«مصطفى» و«شنايدر»… يبكيان على السودان!

عبدالسلام اليمني

«مصطفى» شاب سوداني المنشأ واللون وفصيلة الدم، لنبوغه وتفوقه العلمي حصل على منحة لدراسة الطب في ألمانيا، وفي المراحل النهائية للحصول على شهادة تخصص طب الأطفال، رحل إلى وطنه في إجازة أعياد الميلاد ليطمئن على الأهل والأحباب، وليتمتع برائحة تراب الوطن الموحد لأيام قليلة، وفي كل مرة طيلة سبع سنوات مضت يعود من وطنه إلى مقر جامعته في برلين محملاً بأثقال هموم أطفال الوطن، وهو العضو الناشط في جمعية وطنية لرعاية الأطفال في السودان.

في رحلته الأخيرة كان الهم مختلفاً، والحزن أشد ألماً، قلبه وعقله المشغول بحاجة أطفال الوطن للرعاية تموضع في مكانه هم الوطن برمته بعد أن عاش أسبوعين من حراك تمزيق الوطن! حزم حقائب العودة لبرلين بيدين ترتعدان وقلب يتمزق من الحزن، وعقل شارد في نتائج المصير، وبدموع أكثر غزارة وأشد حرارة ودع الأبوين والإخوة والأصدقاء، ألقى نظرة أخيرة على وطن لن يراه كما هو في رحلات مقبلة. جلس «مصطفى» في مقعده في الطائرة وألقى بتحية عابرة على من يجلس بجواره الذي رد عليه التحية بإيماءة مماثلة، وضع يديه على صدره، وركن رأسه إلى مقعد الطائرة، وأغمض جفنيه، وأطلق العنان لخياله لرسم صورة مختلفة لمستقبل الوطن وما يحدق به من أخطار؟!

انطلقت الرحلة وعقل صاحبنا يلج بأصوات الرصاص، راسماً صورة قاتمة لمستقبل الوطن، وعندما مرت الطائرة بمطب هوائي رفع يديه فزعاً مما حدث، ما لبث أن اكتشف ارتباطه بما يدور بعقله الباطني، تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وحدث كل هذا تحت أنظار جاره في الطائرة. أطفئت إشارة ربط أحزمة المقاعد بعد أن أخذت الطائرة وضعها الطبيعي في المجال الجوي، حضرت عربة الصحف، ولأن الأحداث تشعل عناقيد الصدف، كانت المفاجأة الأولى لمصطفى عندما رأى جاره العجوز ذا الملامح الغربية يسحب صحيفة سودانية عربية اللغة، وأخذ يسرق بأنظاره بين الفينة والأخرى ما يفعله الخواجة بالصحيفة ليتأكد هل هو يقرأ أم يشاهد الصور في الجريدة؟! وبعد برهة من الوقت سمعه يردد بلغة عربية تدل على الاستعراب «هذه البلاد تعود للوراء». كانت هذه العبارة «البسملة» التي فتحت طريق المحادثة لمصطفى لينفض عما يكنه صدره من أعباء هموم الوطن، فرد عليه من دون مقدمات هذا ما قَضّ مضجعي وزاد من حرقتي على وطني. التفت إليه الرجل العجوز وقال «أنا شنايدر»، أقمت في الوطن العربي 35 عاماً، منها عشرة أعوام في السودان بحكم عمل سياسي (لم يفصح عنه)، تعلمت اللغة العربية وأعرف تفاصيل كثيرة عن الأحداث في العالم العربي، تنقلت بين معظم بلدانه وفي كل بلد أعجب من أحداثه وسلوكياته السياسية والاجتماعية. فسأله مصطفى ما الذي جاء به إلى السودان في أعياد الميلاد؟ أجابه شنايدر: لن أسألك عن أسباب رحلتك إلى ألمانيا، ولكن قد تستغرب لو قلت لك إنني جئت لإلقاء النظرة الأخيرة على سودان الوطن الواحد،أحببت شعبه الطيب المكلوم بقضاياه السياسية!

رد عليه مصطفى لتصحيح اعوجاج بداية الحديث وقال: أنا في المراحل النهائية من دراسة طب الأطفال في جامعة برلين التي حصلت عليها نتيجة منحة دراسية لتفوقي العلمي في الثانوية العامة، جئتُ مهموماً بأطفال السودان، وعدت مهموماً بمستقبل أمة ووطن.

استدار «شنايدر» وأراد أن يُعطي مُحَدّثه لمحة عن معرفته العميقة بتاريخ وطنه فقال: إن السياسيين السودانيين في الوقت الحاضر يعبثون بتاريخ أبطال سابقين، لقد جاهد البطل محمد المهدي لطرد الاحتلال التركي من السودان، وبعدها كان البطل إسماعيل الأزهري على موعد لقيادة انتفاضة شعبية لطرد الاحتلال الإنكليزي، الذي استمر يحكم بلادكم من عام 1898 حتى عام 1955، وأسس الأزهري حكماً ديموقراطياً سبق به الزمان العربي، ولبعد نظره وثاقب بصيرته لتركيبة سودانية عرقية ودينية لن تُحَكمْ بهدوء إلا من خلال ديموقراطية حرة ونزيهة، وأثبت إيمانه بالديموقراطية عندما تخلى عن الحكم لعبدالله خليل بعد انتخابات ديموقراطية، وبدأت أول روائح الانقلابات الكريهة عندما قاد الفريق إبراهيم عبود عام 1958 أول انقلاب عسكري تسلم من خلاله الحكم حتى عام 1964، وعادت بعدها نسمات الديموقراطية الزكية تهب على السودان عندما عاد إسماعيل الأزهري، الذي أعتبره المؤسس والأب الروحي للديموقراطية العربية (على حد تعبير شنايدر)، وبعد ذلك جاء أول ظهور للرئيس الصادق المهدي.

واسترسل العجوز الألماني «شنايدر» في قراءة التاريخ السوداني قائلاً إن أولى نكبات السودان السوداء في العصر الحديث حدثت عام 1969 عندما أطاح المشير جعفر نميري بحكومة الصادق المهدي بانقلاب عسكري استمر 16 عاماً، وكان آنذاك مدعوماً بأصوات خطب الثورات الناصرية الملتهبة بحرارة العروبة ومقاومة الاستعمار؟! أما المشير عبدالرحمن سوار الذهب، الذي أطاح بحكم النميري عام 1985، فكانت حركته أزهرية المعتقد والسلوك، لأنه أعاد نبض الحياة إلى شريان المنهج الأزهري الديموقراطي الذي لا مفر منه لحكم بلد مثل السودان، وقد أوفى بعهده وسلم الحكم لحكومة منتخبة برئاسة الصادق المهدي، الذي أودع السودان في سراديب الخمول وعدم التغيير الجذري لإعادة تثبيت دعائم المنهج والفلسفة الأزهرية الديموقراطية، ما أعاد للسودان نمو «ثقافة الإطاحة»، فجاء البشير عام 1989 متوشحاً بجلباب الترابي، ما لبث أن خلعه وتمرد عليه بعد أن تمكن من تأسيس بنية حكم قوية على نهج ثقافة الأبدية العربية! يا دكتور مصطفى ألا تلاحظ أنكم أمة تسير للوراء؟! أصابت مصطفى الدهشة والإعجاب في آن واحد من هذا السرد التاريخي المختصر والمركز من السيد شنايدر، وسأله متلهفاً للإجابة، كيف ترى مستقبل السودان بعد الاستفتاء؟ أجابه شنايدر، انفصال الجنوب أصبح حتمياً، وإنني لأعجب من أمة تُشرّع أبواب وطنها على مصراعيه للتخلف والجوع وتعميق الصراعات، ثم تلقي باللائمة على نظرية المؤامرة، أرضها تكتنز البترول والذهب والألماس والمعادن والمياه الوفيرة والأرض الخصبة، وأهلها يعانون من الجوع ويعيشون في بعض المناطق حياة بدائية أكثر تخلفاً من حياة شعوب عاشت في قرون الظلام، فيا للعجب منكم أيها العرب!

ثم سأله مصطفى عن وجه الشبه أو الاختلاف بين توحد ألمانيا، وانقسام السودان؟ تبسم شنايدر، وأبدى سعادته بالسؤال ثم قال: تعرف أن الحرب العالمية الثانية دمرت ألمانيا وقسمتها إلى قسمين ولم نستسلم للأمر الواقع ونجعل من بلدنا مرتعاً للتخلف والانقلابات العسكرية، بل واجهنا الحقيقة بالصبر والمثابرة، وعلى رغم وجود قواعد الحلفاء العسكرية أعدنا بناء ألمانيا الحديثة، ووحدناها عام 1990 في مشهد أثار إعجاب العالم كله، مشكلة العرب أنهم لا يريدون أن يصنعوا لهم مجداً يرتكز في الأساس على إتقان العمل والاستفادة من دروس وعبر التاريخ، وما خرجت به بعد 35 عاماً قضيتها متنقلاً بين بلدان عربية عدة وقراءة التاريخ، هبطت الرحلة في مطار برلين وقد زالت غمة انفصال السودان إلى دولتين شمالية وجنوبية عن الدكتور مصطفى لقناعته بتحليل رفيق رحلته شنايدر بأن النتيجة في الوحدة أو الانفصال واحدة!

* كاتب سعودي.

[email protected]

دار الحياة

تعليق واحد

  1. قابلت عجوز الماني في مدينة هامبورغ وسالني من اي البلاد الافريقية اتيت فقلت له من السودان فقال لي ما هي اللغة التي اتحدثها فقلت له اللغة العربية فقال لي ولكنك افريقي فقلت له هذا هو السودان خليط ببن عرب وافارقة كون الشخصية السودانية فقال لي لما تتحاربون قلت له بسبب جهل السياسين والعسكريين وبسبب عدم تحديد الهوية هل نحن عرب ام افارقة في حين ان الاجابة حاضرة وهي نحن سودانيين وكفي.فهل نعي كشعب سوداني هويتنا ام نظل في حالة التوهان؟؟؟؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..