كيف يدفع السودانيون تكلفة تمويل الحرب التي تشنها الدولة عليهم

بسم الله الرحمن الرحيم

كيف يدفع السودانيون تكلفة تمويل الحرب التي تشنها الدولة عليهم (1)

د.أحمد حمودة حامد

مقدمة:
يرتبط الاقتصاد والسياسة ارتباطاً وثيقاً بحيث يمكن القول أن لكل عمل سياسي تفسيراً اقتصادياً, والعكس صحيح. وبالنظر إلى حالة الحروب المستمرة لفترات طويلة والمشتعلة على نطاق واسع في السودان يمكن تفسيرها على أنها حروب تشن بدوافع ومصالح اقتصادية للمجموعات الحاكمة. لكن الشيء الفظيع في حالة حروب السودان, هي جعل السودانيين يدفعون تكلفة هذه الحروب التي تشنها الدولة على قطاعات واسعة من الشعب باستثناء المجموعة الحاكمة. نحاول في هذا المقال سبر العلاقة بين مؤسسات الدولة السياسية وبنياتها الاقتصادية, وكيف تشن الدولة الحروب على الشعب, بل تجعله يدفع تكلفة هذه الحروب لأجل الحفاظ على مصالح النخبة ومكتسباتها.
بنية الدولة السودانية في ظل حكم الإنقاذ:
استولت الحركة الإسلامية السودانية على حكم البلاد في انقلاب على شرعية الدولة التي كانت قائمة آنئذ, انقلاباً ثم التمويه له تحت قيادة المؤسسة العسكرية. وكان الدافع الذي ساقته الحركة الإسلامية لتبرير الانقلاب هو إقامة الدولة الإسلامية دولة مشروع التوجه الحضاري, لكن هذا المشروع سقط سقطة داوية بشهادة فيلسوفه وحادي ركبه وملهم حوارييه الشيخ الدكتور الترابي. فلم يعد هناك من مسوغ لاستمرار حكم الجبهة الإسلامية بعد أن انتفى أصلا السبب من قيام الانقلاب حسب شهادة أهل البيت – شهادة ملك.
عقب المفاصلة الشهيرة في رمضان 1999, وانشطار الحركة الإسلامية إلى معسكري المنشية والقصر, برز إلى الوجود المولود الجديد – عقب المفاصلة ولعله مولود خارج الشرعية – هو المؤتمر الوطني كحزب سياسي, لا أصل له ولا فصل ضمن منظومة الأحزاب السودانية المعروفة. ظهر المؤتمر الوطني كمولود غير شرعي عقب المفاصلة الاسلاموية, ضم كوادر الاسلامويين من المتنفذين المتحدرين من أواسط السودان, بينما بقى مع الشيخ الحواريون الخلّص وأعداد مقدرة من كوادر الإسلاميين من أقاليم الهوامش السودانية, تمت ملاحقتهم والتضييق عليهم في أرزاقهم حتى اضطروا في نهاية المطاف إلى ممالأة المؤتمر الوطني, ليس حبا فيه, ولكن لأجل أن “يعيشوا” أولادهم وأسرهم. فالمؤتمر الوطني يحرّم العيش على خصومه ومناوئيه, وما أكثرهم. وهذا ما ظل الشيخ الترابي يعبر عنه في مقولته الشهيرة “ناس المؤتمر الوطني قلوبهم مع المنشية وجيوبهم مع القصر”. الشاهد أن المؤتمر الوطني أصبح ? ضربة لازب ? هو الحزب الحاكم في السودان, يدير الدولة السودانية على عقيدته وعلى هواه.
المؤتمر الوطني تشكّل من مجموعات من الانتهازيين الاسلامويين الذين طلّقوا فكرة مشروع التوجه الحضاري, وتكالبوا على المغانم من الاستيلاء على الدولة, فصار همهم الأول والأخير جمع كنوز المال والذهب والفضة والأنعام المسومة والقصور المنيفة الشاهقة ومتاع الدنيا والمناكح مثنى وثلاث ورباع. سل عن هذه الحقيقة الشيخ الترابي والرئيس الأثيوبي ميليس زيناوى والاستخبارات الغربية, بل أسأل الإنسان السوداني البسيط يأتيك بالأخبار من لم تزوّد. كوادر المؤتمر الوطني اعتبروا دولة السودان ومقدّرات الشعب السوداني مغانم لهم ? وهم الفقراء أبناء الفقراء الذين أتوا الى بهرج الحكم وأبهة السلطان من بيوت هي في قاع المجتمع فأصابهم الكبر والبطر بعد أن تلبّستهم خطيئة الفتنة والغرور, والآن صاروا فى عشرين سنة من أثرياء العالم. كيف تحققت لهم هذه الثروات الطّائلة التي لم ينهاهم عن الجهر بها خلق دين الإسلام ولا العفّة التي تقتضيها أمانة تسنّم المسؤولية العامة. أصبحت كوادر المؤتمر الوطني من أثرياء العالم, يحكمون هيمنتهم على مفاصل الاقتصاد لتكثير ثرواتهم, ويحكمون قبضتهم على أجهزة الدولة لضمان استمرارية الحكم الذي يمكّنهم من الهيمنة على الاقتصاد والثروات في البلاد, حتى أصبح حزب المؤتمر الوطني هو الدولة والدولة هي الحزب. المؤتمر الوطني كما رأينا هو حزب “حديث الولادة”, فاقد الشرعية أتى بعد الطلاق والمفاصلة, ما كان له أن يبقى على قيد الحياة لولا حضانة الدولة.
أبالسة المؤتمر الوطني ? كما يحلو للأستاذ ثروت قاسم وصفهم ? أرادوا أن يعيدوا هيكلة الدولة السودانية بحيث يكون الحزب وكوادره هم “مركز ثقل وأس” وجود دولة السودان the core ? لا يمكن الوصول إليه وتحطيمه إلا بتحطيم كل الغلاف المحيط به وهو الدولة السودانية. فأقاموا هياكل ومؤسسات على هواهم تسبح بحمدهم وتبطش بيدهم ? مؤسسات بيدها القوة القاهرة كالجيش والأمن والشرطة, ومؤسسات مهمتها الحراسة والحماية كالدفاع الشعبي والشرطة الشعبية والكتائب الإستراتيجية وكتائب الجنجويد, ومؤسسات اقتصادية – وهذه الأخيرة هي بيت القصيد التي ينتهي اليها كل نشاط الهم السياسي المحموم للاستحواذ على المال والثروة – حيث تحتكر الشركات التابعة للمؤتمر الوطني والأمن والجيش حوالى 80% من جملة النشاط الاقتصادي السوداني (راجع تسريبات ويكيليكس الأخيرة ? الراكوبة 10/9/2011).
سعى رموز الحكم في الدولة أن يحموا أنفسهم ? متماهين فى ? مؤسسات متشعبة من المؤسسات الباطشة القاهرة كالجيش والأمن والشرطة, مكنت لهذه المؤسسات من الهيمنة على جل النشاط الاقتصادي في شركات تعمل لصالح المتنفذين فيها الذين هم أعضاء فاعلين في أجهزة الدولة بطبيعة الحال. هذه المؤسسات الباطشة ? حين تستخدم آلتها العسكرية والأمنية القاهرة للبطش بالمواطنين ? لا تستخدم ذلك حفاظا على الأمن أو سلامة المواطنين, بل حفاظا على مصالحها التي تخشى عليها من جحافل المظلومين المتقدمين للمطالبة بحقوقهم المشروعة في الثروة والعيش الكريم.
مسوغات بقاء النظام الحاكم في سدة الحكم:
ذكرنا آنفا انتفاء المسوغ الأساس الذي على هديه انقلبت الجبهة الإسلامية على شرعية الحكم الذي كان قائما, وهو مسوغ أقامة مشروع التوجه الحضاري الإسلاموي. وبسقوط المشروع الفكرة, تبعه أيضا إسقاط القيادات الفكرية للحركة الإسلامية التي كان لها القدح المعلّى في أمضاء الفكرة وحشد الدعم والزخم والتعضيد لها على مدى عشرات السنين في السودان منذ خمسينات القرن الماضي. وبإسقاط وإقصاء القيادات الفكرية صارت الغلبة في توجه الدولة الجديد للقيادات العسكرية والأمنجية وتمت لهذه المجموعات من الخلفيات العسكرية الهيمنة الفعلية على دولاب الحكم ومؤسسات الثروة وهياكل الاقتصاد. حتى أن هذه الهيمنة العسكرية/الأمنية على أجهزة الدولة لم تترك للمدنيين إلا النذر اليسير, فالوزارات والسفارات والقنصليات وولاة الولايات وحتى المحافظات جلها يؤمها العسكريون والأمنيون من كوادر الإنقاذ.
وبانتفاء وسقوط مشروع التوجه الحضاري, وتساقط وانطمار القيادات الفكرية, ثم السياسية, وأخيرا اختطاف الدولة السودانية بواسطة المؤسسة العسكرية والأمنية, أصبح الوجه العسكري/ الأمني للدولة سافرا. ولما كان أن هذه المؤسسات المهيمنة على الدولة هي مؤسسات تستحوذ على قدرات الردع co-ercive forces فهي لا تتوانى في استخدام آلتها الرادعة ضد المواطنين. لكن يبقى السؤال المحوري: لمصلحة من يستخدم الجيش والأمن والشرطة الآلة العسكرية ضد المواطنين؟ للدفاع عن ماذا؟ عن المشروع الحضاري الذي سقط؟ أم للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية والتجارية وشركاتهم وتجاراتهم وأموالهم التي غنموها من الاستئثار بالسلطة والحكم ضد جموع الشعب السوداني؟ الإجابة واضحة لكل ذي بال. فلم يعد هناك مشروعا حضاريا يبرر استمرار الحكم ومحاربة الناس, كما لم يعد هناك مسوغا وطنيا لتبرير كل هذه الحروب التي تشنها الدولة على قطاعات واسعة من الشعب والتي أفضت الى انفصال الجنوب, وسوف تقود الي تفتيت ما تبقى من الوطن إذا ما سارت الأمور على ما هي عليه والحروب تدور رحاها الآن في دار فور وجبال النوبة والنيل الأزرق والتوترات في الشرق والنوبة الشمالية. فلماذا يصر حكام الخرطوم على البقاء في سدة الحكم على أشلاء الوطن؟
واضح في ظل هذه المعطيات أن الدولة ومؤسساتها القمعية تشن الحروب للدفاع عن مصالحها الخاصة بعد أن تنكرت لفكرة الدولة الاسلامية, الفرية التي غشوا بها الناس ولهوهم, ثم دخلوا السوق تجارا لا وازع لهم من دين أو وطنية, يحموا تجاراتهم وشركاتهم بسيطرتهم على مؤسسات الحكم والمؤسسات الرادعة بقوة السلاح حين يقتضى الأمر: فهم حكام وتجار وجنرالات في آن واحد, لا يتوانون في استخدام قوة السلاح للحفاظ على الحكم والثروة التي غنموهما. وبذا أصبح استمرار الهيمنة على السلطة والثروة هي الغاية النهائية لذاتها والمسوغ الوحيد لبقاء الحكم الآن, وليس من أجل الأسلام ولا من أجل الوطن.
في الحلقة التالية نوضح كيف سيطرت النخبة الحاكمة تماما على مفاصل الاقتصاد, وكيف تسميت في الدفاع عن مكاسبها تلك.

د.أحمد حمودة حامد
[email protected]
الخميس 22/9/2011 الموافق 24 شوال 1432هـ

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..