاليم في بنية حضارية ومدنية حديثة، وبدون ذلك فسوف يكون الحكم تداولا بين قوى فشلت في إدارة نظام الدولة وقوى تمردت عليها ولكنها لم تستطع أن تقدم في نهاية الأمر ما هو مطلوب منها. وهنا لا بد أن تبدأ مرحلة من التفكير تستعرض كل ما حدث في البلاد منذ استقلالها، وتتساءل لماذا لم يتحقق ما يريده الناس ويتطلع إليه الشعب؟ ولا تكون الإجابة من بين السياسيين وحدهم لأن هؤلاء لا يسعون إلى شيء غير السلطة، بل يجب أن يطرح الأمر على المفكرين لكي يدلوا بدولهم في ما يمكن أن يطلق عليه ثورة التصحيح التي لن يكون الأمر بدونها سوى اجترار للتجارب السابقة.

ويجب هنا أن ننبه إلى أن التغيير لا يحدث إلا بالتفكير، والتفكير قد لا يكون في كل الظروف متوافقا مع رأي السلطة الحاكمة، ولكن مواجهة التفكير لا تكون بالعنف والسجن والأحكام الجائرة، وهذا أمر يحدث بصورة مستمرة في هذه الأيام ويلاحظ في إغلاق الصحف وملاحقة الصحافيين وتوجيه التهم لأصحاب الآراء المخالفة بل وتقديمهم إلى المحاكمات الجائرة، فلماذا يحدث ذلك، ونعلم جميعا أن الكلمات المكتوبة لا تقتل أحدا؟ كما نعلم أن كل فرد يكتب رأيا مخالفا يكتبه بحسن نية؟ وقد يكون كلامه خطأ يحتمل الصواب في نظر الكثيرين وقد يكون عكس ذلك، والمهم أن تكون هناك مساحة للاحتمال حتى تستفيد البلاد من آراء كل أبنائها في جو ديموقراطي يتسم بالحرية، ولا شك أن قبول الرأي الأخر يوفر مساحة للتآلف بين أبناء الوطن حتى لو كان البعض معارضين لنظام الحكم لأنه على الأقل فهم يستطيعون التعبير عن آرائهم في جو من الحرية وقد يكتشف الآخرون صحة تلك الآراء في مرحلة لاحقة.

وفي النهاية نقول إن ما طرحه غازي صلاح الدين لا يمكن أن يكون إصلاحا للنظام وإنما هو محاولة للاستمرار بالنظام بأسلوب آخر وذلك ما لن يضع حدا للمشاكل والاختلافات التي تنعكس ضررا على المواطنين.

? كاتب من السودان
القدس العربي

تعليق واحد

  1. كل المقال لصالح السلطة وليس لصالح الشعب وزلك للغموض التى تحاط بالتسريحات السياسية والواقع الحقيقي هو الواقع التنفيزي

  2. القول الوضاح في من تبنى دولة الشريعة وادعى النجاح

    بقلم المتجهجه بسبب الانفصال:

    أضحى الأمر لا يحتاج أن نتكي على كثير حكي، وبإختصار ومنعاً للتكرار، المشروع الإسلاموي أصبح وهم وهم وشعارتو من غير طعم،، ويعود ذلك الى فهم الاسلامويين المقلوب لرسالة الدين الشاملة،،، فمن حيث المبدأ فان من يطرح على الناس القيادة الدينية يقتضي أمرين لا ثالث لهما إما أن يكون الشخص مفوض من الله عز وجل فانتخبه واجتباه وفوضه ،، وإما أن يكون دجال فيصيب البلاد والعباد بالوبال،،، هذه الاستنتاجات ليست منجورة وليست خبط عشواء وانما جئنا بها نتاج قراءة مستفيضة في علم اللاهوت ومسيرة ارساء الأسس الاولى للدولة الاسلامية التي آلت الى الامويين والعباسيين الذين فصل حكامهم سلوكهم عن الدين ورغم ذلك ظلوا يزعمون أنهم أمراء على المسلمين سواء بالسيف أو قتل المفكرين واقصاء المخلصين وارتكاب واجتراح ذات افعال ناس التمكين الحاليين،،،،

    مراد موضوعي هذا يلخصه موقف عمر ابن الخطاب حيث شعر بخطورة تبني الموضوع مربوطا بخلافة النبي وذلك عندما سماه بعض المفتئتين (خليفة رسول الله) فقرر بذكاء فيه شيء من العلمانية الخفية بأنه ليس خليفة رسول الله وإنما أمير المؤمنين أو المسلمين،،، هذه الجزئية العميقة والحادثة التي لا نعتبرها غريبة بسبب عدم قراءتنا للسيرة بعين النقد فاتت على الدكتور حسن مكي المؤرخ فبالأمس قال كلاماً عجيبا لايفوت على المنقبين في التاريخ لاسيما صراعات السلطة التاريخية المصبوغة بالصبغة الدينية سواء كانت اسلامية أو مسيحية أو يهودية،، ونحن هنا نتساءل ونسائل الاسلامويين الذين أضاعوا زمننا،، ماهو تحليلهم لرفض الخليفة عمر بن الخطاب مسمى خليفة رسول الله،، إجابتنا هي أن عمر قصد أن مؤهلاته إدارية بحتة وليست روحية في سوق الدولة والناس فذلك شأن النبي العظيم الذي وضع الاطر لمفهوم الأمة التي قصرها الاسلامويون في دولة ثم قلصوها بانفصال مسيئين لمعنى امتداد الأمة ،،، فبأي الأراء تفتئتون!! وإذا عادت بنا الأيام وترشح عمنا الحاج ود عجبنا بديوانوا اللي الضيوف ديما فاتح ديل يقعدوا وديل يمرقوا ومروان ابن الحكم مزور ختم الخليفة وواضع بذرة الاسلاموية من منهم ستمنحه سوطك يا محمد أحمد يا أخوي بل من منهم حسب قيم الدين هو المستقيم هذا اذا استثنينا فلسفة التمكين وواقعها المعاش باسم الدين ما فرخ شخصيات شبيهة بمروان الأول،،، فكر في الموضوع ودع عنك الشعارات الوهم فالحرية الفردية هي التي تجعل لدينك طعم ،،،

    الشاهد أن تبني الاسلامويون لمزاعم إقامة لدولة الاسلامية التي لم تنشأ الا في عهد النبي وانتهت بوفاته جعلهم يبدون كالاغبياء وكل ما توغلوا في الموضوع أصبحت أحاديثهم كذب في كذب لأنهم تبنوا موضوع كبير وخطير فاعقبهم نفاقا على نفاقا فهم يعيشون ما يسمى بالدولة الاسلامية باللسان في حين أن سلوك الكثيرين منهم أدنى من سلوك المسلم العادي الذي يخطئ ويتوب بل لا يفوقونه في شيء ففيهم من يرقص على أنغام الموسيقى بما فيهم أمير المؤمنين الحالي، وفيهم من يحب قضاء العطلة في دبي أو ماليزيا ويضع أمواله في بنوك بريطانيا وفيهم من يستمع لأغاني الحقيبة وقد قال صلاح غوش في اللقاء الذي أجراه معه عادل الباز نحن اسلامنا اسلام السودانيين العاديين بالتالي نتساءل إن كنتم كذلك فلم تتبنون مراً انتم لستم قدره ولم تفوضوا له،،، هذا التساءل يقودانا الى مسألة أسماها نقاد علماء الأصول الحكم العقلي المسبق والمستقلات العقلية وهي الجزئية الخطيرة التي أشار اليها القرآن بالكفر وهي اشتراك العقل في الحكم الشرعي وجاء ذلك من خلال التسائل بهل يضع العقل حكما مسبقا على نص ملزم وأشاروا الى ذلك ببدايات العقل وعقل المجموع الذي استنتجوا منه أن الجماعة لا يتواطؤن على خطأ وعلى أساس ذلك رفضوا حديث الآحاد ثم انبثقت من هذه الجدلية مسألة حسن وقبح الأشياء بين المعتزلة والأشاعرة وهي معركة بغير معترك ومافي ليها داعي وأضرب لهذه المعركة ومعرفة العقل الانساني حسن وقبح الاشياء من خلال العقل الأولي دون حاجة للرجوع لعالم شريعة فعلى سبيل المثال: عندما اطلقت مليشيات الانقاذ الرصاص على المتظاهرين العزل وعلمت يا محمد أحمد يا أخوي بالخبر فانه دون شك قامت أوليات عقلك مباشرة باستنكار الموضوع واستقبحت ذلك الفعل لكن عندما بدأ الناس يتحدثون والحكومة تتحدث هذا يبرر وهذا يكرر وذلك يمرر تمكنت هذه الأراء من طمس حكم أوليات العقل بقبح قتل المحتجين السلميين،، في حين في الجانب الآخر ورغم خطورة هذه المسألة عرفا وشرعا وانسانيا إلا أنك تجد أناس درسوا الشريعة ويصلون بالناس لم يقبحوا قتل المتظاهرين، أتدري لماذا لأنهم وضعوا حكما مسبقا بسبب انتمائهم للجهة القاتلة بالتالي كان حكم الانسان العادي شرعيا على ما حدث أكثر منهم وهذا هو ما سميناه وضع الحكم المسبق ولم يقصد به غير العلماء لأن الانسان العادي لا تصدر منه أحكام تجاه أوامر الشرع ونواهيه ،،،

    بالتالي فان اهل الحركة الاسلاموية وفيهم التكنوقراط لو قصروا جهدهم في انشاء الدولة على أسس مدنية أو ديمقراطية لنجحوا وكانوا أكثر مصداقية في حديثهم لأنه لن يشادد الدين أحدا الا غلبه ،، ألا تراهم يحاولون أن يصدقون في القول فيكذبون من حيث لا يعلمون بل ان الناس العاديين الذين لايرفعون شعار الدين أصدق منهم في القول والمعاملة ،، وذلك لأنهم إدعوا قيامهم بأمر ليسو قدره وهنا تكمن الخطورة ،، هذا مثال للناس لعلهم يرعوون،، هل وصف الناس حكومة ووزراء عبود بالكذب كما راج الآن عن الإنقاذ،، هل وصف الناس حكومة ووزراء نميري بالكذب بقدر ما يصفون الانقاذيين الآن ،، هل وصف الناس حكومة الاحزاب بالكذب كما يصفون الانقاذيين الآن ،، الاجابة لا،، والسبب أن الانقاذيين تبنوا أمر ليسوا هم له أهل ولو حكموا بأي نهج آخر لما بلغوا هذه المرحلة من الكذب والزييف والتزييف لأن قانون المد الإلهي هنا أكثر صرامة من المد في حال من لم يدعي الحكم وفق شريعة الله،،

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..