“محمود عبد العزيز”..الفتي الذي ترك أزهاره ورحل !!

الخرطوم – محمد عبد الباقي
لم يُثِر فنان في السودان ضجة فنية واجتماعية كما فعل الراحل “محمود عبد العزيز” الذي تربع منذ ظهوره في منتصف التسعينات وحتى وفاته فى مثل هذا اليوم من العام الماضي ، علي عرش الأغنية السودانية بلا منازع منفرداً بصدارتها لحوالي عقدين من الزمان لم تخبو فيها نجوميته علي كثرة الفنانين الذين ظهروا بعده.
(1)
و”محمود” الذي مثل حالة خاصة في خارطة الأغنية السودانية جرفت شعبيته كل المتاريس والحوائط الفنية التي أٌقيمت قبله وتمددت جماهيريته حتى لامست الإقليمية دون أن يسعي إليها مما جعل معجبيه يطلقون عليه عشرات الألقاب والأسماء دلالةً علي تفرده في سودان المليون ميل القديم.
ورغم أننا لا نجزم بأن هنالك تاريخ محدد لظهور “محمود عبد العزيز” كمغنٍ، لكن الراجح أنه في الفترة مابين عام 1988-1994م بدأ يطل عبر الحفلات العامة وفي بيوت الأفراح على الجمهور الذي لم يبدِ التفاته في بادي أمره لذلك الفتى النحيل الذي انطلق يردد أغنيات “نجم الدين الفاضل”، “أحمد المصطفى”،”الهادي الجبل” وبعض أغنيات الحقيبة كغيره ممن هم في بداية الطريق.
والجمهور وحده من فرش أمام خطواته الأولى ورود الإعجاب، أما النقاد لم يتنبئوا له بمستقبل باهر، واعتبروه مجرد هاوٍ سرعان ما تفتر همته، إلا أن المارد انتفض خلال سنوات معدودة، مما دفع معجبوه يطلقون عليه لقب (الجان)، وهو لقب لم يسبقه إليه أحد في مجتمع متدين يتلو المعوذتين صباح مساء.
ولعدم تسليط الأضواء علي مسيرته باكراً، استطاع “محمود عبد العزيز” أن يضع أُولى خطواته على سلم الثقة بالنفس، وهذا ما كان يحتاجه في مسيرته التي بدأها بهدوء وختمها بصخب لم تشهد له الساحة الفنية مثيلاً، وكأنه أراد أن ينتقم لماضيه.
(2)
تقول سيرته الباكرة إن “محمود عبد العزيز” ولد في 16 أكتوبر 1967م بـ(مستشفى الخرطوم)، وعاش سني طفولته في كنف أسرته بـ(حي المزاد) العريق ببحري، وهو الابن الأول للحاج “عبد العزيز محمد علي” الذي كان عاملاً بسيطاً.
وتؤكد سيرته غير المكتوبة، إنه كان يتمتع بذكاء بيّن من خلال دراسته الأولى في روضة (الحرية) بـ(حي المزاد)، والتي أظهر فيها شغفه بالمعرفة، والذي تمثل في حفظه لكل كلمة جديدة كان يسمعها.
(3)
وبمجرد أن وضع الطفل “محمود” قدميه على عتبة التعليم الابتدائي، انخرط في التمثيل في برامج (الأطفال) بالتلفزيون، وشارك في عدة مسرحيات أهمها (أمي العزيزة)، لكن روحه المتمردة أبت الركون لحياة الهدوء التي تلف جنبات المسرح، ربما أراد بذلك أن لا يطل على جمهوره من خلف الستار، وإنما يصعد إلى المسرح محمولاً على الأكتاف، لا يشاطره سيادة (الخشبة) سوى (العازفين) من خلفه، فولج عالم الغناء بضراوة وطرق بابه بقوة وكأنه أراد أن يشق بصوته المدى فيعلو على أصوات الآخرين.
وعندما سنحت له فرصة الوقوف أمام الجمهور بمسرح بلدية الخرطوم بحري (المجلس الريفي) حينه، مارس سحره على الحضور، فانتزع شارة المرور في لحظة جذب روحي خاصة جداً، حيث كان يغني تلك الليلة أغنيات الحقيبة.
(4)
وسحر”محمود” لم يأسر في ذلك اليوم الجمهور الذي ضاقت به باحة البلدية فقط، إنما تغلغل في نفس محافظها الذي عانق الفتى الصغير ومنحه أول جائزة (دفاتر وأقلام وزي مدرسي ومبلغ مالي)، وهو ?اي المحافظ- لم يدريِ أن تلك الجائزة ستكون محرض قوي للتلميذ أن يخلع زي المدرسة ويمزيق دفاتره القديمة، ويفتح صفحة جديدة في عالم جديد، وفكانت تلك الجائزة هي بذرة الإبداع الفني الأولى في دواخل “محمود عبد العزيز”، فنمت نبتتها غير آبهة بتناوب الفصول وعجف السنوات.
(5)
و”محمود” الذي لم يكن من أبناء الذوات، جرب حياة الفقر ومشى في طرقات العوز كثيراً، فلم يكن يأبه للمعاناة التي عاشها ولم يبحث عن ما يسد الرمق، إنما كان ينظر إلى شيء آخر، يروي به روحه التي ظلت قلقة داخل ذلك الجسد النحيل الذي اشتعلت جذوة الإبداع فيه مبكراً وامتدت لتعانق أفئدة الآلاف من الجماهير التي حفته بحبها على مدى ربع قرن من الزمان، قضاها يصول على صهوة صوته متسيداً القلوب والمسارح سائراً نحو الفناء بإرادته.
وعندما حلت نهاية العام 1994م كان “محمود” يستعد لإطلاق أول ألبوماته (خلي بالك)، الذي احتوى على خمسة أعمال خاصة بجانب أعمال مسموعة، وفي العام 1995م صدر له ألبومان هما (سكت الرباب ويا عُمر)، والأخير كان نقطة التحول المفصلية في حياته الفنية، إذ لاقى نجاحاً حرك ركود الساحة التي كانت في تلك السنوات تعاني من بوار لم تشهد مثله قط.
ونجاح ألبوم (يا عُمر) شجع الشركة المنتجة له على إصدار آخر في العام 1996م حمل اسم (سيب عنادك)، وبسبب نجاحه الكبير أطلقت شركة لـ(القمصان) أسمه على أحد منتجاتها. وفي العام ذاته طُرح له في الأسواق ألبوم (جواب للبلد)، وألبوم (سبب الريد)، وشهد العام 1997م إنتاج البوم (يا مدهشة)، الذي جاء توأماً مع البوم (يا مفرحة)، إلى جانب ألبوم (في بالي) الذي احتوى على تسعة أعمال منها (المدفع الرزم) للشاعر “عمر البنا” التي تغنى بها في معسكرات عزة السودان الأولى، فازدادت شعبيته بين الشباب.
وهكذا ظل (الحوت) ينتج ألبومات متتالية عاماً تلو آخر، ففي 1998م، أُنتج البوم باسم (لهيب الشوق) أثار جدلاً فنياً كثيفاً وحقق نجاحاً باهراً مما جعل أكبر شركة للسيارات أن تطلق أسمه على موديل ذلك العام، وتوالت الألبومات فكان (زمني الخاين)”، (الحجل فى الرجل)، (على النجيلة)، (نور العيون)، (برتاح ليك)، (قائد الأسطول)، (عاش من شافك)، (أكتب لي)، (عامل كيف)، (شايل جراح)، (عدت سنة)، (القطار المره)، (خوفي الوجع)، (مرت الأيام)، (ساب البلد)، (اتفضلي)، (الحنين) و(يا زول يا طيب)، ونجد كلما أصدر”محمود” ألبوماً أطلق عليه معجبوه لقباً جديداً، فتارة هو (الحوت) وقبلها كان (الجان) و(سيدا) ..الخ
(6)
تفرد “محمود عبد العزيز” على جيله بحب الجماهير وكثرة الإنتاج، حيث تجاوز عدد الأغنيات التي سجلها في ألبومات ماستر حوالي (205) أغنية، منها حوالي (125) أغنية خاصة و(74) أغنية مسموعة و(4) أغنيات من التراث، بجانب أغانٍ للأطفال، وأخرى للبرامج وللمسرحيات وغيرها.
(7)
وبإلقاء نظرة على حياة الراحل المقيم “محمود عبد العزيز” يتضح وبجلاء أنه يستحق أن يوضع بين الكبار على قمة خارطة الغناء السوداني، فقد ظل محتفظاً بجماهيرية طاغية من كل الأعمار على مدى العشرين عاماً الماضية، ولم يظهر في محفل إلاّ ضاق بعشاقه ومحبيه، الذين حفظوا جُل أغنياته عن ظهر قلب، وكأنه شمعة تفني دنياها لتضئ دنيا الآخرين.
وهكذا ظل رحمه الله، يجزل العطاء لعشاقه الذين منحوه كل حبهم.