جنوب السودان والصراع القادم على الماء

تمثل الثروة المائية في الشرق الأوسط بشكل خاص ما كان يمثله كعب أخيل في الأسطورة اليونانية. إنه بؤرة الحياة والموت في آن معا. إن هذه الأسطورة اليونانية كما رواها الشاعر هوميروس معروفة لدى كل المهتمين بالأدب الإغريقي القديم، ولا داعي هنا للتعريف بها بإطمناب لأنها موجودة في إلياذة هوميروس الشهيرة.

وباختصار شديد، وحسب هذه الأسطورة فإنه لم يكن بالإمكان قتل أخيل لو لم توجه سهام الأعداء إلى كعبه. ولا شك أن كعب الشرق الأوسط هو الماء، ولذلك فإن المستقبل يخبئ الكثير من الصراعات الكبرى التي ستنفجر بسببه.

أذكر أنني منذ خمس سنوات تقريبا كنت في جنوب لبنان، وتحديدا في زيارة لقلعة الشقيف العالية التي يمر بجانبها نهر الوزاني. ولقد أخبرني مرافقي اللبناني أن إسرائيل تسرق بطرق مختلفة مياه هذا النهر، وهي لا تزال تنجز المخططات لإقامة الحفريات التي تمكنها من ابتلاع الوزاني بصفة كاملة. كما روى له أحد عناصر المقاومة اللبنانية أن احتلال إسرائيل لقلعة الشقيف كان لسببين جوهريين ويتمثل الأول في استغلال ارتفاعها لمراقبة معظم جنوب لبنان، وجبل الشيخ، ويتلخص الثاني في تنفيذ مخططات الاستيلاء على المياه اللبنانية بالمنطقة الجنوبية.

وفي دراسة من إنجاز وليام دايل تحت عنوان "مشكلة المياه في الشرق الأوسط" أكد- على أساس بحث علمي ميداني- أن المياه في الشرق الأوسط في تناقص متزايد بسبب تغير المناخ، والاستهلاك المكثف والسريع. ويعطي مثالا على هذا التناقص المخيف هكذا "إن نهر الأردن المشهور جدا تاريخيا ودينيا ليس الآن سوى مجرد ترعة". ثم يضيف بلهجة حزينة قائلا "قبل أن يصل ذلك التيار المائي المتعب إلى المصب، يكون معظم مائه قد اختفى في الأنابيب الواسعة المتنوعة، وفي الحقول..". إن وليام دايل يشير هنا إلى الاستنزاف الإسرائيلي للمياه في منطقة نهر الأردن مما يحرم الأردن والضفة الغربية، وقطاع غزة من الماء بشكل دراماتيكي.

ومن هنا يمكن القول إن احتمال انفصال جنوب السودان ستكون له تداعيات خطيرة في مجال المياه فضلا عن إمكانية انفجار سياسي، واقتصادي متعلق بالنفط، إلى جانب قضايا أخرى ذات طابع أمني وعسكري.

يحتل جنوب السودان، دون شك، موقعا حساسا وإستراتيجيا على صعيد الثروة المائية أيضا. إن نهر النيل الذي أشتق اسمه من الكلمة الإغريقية Neilos، والتي تعني السهل، أو نهر السهل، أو سهل النهر، قد ارتبط تاريخيا بالعديد من الرمزيات الحضارية. فقد أطلق عليه المصريون القدامى اسم "R"، أو "Aur" في إشارة إلى الطمي الأسود الذي يقذف به هذا النهر حينما يفيض شمالا كالعادة.

وفضلا عن ذلك فإن المصريين والإغريق قد أطلقوا تسمية أخرى على النيل وهي Kem، أو Kemi وتعني أيضا الأسود. وكما هو معروف في علم الجغرافيات المائية والزراعية، وحسب الموسوعات المتخصصة فإن النيل مكون من رافدين أساسيين، إذ هناك الجزء المسمى بالنيل الأزرق الآتي من مرتفعات إثيوبيا "بحيرة تانا"، والنيل الأبيض الآتي من بحيرة فكتوريا، وبحيرة ألبرت. وفقا للتقارير فإن حوضه "يشغل عشر مساحة إفريقيا ويشتمل ذلك على أجزاء من تانزانيا، وبروندي، ورواندا، والزايير، وكينيا، وأوغندا، والسودان، وإثيوبيا، ومصر".

إن القوى الغربية وإسرائيل في المقدمة ستعمل بأساليب مختلفة على احتواء جنوب السودان في حال انفصاله، ويكون ذلك الاحتواء وسيلة للنيل من مصر، وشمال السودان. ولا شك أن الثروة المائية للنيل الأبيض على نحو خاص باعتباره يعبر جنوب السودان ليلتقي بالنيل الأزرق في الخرطوم سوف تكون محل الابتزاز بأشكال مختلفة.

وهكذا فإن الصراع القادم في السودان، وفي الشرق الأوسط بصورة عامة سيكون محتدما حول هذه الثروة الضخمة، والتي ستصبح في القرن الواحد والعشرين إحدى العناصر الأساسية الصانعة للأحداث، والمحركة للتاريخ.

العرب اونلاين

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..