هبّت الخرطوم في جنح الدُجى

فيما كانت الحافلات والسيارات تتلوى في وسط الخرطوم , والناس كل الناس داجين كدّاري من جاكسون للاستاد ومن شارع العيادات والمستشفيات الخاصة في شرق السوق العربي الى محطّات المواصلات المشتتة , وأبواق السيارات تكمل مهرجان الصخب في معزوفاتها المزعجة مع أصوات النجدات وسيارات الشرطة المسرعة , وثمّة شفّع من تلاميذ وتلميذات المدارس يجوبون الطرقات وسط الخرطوم , ومكبرات صوت تلعلع بأناشيد لا تلامس الواقع الذي يعيش في كنفه الناس مثل ؛ أيّها الناس نحن من نفر عمروا الأرض ..إلخ في تلك الساعة من ساعات الضجر الوطني العارم , وجميع من لاقيت يسخط ويشكو ويئن , وصفوف المرضى والمرافقين المنتظرين في المستشفى والعيادات , وطلبة الجامعات يتكدسون في المحطات , وأرباب المعاشات يتوكأون على مرؤاتهم التي هدّها ربع القرن من التشريد , في تلك الساعة كانت الكلمات تخرج ميّتة قبل الميلاد , لأنّها كلمات من الطوق ولا فوق كما يصف أهلنا الكلام الفارغ الذي يجافي الحقيقة والواقع , ويضطر صاحبه ليدلقه على أذان سامعيه دلقا , كان حاكم المدينة يتحدّث عن 2 مليون مواطن في ولايته شاركوا في حواره المجتمعي , احصاءات مفصّلة شملت 7 محليّات , و105 وحدة ادارية و 1933صالون في الأحياء و20 ملتقى شارك فيها كل سكان الخرطوم وقدّموا 700 توصية تناولت كل قضايا المعيشة , وستتحول الى قرارات تنفذّها حكومته .
في تلك الساعة كان الوعي يشرق بعاملة بسيطة في احدى المؤسسات الخاصة , امرأة من غمار الناس لكنّها من أصلحهم على كل حال , لا تكاد تجيد اجراء عملية جمع لثلاثة أرقام مع بعض , لكنها تفيض انسانية وتستطيع أن تجمع كل اللغط في ممارسة بسيطة وسهلة ومفيدة , كنت أداعبها مازحا : يا فُلانة انت ما شالله مقرّشة , من بيع الشاي والقهوة لعدد محدود من العاملين في تلك المؤسسسة . وكنت في الواقع أعلم محدودية ما تجنيه من لهب الجمر وبخار الشاي وغليان القهوة . اجابتني بثقة وهدؤ , أنا أوزع ما اجنيه كالآتي : أقسم العائد بعد خصم التكاليف كلّها مع (فلانة) زميلتها المريضة منذ نحو 4 شهور لم تداوم , اقتسمت تلك العاملة شغلها مع زميلاتها الأخريات حتى لا يتضجّر أرباب العمل من الغياب الطويل لزميلتهن المريضة , وها هي الآن تقتسم معها يوميا صافي الإيراد ! أي نزاهة تكلل هام تلك السيدة العفيفة , وأي رهافة ينطوي عليها ذاك القلب الأبيض الصافي الذي يخفق بين جنبي تلك المرأة العظيمة , لم تطنطن , لم تقل مالي ومالها تلك الغائبة التي يكفي اقتسامنا لمهامها حتى اقتسم معها عائد عمل لم تقم فيه بأي دور , لكنهم الفقراء دوما أكثر تضامنا أكثر شفقة و أعظم خُلقا من المتمشدقين بالقيم والمُثل ودواخلهم منها خواء . ثمّ ماذا يا ست ؟ ما يتبقى من نصيبي , أمنح منه هذه ( زميلتهن الأخرى) مصروف لأولادها اليتامى , يا إلهي , إّنها تمارس فضيلة الانفاق في صمت , مما تعجز عنه تلك المسميات الضخمة ذات الربط الملياري سنويا , ثمّ ماذا يا امرأة ؟ الباقي نتوصل به , أنا وزميلتي تلك . المواصلات بعد المغرب (بريييي) صعبة خلاص , نضطر لدفع 10 جنيه للنفر حتى نصل دار السلام غرب سوق ليبيا . قلت لها مواصلا المزاح حتى اجرجر تلك الحكيمة : طيّب ما أهو المرتبات زادوها كويس . ردّت باقتضاب , هسّ ال100جنيه دي زيادة ؟ لأننا لا نملك نقابة لا نستطيع نيل حقوقنا . أها , وكمان معاها وعي نقابي وحقوقي ؟ حسنا يا ست ثمّ ماذا في جعبتك ؟ شوف المؤسسة عندها محامي ومستشار قانوني أنحن ليي ما يكون عندنا نقابة زي ما هم بيدافعوا عن حقوقم نحن برضو ندافع عن حقوقنا . وصمت صاحبكم إزاء هذا المنطق الفصيح رغم أنّ اللغة العربية ليست لغة الأم لتلك الأصيلة . كانت المايكرفونات تلعلع : أعضاء اللجان طافوا كلّ أرجاء الولاية تنويرا بأهميّة الحوار ومدى معالجته لمشكلات البلاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية . هل يمكن السؤال عن , وهل اجتمعت تلك اللجان بتلك السيدة الرصينة البسيطة التي تفعل كل ما في وسعها لحل مشكلة زميلاتها واسرتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كمان ؟ هل من ال700 توصية واحدة فقط تجعل مدير مستشفى ابراهيم مالك التعليمي يعدّل من ويسحب استقالته المسسبة بعشرة أسباب حسبما أورد محجوب عثمان في جريدة الصيحة في ذات يوم (هبة الخرطوم) و أدنى تلك الأسباب أنّ القرارات تصدر من فوق للمدير الطبي مباشرة دون المرور به كمدير عام للمستشفى , وليس أقلها , تسرب المياه تحت مباني قسم الطوارئ والاصابات , ومنها سعة المستشفى التي لا تلبي حاجة المرضى , وعدم كفاية العلاجات المقدمة من وزارة الصحة , وعدم صرف استحقاقات المتعاقدين الشهرية , وعجز الوزارة عن توفير مستهلكات المعامل وبنك الدم . هذه حيثيات الاستقالة للمدير العام للمستشفى الذي يقع في قلب الخرطوم , وتم ترحيل بعض اقسام مستشفى الخرطوم العريق اليه . في الوقت الذي كانت هبّة الخرطوم كان المواطنون يصطفون في الطوابير أمام المخابز للحصول على رغيف , بعد أن تمّ تخفيض كمية الدقيق الموزّعة للمخبز الى 3 جوّلات , كما أفادت لبنى عبدالله في صحيفة الجريدة . بعد أن كانت ما بين 10__12جوال للمخبز الواحد . تًرى هل يعتبر دواء مستشفى ابراهيم مالك , وخبز الأفران من ضمن هموم المعيشة لسكان الخرطوم ال2مليون الذين ضمّتهم الصوالين متحاورين متجاورين متحابين في السلطة ( أقصد في الله)!!!!! وصوت الكابلي يشنّف الأذان ؛ هبّت الخرطوم في جنح الدجى والتقينا في طريق الجامعة ,,, وليرحم الله الشريف محجوب : متين تصفى سما الخرطوم حبيبتنا متين ؟
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..