أخبار السودان

التحول الديمقراطي والتحلل من التزاماته

في الشأن العام

التحول الديمقراطي والتحلل من التزاماته

د.سعاد ابراهيم عيسي

عندما هلل المواطنون وكبروا لمقدم الانتخابات الأخيرة، كان دافعهم، إنها وسيلتهم الوحيدة للفصل بين عهد الشمولية والتعددية الحزبية، حيث تبادل السلطة سلميا بين الأحزاب المختلفة، ومن بعد مدخلهم الرئيس للتحول الديمقراطي الذى طال انتظارهم له. نتائج الانتخابات بكلما أحاط بها من لغط وما أثير حولها من جدل، لم تحقق الشق الأول من عشم الجماهير، تبادل السلطة سلميا بين الأحزاب. فقد استحوذ علي مختلف مقاعدها وبشقيها التشريعي والتنفيذي، حزب واحد هو حزب المؤتمر الوطني، ومن ثم ظلت كل السلطة بين يديه، فهزمت بذلك فكرة تبادلها سلميا بين الأحزاب. وبموجب ذلك الانفراد الفريد بالسلطة، أصبح التحول الديمقراطي في أمر ضيق. فالمؤتمر الوطني جعل أحد شعارات حملته الانتخابية، من أجل تكملة المشوار، وقلنا حينها من الذى ينتظر إكمال ذات المشوار على ذات الطريق، وبذات الطرق؟ فالمواطن قطعا يأمل في عهد جديد، ومشاوير جديدة، وبطرق جديدة. لكن يبدو إننا في مواجهة تكملة المشوار القديم بكل حذافيره، فالدلائل جميعها تشير إلى أنه بدلا من أن نخطو خطوة أخرى في طريق الديمقراطية والحرية، تقهقرنا وتراجعنا حتى عن القليل من الحريات التي أتيحت خلال فترة الانتخابات، ويبدو اننا في الطريق إلى المربع الأول وبأسرع ما يكون. فالمؤتمر الوطني تعود على نظام حكم استمر لأكثر من عقدين من الزمان، دون أن يشاركه فيه حزب آخر بمعنى المشاركة الحقيقي، حتى بعد توقيع اتفاقية السلام، فان مشاركته مع الحركة الشعبية لم تؤثر على قبضته على دفة الحكم التي ظلت في حالة مد وجذر، لكن دون ان ترتخي تماما. لذلك لا يمكن أن نتوقع أن عودته وبالانتخاب ستجعله يغير من أنماط سلوكه السابقة بين عشية وضحاها، لان ذلك يحتاج إلى تغيير الكثير الذى لا يرغب في تغييره.
وقبل أن نخوض في كل الذى تعج به الساحة السياسية من ممارسات تتنافى تماما مع موجبات التحول الديمقراطي، استرعى انتباهي خبر بالصحف يقول، بأن قوات الأمن بولاية القضارف قد ألقت القبض على طفل في الرابعة عشرة من عمره، لأنه هتف في حضرة والي الولاية، بحياة أبو هاشم. ورغم ان السيد الوالي قد أطلق سراح الطفل فيما بعد، إلا أنني أصبت بخيبة أمل كبيرة، ان كان مجرد الجهر بمثل هذا الرأي الذى لم يسيئ إلى أحد، يستوجب الاعتقال، فما الذى يتم فعله ان كان الطفل قد دعا على الوالي؟ اعتقد أن السيد الوالي بإطلاق سراح الطفل لم يعالج المشكلة علاجا جذريا حتى لا تتكرر مرة أخرى، فقد كان لازما مساءلة الأجهزة التي اعتقلت الطفل، عن سبب الاعتقال الذى لا نرى له مبررا، بل لابد من منعها من مثل ذلك التصرف المخجل خاصة والسيد الوالي صعد إلى مقعد الولاية منتخبا من جماهير يجب مراعاة مشاعرها، فمنها وبينها العديد من «ناس أبو هاشم» طبعا، وأتمنى ألا يكون دافع إطلاق سراح الفاعل لصغر سنه، وليست قناعة بعدم وجود أي ذنب يستدعى حتى المطالبة بخفض صوته كي لا يسمعه الوالي. وقبل ان نستوعب اعتقال طفل بسبب هتافه بما يتمنى، طالعتنا الصحف بأن السلطات استدعت السيد فاروق أبو عيسى، وأيضا لتصريحاته بما لا تهوى السلطة. وان صرح سيادته بعد إطلاق سراحه، بأنه وجد معاملة كريمة من الجهة التي استدعته. إلا أن مبدأ الاستدعاء للمساءلة عن التعبير عن الرأي، لا يجوز ولا يقبل، في عهد مفترض أن يصبح ديمقراطيا. كل هذه الإحداث وغيرها ذكرتني ببرنامج يقدم يوميا بإحدى القنوات الخارجية من أجل إضحاك المواطنين وتسليتهم، تخصص مقدمه في نقد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية والكشف عن أخطائهم صغيرها وكبيرها. وبعد كل برنامج، ظللت أتساءل ان كان مثل ذلك الحديث عن احد مسؤولينا، دعك عن الرؤساء، هل كان مقدم البرنامج سيعود في اليوم التالي لممارسة عمله؟
لقد قلت في مقال سابق ان ملامح العهد الجديد لا توحي بجديد، وقبل أن يمضى أسبوع واحد على ذلك القول، طالعتنا الصحف بقصة اعتقال الشيخ حسن الترابي، وكالعادة لا يمكن ان تعطيك السلطات المعنية كل الحقائق المحيطة بالأمر، حتى يكون المواطن على بينة، بل يتم تركه للتخمينات والتأويل وللقيل والقال. بعض الصحف أرجعت سبب الاعتقال إلى حديث نشرته جريدة الحزب، صوت الشعب، التي تم إيقافها ومصادرة ممتلكاتها واعتقال بعض العاملين بها. وهو نفس الطريق الذى سارت عليه السلطة في العهد السابق، وذات الطرق التي اتبعتها بما فيها اعتقالات نصف الليل. وصحف أخرى رأت أن اعتقال الشيخ حسن تم على خلفية صلته بحركة العدل والمساواة، التي تمردت مرة أخرى على التفاوض مع الحكومة، وعادت إلى مربع القتال السابق. وبما أننا لا ندرى اى الاتهامين كان وراء الاعتقال، إلا ان مبدأ الرجوع إلى الاعتقالات التحفظية التي تتنافى مع القانون والدستور، تعنى أن الحكومة، وهى منتخبة حاليا لا تنوى تغيير سياساتها الشمولية السابقة، بكل مجافاتها للقانون والدستور. فحرية الرأي مكفولة قانونا، ومتى أخل احدهم بما حدده القانون، فبالقانون يتم تقويمه. أما إذا كانت الحكومة تنوى أن تعود إلى ذات ممارساتها القديمة، وتنسى إنها أتت في هذه المرة على أكتاف المواطنين وليس على ظهر دبابة، فلا تأمن أن ينقلب عليها حتى من وقفوا معها متى فاض بهم الكيل، فالأجدى ان تصحو الحكومة بعد غفوة النصر ونشوته، لترى الواقع مجردا وقبل فوات الأوان.
مشكلة دارفور التي زاد تأزمها بعد أن أصبح لها ألف «وجيع» بدأت بحركتي تحرير السودان والعدل والمساواة. ثم تناسلت الحركتان فأصبحت لهما ذرية لا تحصى ولا تعد. وما شجع على ذلك التكاثر، انه ما من حركة انشقت وجعلت لها قائدا، إلا وجلست لها الحكومة لتفاوضها، وبما ان التفاوض يقود إلى منافع للمتفاوضين أكثر من شعب دارفور القابض على جمر الصبر، أصبحت الانشقاقات اقصر الطرق للوصول إلى السلطة ومن بعد الثروة، ولعلكم قرأتم خبر آخر انشقاق من صفوف حركة العدل والمساواة. فقد انشقت مجموعتان قامتا بتسليم أنفسهما لحكومة غرب دارفور التي وعدتهم بأنها لن تخذلهم، وستعوضهم بما يليق بفعلتهما. فما الذى يمنع غيرهم من أن يحذو حذوهم، كان ذلك بالانشقاق من حركة قائمة، أو تكوين حركة جديدة؟ ويصبح السؤال، حتى متى ستستمر المفاوضات بين الحكومة وحركات دارفور التي كلما انتهى التفاوض مع بعضها، ظهر بعض آخر، حتى أصبحت مثل ساقية جحا . أعتقد ان الحكومة عليها ان تحدد أولا من هم المؤهلون للتفاوض معهم باعتبارهم الممثلين الأصليين لشعب دارفور؟، ثم ما هو دور الذين تم انتخابهم من جانب مواطني دارفور في أمر هذه المشكلة؟ ثم ظللنا نسمع عن الحوار الدارفورى- الدارفورى، الذى يعيد الكرة لملعب أهلها حتى يقرروا بأنفسهم ما هو الحل الذى يرونه لإقليمهم، ولكن دون ان يتم تنفيذه؟
أما قصة قائد حركة العدل والمساواة الذى أعلنت الحكومة عن مطالبتها بإلقاء القبض عليه بواسطة البوليس الدولي، فلن نستغرب ذلك، فكل زعماء الحركات المتمردة بالسودان ابتداء من جوزيف لاقو وجون قرنق وغيرهم، كانوا مطلوبين من قبل الدولة بواسطة البوليس الدولي، ومن بعد حين إذ هم مكفولون برعاية ذات الدولة، ومحروسون ببوليسها. المشكلة ان تصعيد العداء بين الحكومة والمتمردين لا يقود إلا إلى مزيد من التمرد. فان كان هذا التضييق على زعيم حركة العدل والمساواة من اجل دفعه للتفاوض، مثله مثل الأخذ لبيت الطاعة، الذى تقاد إليه المرأة مجبرة، فلا يمضى قصير وقت حتى يحدث الطلاق، فان حضر خليل مجبرا على التفاوض وحتى ان وقع على وثيقة سلام، فهل تضمن الحكومة ديمومة ذلك السلام القسرى؟ وسؤال هام ومطلوب توضيح حقيقته، فقد ظللنا نسمع عن توقيع اتفاقات سلام مع بعض الحركات المتمردة بدارفور، وبعد أن يعود الموقعون على تلك الاتفاقيات إلى حظيرة الوطن مشاركين في إدارته، نظل نسمع بحديثهم عن بعض الأماكن التي لا زالوا يسيطرون عليها. فالسيد كبير مساعدي الرئيس، منى أركوى مناوي رئيس حركة تحرير السودان، يقول بأن حركات أخرى قد اعتدت على بعض المواقع التي يحتلها، فأي اتفاق سلام هذا الذى يسمح لموقعيه بأن يحتفظوا بمواقعهم التي احتلوها في ظروف الحرب مع الحكومة، ومن بعد يستمروا في المشاركة في حكم المواقع الأخرى؟
كثر الحديث هذه الأيام عن جعل الوحدة جاذبة، ومن جانب آخر، خاصة من بعض القيادات الجنوبية، ارتفعت نبرة الانفصال أو الاستقلال، وغير ذلك من الكلمات التي تشير إلى رفض الوحدة. حيث اتفق تماما مع الذين يرون في الحديث عن الوحدة الجاذبة الآن، وكأنه جس بعد ذبح. فقد جعلت حكومات الشمال المتعاقبة ومنذ الاستقلال وحتى توقيع اتفاقية السلام عام 2005م، جعلت وحدة الجنوب والشمال من المسلمات التي لا تحتاج إلى أي جهد لضمان ديمومتها. لذلك لم تعط احتمال الانفصال أي اهتمام. وبعد توقيع اتفاقية السلام أخيرا، سمعنا لأول مرة بقصة الوحدة الجاذبة، التي رفع شعارها د. جون قرنق، باعتبارها الوسيلة الأفضل لتحقيق حلمه في سودان جديد يسع الجميع دون تمييز بينهم بسبب اللون، النوع أو المعتقد وغيره.غير ان الوحدة الجاذبة لا تعنى ان تصنع الوحدة صناعة، بل لابد من أن تأتى قناعة من الجميع خاصة مواطني جنوب السودان، بعد أن يلمسوا ويحسوا بجاذبيتها تغييرا في أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، بما يسد الفجوات بينهم وبين مواطني الشمال. حيث تزايد مؤسسات التعليم بكل مراحله بعد إعدادها وتأهيلها لتقدم تعليما جيدا ومفيدا. وكذا المؤسسات الصحية المؤهلة لتوفير الصحة للجميع. ثم تعبيد الطرق التي تربط بين الولايات الجنوبية، ومن بعد تربط بينها وبين ولايات الشمال. فكل ذلك وغيره كان ممكنا لو تضافرت الجهود بين حكومتي الشمال والجنوب، ومنذ أن تم توقيع اتفاقية السلام الشامل، من أجل تحقيقه، لكن قضى الشريكان الوقت كله أو جله في المشاكسة وخلق المشاكل، حتى واجهتهما حتمية إجراء الاستفتاء الذى يمنح الجنوبيين حق تقرير مصيرهم، وحدة كان أو انفصالا. حينها فقط فطن الجميع إلى أن الوقت قد سرقهم، ولم يعد به متسع لتغيير القناعات التي وصل إليها المواطن الجنوبي عبر نصف قرن من الزمان، أو حتى عبر السنوات الخمس منذ توقيع اتفاقية السلام وحتى الآن،حيث يستحيل تغييرها في بضعة أشهر
اعتقد أنه من الأفضل أن يصرف النظر عن محاولة «تحبيب» الوحدة للمواطن الجنوبي الآن، لان ذلك سيجعل من الوحدة التي قد تأتى طوعا وبقناعة الجميع، وكأنها مصنوعة من جانب الشمال في نظر الانفصاليين، لذلك حبذا لو جلس الجانبان، شمالي وجنوبي، للنظر في كل الاحتمالات التي سيفرزها الاستفتاء، وحدة كانت أم انفصالا، والاستعداد لقبولها من الجميع أولا، ومن بعد البحث في كيفية معالجة جميع آثارها على مواطني الشمال والجنوب أيضا. أما ان كان ولابد من فعل شيء الآن فعلى حكومتي الشمال والجنوب، العمل على التوعية بأهمية الاستفتاء وتأثير اى من خياراته على مستقبل البلاد سلبياتها وايجابياتها، ومن بعد اتركوا الخيار للمواطن الجنوبي ليحدد وجهته التي يريد دون تأثير من أحد.

الصحافة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..