السودان.. المشهد الأخير: ستارة على بلد كان موحدا

الخرطوم- الطيب إكليل
سألني جاري، الرجل الستيني المهموم بما سيؤول إليه الوطن في المرحلة المقبلة، ماذا يريد الرئيس عمر البشير من زيارته الى جوبا في هذا الوقت. وكان أن أجاب نفسه بالقول: إنه يريد أن يسدل الستار.. إنه المشهد الأخير يا صاح في اتفاقية السلام الشامل، المعروفة باتفاقية نيفاشا.

وتساءلت بدوري: أليس الرئيس البشير هو من قال في خطابه بعيد استقلال السودان الخامس والخمسين إن الاستفتاء لتقرير المصير «يكتب آخر سطر في كتاب المعافاة لوطننا الكبير»؟!

إنه كتاب الانقسام.
فغدا يتوجه الجنوبيون الى صناديق التصويت، إيذانا، وفق كل التوقعات، بميلاد دولة جديدة في القارة الأفريقية، لم يعرف بعد ما الاسم الذي ستحمله. وفي العام المقبل ستبدأ دولة الجنوب بتدوين تاريخها، بالذكرى الأولى للاستقلال. وتساءلت أيضا: أليس الرئيس البشير هو القائل في الخطاب نفسه: «..وبهذا نكون قد حققنا أغلى معاني الاستقلال»، ليتساءل بصوت عال: «ماذا يعني الاستقلال إن ظل الوطن متنازعا حول مستقبله ووجهته»؟!

الجنوب الجار
وفي يوم توقيع اتفاقية السلام في نيفاشا الكينية عام 2005، قال البشير في خطاب له، إن استقلال السودان كان ناقصا ويكتمل اليوم. كانت تلك فرحة بإطلاق حمامات السلام وتنكيس فوهات البنادق. أما ما عبر عنه في آخر احتفاء بالسودان الموحد المتزامن مع السنة الميلادية، فهو سلوى للنفس، وتعزية لها.. إنه الحزن العميق، وإن لم تقم له «سرادق عزاء»، وانتهى كل شيء بانتهاء مراسم الدفن! إنها بكائية بطول نهر النيل، ودموع بقدر تدفق مياهه، وتزيد! وعندما يعود البشير الى جوبا للمرة الثانية في وقت ما سيكون لإجراء محادثات ثنائية لتقويه الروابط والدفع بالتعاون الى الأمام، لأن الجنوب حينها سيكون قد تحول الى جار وشقيق اضطرته الظروف للفراق، والدم لا يكون ماء. وسيحط بالمقابل لمحاولة حلحلة المشاكل الشائكة إن صار الجنوب جارا لا تؤمن بوائقه، يسعى لإدارة ما استجد من أمور بالسنان.

سبق السيف العذل
وبالطبع أعدت حكومة الجنوب عدتها لاستقبال الرئيس البشير في زيارته الأخيرة لجزء من الوطن الأم في أبهى حلة ممكنة. وقد كان استقبالا متفردا، لا مثيل له. وقال أحد المراقبين لو أن الرئيس البشير كثف من زياراته الى الجنوب منذ توقيع الاتفاقية لكسب قلوب الجنوبيين، واستمالهم لخيار الوحدة. ولكن سبق السيف العذل، والتصويت لتقرير المصير بين الانفصال أو الوحدة يبدأ صبيحة الغد. والغد لناظريه.. قريب؟
البشير تحدث ما شاء له الحديث مع نائبه الأول سلفاكير – الرئيس المرتقب لدولة الجنوب المستقلة- وتطرقا من دون شك لكل القضايا المعروفة، والمستحدثة التي بات قراعها يوقر الآذان.
وأمام كل الحضور، من مسؤولين ومهتمين وشهود على ما يحدث هذه الأيام، حرص البشير على أن يجيب على كثير من التساؤلات الدائرة في الأذهان. وتحدث بلغة إيجابية تختلف عن لغة الحماسة التي اشتهر بها في اللقاءات الجماهيرية، والتي غالبا ما كانت لا تخلو من زلات اللسان. ولسانك حصانك. وقد ألزم البشير لسانه في جوبا بما يفيد ويعطي رسائل ايجابية، ومنها:
أولا: إنه وحزب المؤتمر الوطني على قناعة تامة بأن الوحدة هي الأفضل للوطن، ولكن بما قطعوه من عهود وميثاق حول تقرير مصير الجنوب، فهم ملتزمون باحترام رغبة المواطن الجنوبي، حتى وإن كانت الانفصال.
ثانيا: الحوار، وإن استطال، هو الآلية والسبيل الوحيد لحل القضايا الخلافية (آبيي، وترسيم الحدود، والمشورة الشعبية في جنوب كردفان والنيل الأزرق).
ثالثا: لا تضحية بالسلام الذي كان ثمنا لتقسيم البلاد.
رابعا: التواصل بين الدولتين في حالة الانفصال!
خامسا: لن يلحق أي أذى بأي شخص شمالي أو جنوبي ولا بممتلكات أحد.
سادسا: ضبط النفس أثناء عملية التصويت، وفرز الصناديق لتفويت الفرصة على المتربصين مثلما حدث إبان الانتخابات في ابريل الماضي. سابعا: ولمزيد من حسن النوايا، التزم البشير بتقديم كل أنواع الدعم للدولة الوليدة لتنهض على قدميها.

ورقة دارفور
وخلف الكواليس في لقائه مع سلفاكير لم يغفل البشير أمرا مهما كان من ضمن الدوافع الرئيسية لقدومه الى جوبا، وهي قضية دارفور، وتحديدا الجزئية المتعلقة بإيواء حكومة الجنوب لبعض الحركات الدارفورية المسلحة.
وكان البشير وجه رسالة شديدة اللهجة لحكومة الجنوب عشية زيارته لجوبا، أثناء مشاركته في احتفال عسكري أقيم في مدينة بورتسودان لمناسبة إطلاق أول طائرة استطلاع سودانية من دون طيار. فمن هناك اعتبر البشير، وهو يرتدي بزة عسكرية بيضاء الخاصة بسلاح البحرية، أن إيواء فصائل التمرد «خروج على سلطة الدولة الواحدة». وقال: «نؤكد لإخواننا في الجنوب أن هؤلاء مقاتلون خارجون عن القانون، ونحن في دولة واحدة. القانون والتعامل معهم هو نفسه… فإذا أرادوا السلام فمرحبا بهم، وإن رفضوا فهم النادمون»!
وأعلن البشير أن القوات المسلحة قد «نظفت» دارفور من الحركات المتمردة، وألحقت بها هزائم كبيرة، وهو لا يريد من حكومة الجنوب أن تفتح قواعد انطلاق جديدة بعد أن أغلقت تشاد حدودها دونهم، وأوقفت مساعدتها لهم.
لا يريد البشير أن تلعب حكومة الجنوب بأوراق دارفور، وتفشل استراتيجية الحكومة المركزية الموضوعة لإنهاء الأزمة بأسرع ما يمكن. وكانت حكومة البشير تعول على أن يكون منبر الدوحة آخر منابر الأزمة، وأن ينتهي بنهاية العام 2010.

ارفعوا أياديكم تسلموا
وبالفعل، أمر البشير بسحب وفده المفاوض من الدوحة بعد أن توقفت وثيقة السلام المفترض توقيعها مع حركة العدالة والحرية في نقطتين عصيتين. ويقول الجانب الحكومي إن المفاوضات استنفدت أغراضها وسيظل تبادل الأفكار حول النقاط الخلافية مستمرا عبر الوساطة.
ويقول المتابعون إن حكومة الإنقاذ شعرت بأن لا طائل ولا فائدة من التوصل الى اتفاق مع حركة واحدة من دون الحركات الأخرى، فيتكرر سيناريو اتفاقية أبوجا عام 2006 مع حركة مناوي.
فهل تستطيع الحكومة حسم الوضع عسكريا بالقضاء على الحركات المتمردة، وتطبيق استراتيجيتها التي تستند إلى سلام الداخل، علما أن لحكومة الإنقاذ تجربة فاشلة في سلام الداخل، عندما وقعت عام 1997 اتفاقا مع منشقين من الحركة الشعبية؟!
ويتساءل المراقبون ما إذا كانت حكومة البشير قد قايضت استراتيجيتها في دارفور بتنفيذ ما تبقى من اتفاقية السلام؟ ومن هذا الافتراض يمكن القول إن البشير قد حذر سلفاكير عن «قرب» مثلما حذره من مدينة بورتسودان بأن تقديم المخابئ لفصائل التمرد يعتبر «خروجا عن سلطة الدولة الواحدة». أي باختصار قال البشير لنائبه الأول «ارفعوا أياديكم عن دارفور تسلموا! وأرجو أن يكون وداعنا لكم وداعا حانيا، ورب ذكرى قربت من نزحا»!
ويبدو أن الفريق سلفاكير استوعب الرسالة، حيث صرح أن حكومته اتخذت إجراءات طردت بموجبها حركات دارفور المسلحة، معلنا «لا توجد معارضة من الشمال تتخذ من جوبا قاعدة لها».
وبهذا، يكون البشير قد تمكن من انتزاع أهم أوراق الملف الدارفوري من الجنوب. وقد أعرب عن رضاه بالقول: «نحن من جانبنا ملتزمون بعدم وجود معارضة جنوبية في الشمال، على غرار تجاربنا مع أثيوبيا وتشاد، الأمر الذي قادنا الى تطبيع العلاقات مع الدولتين، وجعل لنا معهما حدودا مشتركة».

القبس

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..