أيام بين أم سنطة والجمّامة

قد يهونُ العمرُ إلا ساعةً … وتهونُ الأرضُ إلا موضعا
هذه خاطرة ترتبط بذكرى خاصة في نفسي، تعود إلى أيام الصبا الباكر، وأيام السفر باللواري من وإلى كردفان، مروراً بمناطق تظل عالقة في الذاكرة لا تفارقها أبداً؛ فقد مررنا ذات يوم في معية شيخ العرب الأخ عيسى التجاني عمر قش، بقرية الجمامة، وهي ملتقى بين ديار الكبابيش ودار حامد، حيث يوجد فرعا أولاد عقبة ودار عمر، الذين يعرفون بالجمال والحسن، ويقيم بها كذلك نفر كريم من أهلنا الفراحنة، وهم تحديداً أحفاد الحاج داني ود مدني كارور، مضرب المثل في الكرم والجود. وقد حللنا ضيوفاً على الصديق الكريم فيصل أبو القاسم جبرنا، من أهلنا الركابية، الذين كانوا يعملون بالتجارة، في دار الكبابيش، خاصة في أم بادر، وسودري، من أمثال بشير أبو جيب، وحاج السيد عبد الباقي، وغيرهم، فأكرمنا غاية الإكرام وأحتفى بمقدمنا أيما حفاوة. كان ذلك في أواخر سبعينات القرن الماضي، وشمال كردفان وبادية الكبابيش وقتها لمّا تزال على عهدها من الجمال الذي استهوى قبلنا حسن نجيلة، والناصر قريب الله، وغير هؤلاء، من الذين هاموا بها حباً، وخلدوا إحساسهم شعراً ونثراً، منهم الصوفي العاشق محمد شريف محمد سعيد العباسي، وهو القائل:
الشتا جانا بي بردو وسحابو الدّكن
ولسه قيودنا من أم بادر أبن ينفكّن
ود اللّريل اللماتو بالصي جكّن
فراقو خلى ريشات القلب ما بركّن
لقد مكثنا في ذلك المكان الرائع يوماً كاملاً، أكتحلت فيه أعيننا بجمال غير مجلوب بتطرية، ولا بصبغ الحواجيب؛ فقد كانت البدويات يردن ماء الجمامة، وهي يومئذ تعج بالأعراب من كل حدب وصوب، فيزدان بهن المكان، ويزداد روعة وألقاً وجمالاً، علاوة على ما تضفيه تلك “الأضاة” من رونق يخلب لب من يراه، فماء وخضرة، ووجه حسن، وطيور الوزين تسبح فوق الماء، بينما كانت الشمس ترسل أشعتها خجولة ذلك الصباح الغائم، فترتسم لوحة طبيعية، بالغة الجمال والروعة، تسبي الفؤاد وتسعد الروح المعنّا. ولعل هذا ما جعل الناصر قريب الله يقول قصيدته “أم بادر” التي جا فيها:

أي حظ رزقته في الكمال وأحتوي سره ضمير الرمال
يا دياراً إذا حننت إليها فحنين السجين للترحال
كم لوادي (الوكيل) عندي ذكري زادها جِدةً مرور الليالي
عموماً، طلب منا الأخ فيصل أن نسمعه شيئاً من الدوبيت لمعرفته بحبنا لهذا الفن الرائع؛ فأخرج الأخ عيسى شريطاً كنا قد سجلناه مع عمنا عبد الرحيم محمد أبو شناح، ذلكم الشاعر الفحل، رحمه الله، قبل مغادرتنا دميرة بساعات فقط، ومن محاسن الصدف فقد كانت الأغنية التالية هي أول أغنية في الشريط!
كان غنيتا ما بتغانا للغنّامه
وكان جنيتا أبداً ما عليْ ملامه
أب رقبة السكونو أم سنطه والجمامه
ناس ود حامد بدقولو الدهب حوامه
إنّ هذه المناطق ليست مجرد قرى تقع في تلك الأصقاع النائية، بل هي موئل للحسن، ومواطن للجمال بكل ما تحمل الكلمة من معنى. وذات مرة كنت أتحدث مع الأخ الشاعر الحبيب كورينا، وهو من الذين قضوا أياماً لها إيقاع في تلك البوادي فتذكر صحبه، وأيامه في أم سنطة، القرية التوأم للجمامة؛ فحدثني عن صديق له كان يشاركه الإقامة هناك وأنشد قوله:
هجرنا النم ويبدو إنو هجرنا
في غربة لسان عايشين نقاسي قدرنا
وين سمح الأيام في أم سنطه يا شاعرنا
ووين ناس ود دياب اللسه في خاطرنا
وقد قال صديقه هذه الأبيات، بعد أن شط بينهم البين، وتفرقت بهم السبل، وضربوا في بقاع الأرض، فجاء الحبيب إلى السعودية، وذهب الآخر إلى مكان تزوج فيه من أعجمية لا تجيد اللغة العربية، فظل فؤاده مشدوداً إلى “سمح الأيام” وهل تحلو الأيام إلا إذا كان الحسن والأنس حاضرين؟
وبما أن من طبع البدوي الحنين إلى الأماكن، وتذكّر أيامه بها، لا ينفك الذهن يعيد تلك الذكريات، كلما أراد أن يستروح من رهق الغربة وبؤسها؛ ولذلك يتجدد الشوق والحنين. وبهذه المناسبة أذكر أنني قد عدت إلى الجمامة، بعد تلك المرة عابراً، وفي معية الأخ عيس التجاني أيضاً، وكانت تشاركنا الرحلة أمرأة بدوية، طاعنة في السن، تلوح على محياها علامات الجمال؛ فقلت لأخي عيسى أريد أن أتحدث مع هذه السيده، فقال: عن أي شيء تريد أن تتحدث معها؟ فقلت له: أسألها إن كانت لها بنت في سن الزواج، ولكنه منعنى وأقسم علي إلا أفعل! فسكت عن الموضوع حتى وصلنا قريتنا، ورفعت الأمر إلى إبراهيم التجاني، شقيقنا الأكبر، الذي عاش ردحاً من الزمن في تلك الديار، فقال: صفي لي تلك المرأة، ففعلت، فتبسم ضاحكاً وقال: أقسم بالله إنها فلانة، إحدى جميلات البادية في ريعان شبابها!
الجمامة هي واحدة من مراتع الدمر والنشوغ، تلتقي عندها القبائل في أواخر الخريف والشتاء، وما من شاعر عاش في شمال كردفان، ورعى الإبل هناك، إلا سبته بسحرها الخلاب، فذكرها في شعره؛ ومن هؤلاء شاعرنا المرهف جمعة ود حاج آدم ود التام الذي يقول:
الجمامة نطيتها وكتول في شمالك
جاك دو الغفارات والقسيم فوق بالك
من الدايرو تعبت والوكت بوبالك
بعيد لا الليلة بلد البشهور حاسبالك
لقد كان آخر عهدي بتلك الديار قبل أن ينيخ عليها الجفاف بكلكه، فهل يا ترى ما زالت كسابق عهدها؟ أم أن الزمان قد جار عليها فتبدلت معالمها، وتغيرت ملامحها، ودرست مضاربها، وهجرها أهلها، وغاب عنها الحسن والجمال؟ إلا أن حنيني إليها سيبقى ما دام القلب ينبض بين جوانحي، وستظل تلك الذكريات العطرة حية وثابة في وجداني وإحساسي؛ فقد شغف قلبي حب تلك البقاع، وحب من سكنها. وأخيراً نختم بقول الكباشية:
الليلة أم سنطة خفيفه
وارداها أم بوح العيفه
سياد الفز بي ليفه
طردوا البطلق زيفه

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. يا قش لقد نكات جرحا كاد ان يندمل ، فهل تلطفت بنا وشرحت لنا ( سياد الفز بليفه ) علي ان أحاول توضيح معني ام بوح العيفة والتي هي كناية عن البقرة . ولان المنطقة منطقة ابالة فانهم يزدرون البقر ويطلقون عليها ام بوح العيفة وهو تعبير يعني عكس النجيض بالدراجي ويفضلون الإبل ويطلقون عليها جقلة .

  2. اخي بعد التحيه
    لقد اعجبت ايما اعجاب بما ورد في المقال وانت تتحدث عن ذكريات لك بتلك الديار التي هي موطني وانت تتحدث عن جمالها وحسن اهلها
    تذكرت قول الشاعر ايليا ابو ماضي : والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئا جميلا
    اما سؤالك عن ماهية حال تلك البلاد الان وهو ما دفعني للرد ,هو ان الحال تغير تغير جذري لا يمكن لحالها القديمه ان تعود فالمظاهر المدنيه طقت على كل شيئ وظهور الذهب وما تبعه من سلبيات دمر كل شيى جميل ونحن الان نبكي على حال تلك الربوع التى لن تعود الى ماضيها الجميل ابدا فذلك زمان ولى ولن يعود شكرا لابيات الشعر التي اوردت والتي لن يفهمها الا واحد كباشي . فتخيل حالي وانا اطالع المقال بالطابق التاسع من مبنى هيئة الحكومه الالكترونيه براس الخيمه وانا الذي تمرمقت بطين وتراب تلك الديار وانا اطالع الصحيفه وارى موضوع عن يتحدث بمهنيه عن ربعي انا من ابو زعيمه والتي بت ابك على حالها ايضا فلك الشكر عزيزي .

    وصلني هذا التعليق من الأخ عبد هاشم من دبي وحببت أن يطلع عليهالإخوة القارء

    قش

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..