المتعايشون مع الإيدز.. معاناة صامتة في جوف المجتمع

إختصاصيون: الإيدز ليس مرضاً بل حالة صحية.. وهذه هي الطريقة المثلى للتعامل معه..

تحقيق: عادل كلر

?فكرة سخيفة!?.. هكذا كان ظن (أحمد) الفتى ذو الإثنين والعشرين ربيعاً إزاء مقترح زملائه بالكلية، الذين إقترحوا إجرائهم لفحص الإيدز المجاني على سبيل التجربة والدعابة لا أكثر، وقال أحمد بأنه الوحيد ? بين شلة أصدقائه الأربعة- الذي لم يكن متحمساً للمقترح الذي جاء مع بداية عامهم الدراسي الرابع في فبراير 2011، مضيفاً بأنه وبعد قبوله إجراء الفحص الذي كانوا قد قرأوا إعلاناً عنه في إحدى الصحف، بأنه الوحيد.. المصاب! وساعتها لم تقدر رجليه على حمله وهو يردد كالمذهول: ?مامكن.. ماممكن?.. وإتصل زملائه بشقيقة أحمد التي تعمل ?طبيبة? وأخبروها وحضرت بسرعة واصطحبت شقيقها إلى المنزل..

الأيدز.. حالة صحية:

يظل الإيدز أحد أخطر الحالات الصحية المعقدة والشائكة، إذ أن الإيدز لا يعتبر (علمياً) مرضاً بل هو ?حالة صحية? فـ(الإيدز) أو (متلازمة نقصان المناعة المكتسبة) والذي يعمل على إضعاف جهاز مناعة المصاب ويجعله بالتالي عرضة للإصابة بالعديد من الأمراض، ويبقى الإيدز على رأس قائمة الحالات الصحية التي تخلف تبعات اجتماعية باهظة على ضحاياها في السودان، وتستدعي إيلاءاً خاصاً للإهتمام بمرحلة ما بعد الإصابة وإكتشافها على المستويات الطبية (العلاجية) والنفسية والإجتماعية، في آن واحد.. وهذه قصة طويلة الفصول يعرفها جيداً من ?وطئوا جمرتها? أو (المتعايشون مع الإيدز) كما إصطلح على تسميتهم.

ويقول أحمد الذي يسكن بأحد أحياء الخرطوم الراقية، وينحدر من أسرة ثرية ومتعلمة، بأنه عقب إكتشافه إصابته بالإيدز مع أصدقائه بالجامعة، أصيب بهزة نفسية عنيفة، إذ أنه ليس من معاقري المخدرات وليست لدية أي علاقات جنسية ولم يقدم على إجراء نقل دم بتاتاً، وأضاف بأنه شقيقته الطبيبة ساعدته كثيراً على تجاوز(المحنة) حيث أخضعته لإعادة الكشف لثلاث مرات بغية ?قطع الشك? والتأكد، وعملت على التمهيد لتقبل الأسرة للنبأ، وأضاف بأنه عانى لمدة عامين على مستوى الأسرة ومجتمع الحي الذي يقيمون فيه، والجامعة التي يدرس بها، وأشار إلى أن ذياع إصابته بالإيدز في الجامعة تسبب في تجميده الدراسة لمدة عامين، وأضاف بأن عميد شؤون الطلاب أبدى تفهماً جيداً لوضعيته، وقال أحمد: ?أكثر شيء آلمني وجرح نفسي أن أصدقائي إنفصوا من حولي في أكثر وقت كنت أحتاجهم فيه?.

أهمية دور الأسرة:

وقالت(ن) نائب أخصائي الطب الباطني وشقيقة أحمد لـ(الميدان) بأنها تألمت كثيراً عند معرفتها بإصابة شقيقها، لكنها وضعت نصب عينيها أن تقف إلى جانبه، وأن تقوم بتهيئة ?الجو? لتقبل الأسرة بالأمر، وأضافت بأن مصاب الإيدز شخص طبيعي وله حقوق ينبغي كفالتها أسرياً وإجتماعياً بأعتبار أن (الأيدز) غير معدي، ويجب على الأسرة تقديم الرعاية الصحية للمصاب ومعاملته بصورة حسنة، مع ضرورة عدم عزله من المجتمع إلا في الحالات التي تشكل خطراً على المجتمع، إضافةً لضمان حفظ أسراره وعدم التشهير به، والإهتمام بالتكريس لظهور المصاب أمام الناس والمجتمع بصورة عادية، وتوعية الأفراد المحيطين بالمصاب بمرض الإيدز، ومحاربة الأفكار المسبقة التي قد يحملونها عن الإيدز.

وقالت الدكتورة(ن) بأن كون أسرتها متعلمة ومن طبقة ميسورة الحال ساعدها كثيراً في إنجاز مهمتها، بيد أنها لفتت إلى ?سلبية? ردود أفعال أمهات المصابين، من منطلق عاطفة الأمومة والتي قد تخالف القواعد الطبية وضوابط التعامل مع مصاب(الإيدز) وقالت بأن والدتها كان تصر على عدم خروج (أحمد) إلى الشارع أو الجامعة خوفاً عليه، لكن (ن) قالت بأنها أقنعت والدتها بأن مثل هذا ?العزل? أو ?الحبس? قد يخلق مشكلات نفسية، وربما حتى اجتماعية لدى(أحمد) وقد تؤدي إلى غضبه وحقده على المجتمع، وهو ما يعيق مجهودات إدماجه وخلق فرصه أمامه لإستعادة حياته مرة أخرى في المجتمع بصورة إيجابية. وقالت بأنهم كأسرة توفقوا أخيراً في إعادة تسجيل أحمد بالعام 2013 ليستأنف دراسته الجامعية مرة أخرى.

نموذج آخر:

(ج) موظفة مرموقة بإحدى الشركات الكبرى بالسودان، في منتصف سنوات عقدها الرابع، خضعت للكشف الطبي أثناء تقديمها للعمل في وظيفة بشركة أخرى، وتفاجأت بأنها مصابة بالإيدز، الأمر الذي سبب لها مشكلة نفسية واجتماعية، حيث أنها لم تخبر أسرتها حتى الآن، لأنها تخشى أن يقوم أشقاؤها بقتلها، فهم من قومية محافظة جداً ولا تسمح بمثل هذه الأمور التي تمس شرف الأسرة والقبيلة، وقالت (ج) بأنها أخبرت صديقتها التي تقيم معها بذات الغرفة، والتي تحرَّجت في بادي الأمر، لكنها ساعدتها في الوصول إلى معالجة نفسية، ووقفت بجانبها وساندتها كثيراً، وكانت تقوم بغسل ملابسها وإعداد الطعام لها، وقالت بأن ما قدمته لها صديقتها لم تكن والدتها (الراحلة) لتقدمه لها لو كانت حية، مضيفة بأنها تركت تشرع حالياً في السفر خارج السودان، لتواجه مصيرها بعيداً، حتى تقي أسرتها شر الفضيحة. وقالت بأنها عرفت بأن هنالك بعض المنظمات في أوروبا تقدم دعماً للمصابين بالإيدز من خلفيات ثقافية وإثنية غير داعمة للمصابين، وقد أرسلت أوراقها إليهم، وتلقت إستجابة مبدئية..

الأهل ضد المصاب:

بأحد المستوصفات الطبية بالخرطوم، كان يرقد ممداً على السرير الأبيض ماداً ذراعه للممرضة لتركب له محلولاً وريدياً بساعده المفتول.. قال: ? لو ما مرتي الشايفة دي يا أستاذ أنا ماكنت حأكون حي?.. إنه ?الزبير? الميكانيكي الشهير بالمنطقة الصناعية، والذي إكتشف إصابته بالمرض عندما كان يقوم بإكمال إجراءات سفره بعقد عمل إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، وقال بأنه أصيب بدهشة وذهول، وتم إيقاف معاملاته السفرية وفقد فرصته في السفر، وأضاف بأنه إستغرب جداً إصابته بهذا المرض لأنه متزوج منذ(12) عاماً ولديه ثلاثة أطفال، وهو مستقر جداً. بيد أنه أورد معاناته مع أهله وأهل زوجته، قائلاً بأن أسرته وأهله تنكروا له ولم يقوموا بمساندته رغماً عن كونه كان يصرف عليهم من ورشته وينفق على تعليم بنات أخواته وأخوته، وقال بغضب كبير: ? تصوَّر أهل مرتي قالوا ليها تطلب الطلاق وتشيل الشفع معاها?، وقال بأن زوجته رفضت الطلاق، ووقفت ضد رغبة أسرتها الأمر الذي جعلهم (يقاطعونها)، وقال بأن حالته المادية تدهورت، حيث أنه لم يعد يشرف على عمل الورشة لكن بعض عماله الموجودين واصلوا العمل فيها ويزورونه كل خميس لإعطائه ما تدره الورشة بعد خصم أجورهم(يوميات العمال والكهرباء وقروش المحلية! وخلافه) بيد أنه قال بأن زوجته أجرت إصلاحات على الصالون الكبير بمنزلهم ببعض المال الذي لديها وعدلته ليصير محلين تجاريين(بقالة ومحل اتصالات) وقامت بإيجارهما، الأمر الذي درَّ عليهم عائداً مالياً جيداً، ورفضت زوجته الحديث إلينا، مكتفية بالقول من خلف ?التوب? الذي لفته على وجهها [مبلمة بالتوب]: (هو زوجي وقد تقاسمنا ?الحلوة والمرة? فكيف أتخلى عنه.. ?أقول لأولادي شنو بكره.. خليت أبوكم يموت?).. وتركت (الزبير) بذلك المستوصف ?رغم الوهن البادى على محياه- وعلى فمه تلك الإبتسامة التي تحمل بريق (المتعايش مع الإيدز) المتمسك.. بالحياة.

الجانب النفسي والإجتماعي:

تؤكد الأخصائية النفسية ندى عبد الحليم لـ(الميدان) أن المتعايشين مع ?نقص المناعة المكتسب? ليسوا بالفئات القليلة عالمياً، وفي الدول ذات التطور الاقتصادي النامي تتزايد أعدادهم في تناسب طردي لزيادة المستوى المتدني في النظرة إليهم كوصمة عار اجتماعية، فيصبحون مجابهين بالنبذ والنفور لدرجة قد تصل الى التشرد أو العزلة النفسية والإجتماعية التامة، وقالت: إن الجهود من منظور الصحة النفسية التي يمكن أن تبذل لدعمهم واسعة المجال وعميقة الأثر اذا ما أتبعت بمعايير علمية وبمجهود صادق، وأولها تعديل اتجاهات المجتمع نحوهم من خلال خطط تربوية واعلامية ترمي الى التعامل معهم كبشر تعرضوا للخطأ من الغير أو أخطأوا في حق أنفسهم أو كضحايا غافلين وليس كمجرمين وساقطين أخلاقياً، ذلك مع التركيز على التوعية من الوقوع في الاخطاء التي تؤدي الى كارثة مرض كهذا، وأضافت بأن الأمر الثاني هو تشجيع مشاريع تحت إشراف طبي ونفسي واجتماعي مما يشعرهم بالقيمة وبمساهمتهم الفعلية في عدم تفاقم المشكلة في أوطانهم ووسط ذويهم واصدقاءهم، بجانب مسألة رفع الروح المعنوية لديهم لأنها تساهم بشكل فعال في زيادة مناعة الجسم او الحفاظ عليها في مستوى يحد من انتشار الفيروس وتدمير خلايا الجسم وهذا انطلاقاً من الدراسات والبحوث النفسية التي اثبتت ان الحالة الصحية الجسدية تتأثر بشكل كبير بالحالة النفسية المعنوية، ورفع الروح المعنوية لايكون بالمؤاساة كلاما نمطيا مكررا في عبارات قد تشعر المريض بمحنته اكثر وتجعلة يتقوقع في ذاته اكثر وقد يصل مرحلة ?الوسوسة? بالمرض وقد يفقد أعصابة واتزانه النفسي والذهني؛ إنما الدعم المعنوي يتطلب وضع خطط عملية وتنفيذها على أرض الواقع ترمي الى جعل مريض الإيدز يفعل مواهبه وميوله واهتماماته تفعيلاً جاداً تحت اشراف اخصائيين من خلاله يصبح منتج في البيئة التي يعيش فيها ويرى انتاجه بعينه ويرى ردود افعال الآخرين حوله في مسيرة يتخللها العلاج الطبي بالتأكيد مع الانتظام فيه وقد نحتاج الى اعطائهم مضادات الإكتئاب او القلق للمساعده في التخلص من المشاعر السالبة وتكريس الجهود في النشاطات الإيجابية مما يدفع الفرد للتفكير بطريقة تخلو من الحقد أو روح الإنتقام او احساس الضياع. ولاعب كرة السلة الشهير ماجيك جونسون مصاب بالإيدز منذ سنة 1991 وهو الآن ينعم بصحة جيدة ويوقم بادواره المهنية والإجتماعية على أكمل وجه، هذا بفضل المجهود النفسي والطبي الذي يبذل معة في رفع الروح المعنوية وضمان الإستقرار النفسي. وقالت ندى عبد الحليم بأنه ليس من السهل تطبيق كل ذلك في مجتمعاتنا التي تعج بتعقيدات الامية والفقر، لكن التخطيط الجيد وصدق النوايا هو ضمان التنفيذ الجيد وبداية الغيث قطرة.

المصاب والمجتمع، حماية مزدوجة:

وتشدد الباحثة الإجتماعية مزاهر عبد الله على أهمية الاتصال بباحث إجتماعي متخصص لمساعدة المصاب وأسرته على تقبل الواقع بطرق علمية حتى يتعامل معه بصورة إيجابية، ولتقليل مقاومة المصاب للمساعدة، وأضافت بأن الباحث الإجتماعي لا يساعد المصاب فقد بل المحيطين به للتعامل بصورة مثلى، وتقبلهم للخبر بصورة إيجابية وتعليمهم وإرشادهم للأسلوب الأمثل للتعامل مع المصاب، ونشر الوعي وسطهم بخطورة المرض وكيفية الوقاية منهم لضمان عدم إنتقال المرض في المجتمع. وقالت بأن أحد المصابين والذي تلقى تعاملاً سلبياً من أسرته عندما عرفت بإصابته، صار حاقداً على المجتمع، وقال بأنه أصيب بالمرض من الشارع وسيقوم بإرجاعه إلا الشارع، وذلك قبل أن يتدخل أصدقاؤه ويقومون بأخذه للعلاج، وهو حالياً متعافي من تلك الآثار السالبة. مؤكدةً على ضرورة إستصحاب آراء وإرشادات الإختصاصيين النفسيين والإجتماعين لضمان البيئة الحياتية الأمثل لجميع المتعايشين مع الإيدز بالسودان..

الميدان

تعليق واحد

  1. علي نقابات الأطباء وجمعات اصدقاء المرضي بذل الكثير والكثير من الجهد لتوعية المواطنين بأن مريض الايدز لا يشكل اي خطورة صحية علي الآخرين من الذين يعيشون معه والذين يعملون معه وان يوضحوا للناس ان عدوي الأيدز تنتقل فقط من خلال عمليات نقل الدم الملوث او استخدام اية آلة تحدث جرحا وتكون ملوثة او عن طريق العلاقات الجنسية المحرمة مع شخص مصاب.

    ارجو واكرر الرجاء من المسؤلين والمهتمين بصحة الانسان الاهتمام يمسالة التثقيف والتنوير هذه عن مرض الايدز وعلي افراد المجتمع تقبل مرضي الايدز ومواصلة العلاقات الانسانية معهم بصورة عادية بل ودعمهم وعدم اشعارهم بانهم مختلفون فهم لا يشكلون اي خطورة صحية طالما اجتنب الناس طرق العدوي التي ذكرتها.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..