التهبيل الوزاري خيبة كبيرة !!

د. فيصل عوض حسن

عقب مُماحقة وتأخُّر كبيرين و(شائعات) هناك وهنا، تمَّ الإعلان عمَّا سُمِّي بالتعديل أو التغيير الوزاري الذي أجرته المنظومة الحاكمة في أجهزة الدولة التنفيذية والذي بقدر ما جاء مُخيِّباً للآمال كان مُتوقَّعاً، إذ تطابق ? إلى حدٍ بعيد ? مع توقُّعات الكثير من السودانيين، الذين كانوا على ثقة تامَّة بأنَّ التغييرات التي نادت بها المنظومة الحاكمة وظلَّت تُروِّج لها منذ نحو ثلاثة أشهر ستُجانب الجوهر ولن تُعالج، أو حتَّى تدعم مُعالجة الحالة السودانية المأزومة. وهذا ما وضح في التعليقات العامَّة، التي أجمعت ? بنحوٍ كبير ? على أنَّ هذه التغييرات (الشكلية) إنَّما استهدفت بالأساس تقوية وترسيخ أركان المنظومة الحاكمة ? لا سيما الرئاسة ? في مُواجهة الاحتجاجات أو فلنقل المُعارضة الشعبية السودانية ? شبه الشاملة – المُتزايدة باضطراد، نتيجة للاختناقات التي طالت كافة أوجه الحياة بالسودان، سواء على الصعيد السياسي (الذي يُعدُّ الأسوأ) أو الاقتصادي أو الثقافي والاجتماعي، وفشل أجهزة النظام المُختلفة (سياسية، اقتصادية، تشريعية) عن مُعالجتها أو تخفيف حدَّتها، وغياب أي بصيص أمل في الأفق عن تجاوُز بعضها، ناهيك عن أغلبها أو جميعها.

وبعيداً عن آراء وتعليقات الرأي العام (أحزاب، جماعات، أفراد)، فلنعد إلى الأيَّام القليلة الماضية التي سبقت الإعلان عن هذا التغيير الـ(شكلي) في الأسماء دون غيرها، حيث لم يجف بعد مداد التوصيات المُتمخِّضة عمَّا أُطْلِقَ عليه المُلتقى الاقتصادي، وما أعقبه من تصريحات رئاسية ووزارية نادت و(تبنَّت) قيام دولة السودان الـ(حديثة) المبنية على المعرفة، ورعايتها لأُسُسْ ومعايير ومُوجِّهات الاقتصاد المعرفي في كل مناحي الحياة بالسودان (سياسية، اقتصادية، ثقافية، صحِّية، اجتماعية … إلخ)، والاستفادة من التقدُّم العلمي في النهوض بالدولة وشعبها ومُواطنيها.

ودون استعراضٍ لبعض تصريحات قادة النظام، التي أتت ? كعادة أهل المنظومة ? كرد فعل لـ(معلومة) جديدة اطَّلعوا عليها في صحيفة أو كتابٍ ما، أو في غمرة موجه حماسية (عابرة)، من الأهمِّية بمكان إيراد مُوجز سريع عن عناصر الدولة المعرفية ومُتطلَّباتها أو مُقوِّماتها التي يأتي على رأسها الإطار المُؤسَّسي باعتباره الـ(ضامن) الأوَّل والأساسي لتهيئة بيئة مثالية ? شاملة ومُستقرَّة ? لتسيير وإدارة الدولة سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وغيره. وهو ? أي الإطار المُؤسَّسي ? يقع بالكامل تحت مسئولية الدولة ورعايتها، بدايةً بالسياسات والآليات انتهاءً بالأفراد والمجموعات العاملة في تنفيذ مضامين هذا التوجُّه. ثمَّ يأتي دور التعليم باعتباره مطلباً جوهرياً لنجاح الدولة المعرفية، والذي يشترط التمتُّع بالمعارف والعلوم الداعمة لتنفيذ البرامج والإجراءات المُساندة للنظام المعرفي والتعاطي السليم والـ(واعي) مع المُتغيِّرات والمُستجدَّات في كافَّة الأصعدة لا سيما السياسية والاقتصادية (داخلياً وخارجياً). ثم يأتي مطلب التفكير أو الإلهام أو القُدر على الإبداع والابتكار فيما يخص نواحي الحياة بأصعدتها المُختلفة السياسية والاقتصادية وغيرها، وتهيئة البُنية الأساسية لمُجتمع المعرفة، بخاصَّة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وإتاحتها بأقلَّ التكاليف بما يدعم قدرة الدولة على نشر وتوطين وتهيئة مُجتمع واعي وقادر على التعاطي مع مُعطيات الثورة المعلوماتية وتعظيم الاستفادة منها في حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبصفةٍ عامَّة، وباختصارٍ شديد، تتعلَّق الدولة المعرفية الـ(مثالية) بالقاعدة العلمية المعروفة بـ(ماذا، لماذا، من، أين وكيف).

هذه هي ابرز عناصر ومُقوِّمات (مُتطلَّبات) الدولة المعرفية قُمنا بعرضها بنحوٍ عام ومُختصر، وبالنظر إلى نتائج أو مُخرجات التغييرات الإسمية (الشكلية) التي جرت في أجهزة الدولة مُؤخَّراً نجدها بعيدة تمام البُعد عن تلك العناصر والمُتطلَّبات أو قاعدتها الأساسية التي تستلزم الإجابة عن أسئلة القاعدة الرئيسية للدولة المعرفية التي أشرنا إليها أعلاه! هل قرأت المنظومة الواقع السوداني الـ(مأزوم) على كافَّة الأصعدة قراءةً مُتدبِّرة ومُتأنِّية ثم هل سألت نفسها (ماذا) تفعل لتجاوُز أو تخفيف حدَّة (كل) أو (بعض) هذه الأزمات والمشاكل؟ وهل ما توصَّلت إليه عقب (تفكيرها) و(تأمُّلها) كان هو تغيير الأسماء و(الوجوه) دون تعديل منهجيتها أو سياساتها وتعاطيها مع أمور الدولة وشعبها؟ وهل باعتقادها (أي المنظومة الحاكمة) أنَّ مُجرَّد تغيير هذا أو استبعاد ذاك يُمكِّن السودان و(يساعده) في تجاوز إشكالات السياسة والاقتصاد الخانقة؟!

الأهمَّ من ذلك، هل تعتقد (المنظومة الحاكمة) بأنَّ هذه التغييرات ستُوقف حمَّام الدماء الماثل في أكثر من بُقعة سودانية، أو (ستحد) من دخول مناطق إضافية لدائرة الصراع، أم سترفع من قيمة الجنيه السوداني وتُقلِّل من حدَّة الاختناق الاقتصادي؟ وهل فكَّرت المنظومة في (من) الأجدر والأكفأ لتنفيذ ورعاية ومُتابعة السياسات والإجراءات والبرامج الخاصَّة بكل قطاع سوداني يُعاني الآن وينوء بالأثقال والجراحات، سواء كان على الصعيد السياسي (الأمني) أو الاقتصادي (المعيشي) أو الاجتماعي (الإنساني والصحِّي) والثقافي (التعليمي)؟ ثمَّ هل فكَّرت المنظومة الحاكمة (فعلياً) وبتدبُّر في (أين) ستجري تغييراتها؟ وكيف سيتم هذا التغيير؟!!

لنأخذ مثالاً واقعياً لهذه التغييرات أو أكثر من مثال ليُدرك الجميع أنَّ النظام الحاكم اتَّخذ تعديلاته هذه بعيداً عن العلمية والواقعية، وبلغةٍ أُخرى بعيداً عن الدولة المعرفية التي نادى بها وحشد لها الطاقات وصرف عليها في ما أسماه بالـ(مُلتقى الاقتصادي) الذي جرى مُؤخَّراً في أقلَّ من شهرٍ مضى. مثالنا الأوَّل وزارة الزراعة والري التي تمَّ استبدال وزيرها السابق ليأتي بدلاً عنه وزير الداخلية، والتي تُعتبر (وزارة الزراعة) رافداً أساسياً ورئيسياً وأحد أطواق النجاة ? بعد لطف الله ? بالنسبة للاقتصاد السوداني والمُواطنين. فالزراعة الآن تُعاني الآن مشاكل عديدة جداً، بدايةً بتقلُّص المساحات الزراعية وتراجع إنتاج وإنتاجيات محاصيل هامَّة جداً كانت تدعم الاقتصاد السوداني كالسمسم وزهرة الشمس والذرة والقطن الذي لم يتراجع إنتاجه فقط وإنَّما فقدنا تميُّزنا بإنتاج أفضل أصنافه المعروفة عالمياً بعدما فعل به الوزير السابق ما فعل حينما أتى بالصنف المُحوَّر وراثياً، ويكفي ما كُتب عنه في الصحُف من قِبَل المُختصِّين الزراعيين ? أصحاب الوَجْعَة ? والنتائج المُتحصَّل عليها فعلياً وأثرها على سعر الصرف والميزان التجاري للدولة، بخلاف القضايا الشائكة الأُخرى الخاصَّة بقطاع الزراعة، فهل تعتقد الحكومة بأنَّ وزير الزراعة الجديد هو الأفضل من بين كافة الزراعيين السودانيين (داخل وخارج السودان) لتولِّي أمر الزراعة في مثل هذا الظرف الاستنثائي والـ(خانق)، والذي لا يحتمل أي تنظير؟ وما هي أُسُس ومعايير المُفاضلة التي استندت عليها المنظومة الحاكمة بين هذا الوزير وغيره من المُتخصِّصين ليقع عليه الاختيار من دونهم؟ وما هي إنجازاته ? ليس فقط في الداخلية الوزارة السابقة له ? وإنَّما في قطاع الزراعة ومدى ارتباطه بها وبقضاياها الشائكة والمُعقَّدة والحسَّاسة والتي نحتاج جميعاً لمُعالجات علمية وموضوعية لها، حتَّى تعود الزراعة لسيرتها الأولى؟

المثال الثاني لـ(مُجانبة) المنظومة الحاكمة للصواب في تغييراتها الشكلية (دون المضمون) لا يحتاج أصلاً لاستشهاد أو تحليل لأنَّه افصح عن استمرار تراجُعنا الحالي، ونعني بذلك وزير المالية الذي صرَّح بأشياء لا علاقة لها بالعقلانية أو التدبُّر، وذلك حتَّى قبل أن يستلم عمله فعلياً وإنَّما عقب أدائه (قَسَمْ الاستوزار!!). حيث (صرَّح) بالنص (كما أوردت العديد من الصُحُفْ ووسائل الإعلام) بأنَّه في مقام مسئولية وزير المالية وفى مقام (التكليف الرباني)، و(تعهَّد) بـ(ضبط الإنفاق الحكومي وتقليله!!) من أجل راحة المواطن. تعهَّد بخفض الإنفاق الحكومي وفي ذات الوقت، أدَّى قَسَمْ الاستوزار مع 59 وزيراً آخرين!! ولا ندري كيف سيفعلها؟ أنَّى للدولة ناهيك من شخص واحد (الوزير) بخفض تكاليف هذا الكم الهائل من الوزراء بخلاف الولايات وأجهزتها التابعة لها وبقية أجهزة الدولة التنفيذية الأُخرى! وهذه هي المُشكلة ونعني بها عدم الإقرار بمكان الخلل والتسرُّع في إبداء النُصح أو التصريح دون دراية! والمعرفة بمفهومها العميق (التي يُنسَب لها الدولة المعرفية) لا تعني العلم بالشيئ ولكن تدبُّره وتأمُّله والبت فيه استناداً للإلهام، وهو موهبة من الخالق لا يتمتَّع بها الجميع، ولا علاقة لها بالتعليم أو الدرجات العلمية المُختلفة.

وعلى سبيل المثال، ومن باب الشرح، لدينا الكثير من الزراعيين الحاصلين على درجات علمية عليا ومن جامعات مرموقة، وهم ? بما يتمتَّعون به من معارف وشهادات ? يعلمون (يدرون) تمام العلم الظروف المناخية والطبيعية الداعمة لنمو الأشجار المُثمرة والمحاصيل المُختلفة، ويعلمون ? بالضرورة ? مُقوِّمات نجاح زراعة الفواكه الاستوائية أو شبه الاستوائية والمدارية بنحوٍ عام، ومنها المانجو والجوافة والليمون التي أثبتت نجاحها في أجواء الخرطوم، ومع ذلك يسود شجر النيم واللبخ كافة نواحي العاصمة بما في ذلك (كليات الزراعة) في بعض الجامعات المرموقة! بل ويأتون بأشجار لا قيمة لها من الخارج وبأسعار عالية جداً نحن وهم في حاجة لهذه المبالغ في قطاعات تنموية وخدمية أُخرى! وباستخدام هذا المعيار ? لقياس المعرفة ? يتَّضح بأنَّ السيد وزير المالية الجديد لم يستفد من سابقيه، وجاء بذات ليعمل بذات التكتيك والأُسلوب، وهو التخدير واللعب بالألفاظ دون أسانيد علمية والمُراوغة وعدم الإقرار بالـ(مُسبِّب) والتمويه بمُعالجة (الأعراض)، ليزداد المرض ويتوغَّل المُسبِّب في الجسد مُخلِّفاً المزيد من الأضرار، وهكذا يتأكَّد أيضاً القراءة ? غير السليمة ? من قِبَل المنظومة لواقعنا الحالي وعدم استنادها للعلمية والمهنية في ما تقوم به، والنتيجة المزيد من التدهور والتراجع!

خُلاصة القول أنَّ التغيير أو التشكيل (سمُّوه ما شئتم) جاء مُخيِّباً للآمال، ويعكس ذات النهج أو التكتيك الذي ظلَّت تلعب به المنظومة الحاكمة منذ استلامها لزمام الأمر، وهو التركيز على الولاء مُقابل الكفاءة والمُحاصصات القبلية والجهوية والحزبية كنوعٍ من التخدير الآني، دون النظر إلى ما يترتَّب على هذا من آثار لم يعد للسودان (الدولة والمُواطنين) طاقة أو قدرة على تحمُّل المزيد من التنظير فيها. فالسودان يحيا الآن ظروفاً بالغة التعقيد ما بين حروبٍ ونزاعات شملت أنحاءً واسعة منه، عقب انقسام جُزء غالي وعزيز منه واحتمالية أجزاء أُخرى به (لا قدَّر الله)، إلى أزمة اقتصادية مُتواصلة ومُتزايدة أساسها الإنفاق الحكومي المُتزايد نتيجة تضخُّم جهاز الدولة الإداري ومُواجهة تكاليف الأمن الذي لا ننعم به رغم التهامه لمبالغ مُقدَّرة من ميزانية الدولة. نحن بحاجة لتكتيك جديد يقوم على المعرفة الـ(حقيقية)، التي تستند إلى العلم والتأهيل والخبرة، لتعمل على إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية وأمنية حقيقية، وتمنع الفوضى وانهيار الدولة وتجمع قلوب وأفئدة كل السودانيين في إطارٍ من التوافُق، واستناداً إلى أرضية مُشتركة (صلبة) وقوية يعمل في إطارها و(بمقتضاها) الجميع.. وللحديث بقية.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. تدعيما لقولك حول وزير المالية الجديد ارجو من القراء ملاحظة امرين اولها ان السيد بدر الدين كان نائبا لمحافظ بنك السودان اى انه كان فعليا من المخططين والمنفذين للسياسة النقدية للبلاد ولا نحتاج لاى اضافة لتوضيح مدى كارثية هذه السياسة التى ادخلت الجنيه السوداني فى موت سريري متطاول. الامر الثاني ان بدر الدين صرح قبل مدة، وارجو الرجوع الى ارشيف الراكوبة للتاكد من ذلك، بانهم اى القائمين على امر الاقتصاد السوداني فشلوا فشلا ذريعا فى اداء مهتهم وبالتالى يتعين اقالتهم وثم محاسبتهم. نفس هذا الشخص يعين وزيرا للمالية فى بلاد يترنح اقتصاده كالذي يتخبطه الشيطان من المس. اللهم الطف بالشعب السوداني يا ارحم الراحمين.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..