السُّلْطَةُ..حِينَمَا لا تَقْبَلُ القِسْمَةَ عَلَى شَعْبٍ وجَمَاعَةٍ!

إن الاتهامات التي وجهت إلى مرسي تؤكد أن الشعب المصري بطبيعته يأبى الإقصاء، ويرفض أن يقتنص منه أحد الوطن والأرض.

بقلم: د. بليغ حمدي إسماعيل

في موسم الهجوم على جماعة الإخوان المسلمين الضاربة في تاريخ مصر سياسياً وتاريخياً لا تأتي هذه السطور، لا سيما وأن الصحافة المصرية والعربية اعتادت تناول موضوع وصول الجماعة إلى سدة الحكم في مصر بعد فترة وجيزة من حكم المجلس العسكري عقب ثورة شعبية بيضاء، واصفة نفسها بأنها صانعة الثورة ومن ثم جاء وصولها للحكم أمراً طبيعياً كما كان سقوطها السياسي الرسمي والشعبي ظاهرة طبيعية وربما فطرية أيضاً، لكن الأمر يتجاوز الحديث عن جماعة الإخوان وفكرة تنظيمها ومهامها وأدوارها التي فرضت على الشارع السياسي تداول أخبارها وأخبار قياداتها ورموزها.

ووصولاً إلى الشاطئ الثاني للعبة السياسة والسلطة فإن محاكمة الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي ومرشد الجماعة وقياداتها تأتي في سياق المواضعة اللغوية للسياسة بأنها فن الممكن والمستحيل، فإذا عادت بنا الذاكرة للوراء قليلاً لتذكرنا ثلاثة تصريحات هي على التوالي للدكتور محمد بديع آخر مرشد علني للجماعة وللدكتور سعد الكتاتني آخر رئيس لمجلس شعب مصري قبل حله وأخيراً للنائب الأول للمرشد المهندس خيرت الشاطر والتي يمكن اختزالها في أن الجماعة لا تفكر ولن تفكر في خوض انتخابات الرئاسة ولا تسعى إليها وهذا هو منطق الممكن، أما فن المستحيل أن الجماعة قررت خوض الانتخابات وفاز مرشحها وإن أنكر الدكتور محمد مرسي، ولكن لأن السياسة لعبة في أساسها فإن المستحيل يعقبه ممكن جديد وهو عزل الرئيس وحظر الجماعة رسمياً لكن شعبياً أو بلغة الواقع فإن الجماعة لا تزال موجودة بالفعل بل وتتصدر المشهد السياسي بصور شتى؛ منها التصريحات السياسية وأعمال التظاهر التي تصل إلى التخريب والإرهاب على حد وصف بعض وسائل الإعلام الذي أصبح هو الآخر يقبل القسمة على اثنين مثله مثل السلطة التي أصبحت في مصر اليوم تقبل القسمة على أكثر من اثنين.

وبمحاكمة الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي تكون الدولة متمثلة في القضاء والجيش والشرطة قادرة على إعلان وإظهار التماسك الأمني في مصر، بالرغم من المحاولات المستمرة من بقايا جماعة الإخوان الذين لم يتم القبض عليهم بعد لا بغير سبب بل بفضل أعمال التخريب وتقويض أمن وأمان المجتمع وخير دليل أحداث جامعة الأزهر.

فمثول الرئيس المعزول وبعض قيادات الجماعة التي لربما اعتادت الحظر سياسياً كان محض افتراء وكذب لدى أنصار الجماعة لا سيما المرددين لشعارات الشرعية وهم رهن البقاء والامتثال للصندوق البلاستيكي الذي جاء بالرئيس لسدة الحكم رغم أن الصندوق هو أحد إجراءات الممارسة الديموقراطية وليس نهايتها وهو الأمر الذي يغفله كثير من أنصار الرئيس المعزول ومن يطلق عليهم اليوم بالربعاوية.

والذين راحوا ينددون بالمحاكمة ووقفوا متظاهرين بجوار مقر انعقادها متهمين جيش مصر العظيم باتهامات يعاقب عليها القانون المصري وليس قانون الوعود الكاذبة أو المشروعات الورقية الوهمية ظنوا أن ثمة أيادي خفية تستطيع أن تنجي الرئيس المعزول وقيادات الجماعة من المثول والوقوف في قفص الاتهام، ولاشك أن هؤلاء الربعاوية كثيرو الجدل، فحينما يصل الدكتور محمد مرسي رئيساً لمصر من خلال الإشراف القضائي والرقابة القضائية يقولون إنه نزيه بالفعل ومثالي وشريف، وحينما يعلن القاضي بدء محاكمته نسمع الألسنة تنبري لاتهام القضاء والقضاة وبعدم حياديته ونزاهته، وأنا في حقيقة الأمر وغيري لم يتعجب، لأن الرئيس محمد مرسي نفسه وكأنه لم يصدق خبر فوزه في الانتخابات الرئاسية وربما ظن أن بعض الأخطاء قد تتوالى بشأن فوزه وفرز الأصوات لجأ مباشرة إلى تنصيب العداء مع السلطة القضائية وظهر هذا جلياً حينما تلكأ الرئيس المعزول بعض الوقت في حلف اليمين الدستورية أمام أعضاء المحكمة المنوط لها هذا الأمر، رغم أن الرئيس يعلم تماماً إجراءات تدشين المنصب القانونية.

ومن لم يتذكر، أن الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي دخل في صدام مبكر مع القضاء المصري حينما قام بإصدار قرار رئاسي بعودة مجلس الشعب المنحل، والذي كان مسرحاً خصباً للفكاهة السياسية وللاقتراحات التشريعية التي استهدفت تمكين الجماعة في أرض مصر المحروسة.

وظهر التضارب والتخبط في المحكمة رغم فرحة أنصار الرئيس المعزول بظهوره واصفين إياه بالأسد في العرين حسب وصفهم وافتخارهم وهذا أمر لا يعنينا بقدر ما يعنينا دحض التهم الموجة إليه والتي كثر الحديث عنها وصال وجال القانونيون في حصرها وعدها، لكن إصرار الرئيس المتهم بقوله بأنه الرئيس الشرعي هو ضرب للفصل بين السلطات، فإن جاز له ولأنصاره ولجماعته وعشيرته أنه بالفعل رئيس شرعي لأنه جاء بالإرادة الشعبية التي خرج بها أيضاً فهو صاحب السلطة التنفيذية، ومن ثم هناك سلطتان أخريان؛ التشريعية متمثلة في مجلس الشعب غير الموجود والمنحل في عهده المنصرم، وسلطة قضائية لا يملك زمامها أو التحكم في قراراتها أو هويتها لأنها سلطة بالفعل مستقلة.

مثل هذه الأمور تدفع بنا إلى التفكير في مدى فهم الجماعة إلى طبيعة الدولة وماهيتها ومدى فهمهم لموضوع الديموقراطية الكلمة كثير الالتباس والجدل، وبالفعل محاكمة الرئيس محمد مرسي كانت مثالاً جيداً لديموقراطية المواطن ليس من باب التهليل للدولة القائمة بالفعل، بل لأن من وجد بالقفص الحديدي استطاع أن يعبر عن نفسه كما يشاء وكيفما يظن ويعتقد.

ورغم ما يثيره أنصار الرئيس محمد مرسي بأن شرعية المحاكمة باطلة ومضللة وغير قانونية، فمن المنطقي أن نطمئن إلى شهادة الفقيه القانوني وخبير القوانين المصري محمد نور فرحات حينما يقر بأنه لا شبهة قانونية في المحاكمة وأن الاتهامات الموجهة إلى الرئيس المعزول محمد مرسي حقيقية وليس بها عوار أو محل جدل. والمستقرئ للمشهد السياسي يدرك أن مثول الرئيس السابق أمام قضاته يكون قد أنهى شرعيته التي طالما خرجت المظاهرات تنادي بذلك.

وفي الأيام المقبلة قد نجد أموراً مثيرة وأكثر إثارة أيضاً، فلربما يخرج الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي من قضاياه بريئاً طبقاً لحكم القضاء، وهنا ستكون لدي رغبة متسرعة في معرفة رأي الأهل والعشيرة و أنصار الرئيس المعزول في هذا الحكم وهذا القضاء.

إن الاتهامات التي وجهت إلى الرئيس محمد مرسي وبصددها مثل أمام المحكمة هو وبقية زملائه في الجماعة تؤكد أن السلطة في مصر لا تقبل القسمة على شعب وجماعة، لأن الشعب المصري بطبيعته يأبى الإقصاء، ويرفض أن يقتنص منه أحد الوطن والأرض.

وربما سبَّب ظهور الملايين في الثلاثين من يونيو في وجه الرئيس المعزول وجماعته نوعاً من الدهشة ولا أقول الصدمة؛ ففريق إخواني قال إن هذا العدد غير صحيح، بينما ظن فريق ثان أن الحشود وهمية ومن صنع خيال وعدسة المخرج خالد يوسف، وفريق ثالث ادعى بأن اللقطات من ثورة 25 يناير، لكن الحقيقة التي لا تقبل شكاً أو دحضاً أو تخريفاً أو محض خيال بأن أعداد المتظاهرين إما في انحسار أو يلجأون أنفسهم إلى أعمال العنف والتخريب، وأن الشعب وعى وفطن إلى مستقبله ومصيره، وكم من خبر صحافي نطالعه بأن الأهالي هم الذين تصدوا لتظاهرات الجماعة وليس الأمن.

وإذا كانت الجماعة في معركة مصيرية لبقائها الذي انتهى بظهور الرئيس المعزول وهو يواجه جملة اتهاماته فهذا يتحتم عليها الرضوخ لرغبة أغلبية شعبية من أبناء الوطن، والتعامل بمهارة سياسية مع المعارضين لها ولممارساتها.

د. بليغ حمدي إسماعيل
ميدل ايست أونلاين

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..