محمود عبد العزيز صخب الحياة وعنفوان الموت

الخرطوم – محمد هلالي
فور سماع نبأ الرحيل الفاجع لفنان الشباب محمود عبد العزيز صبيحة الخميس 17 يناير الماضي بمستشفى ابن الهيثم في العاصمة الأردنية عمان، التي نُقل إليها بعد صراع طويل ومرير مع المرض. انتقل عشرات الآلاف من جماهير الفنان الشاب رجالا ونساء وأطفالا من كل قطاعات الشعب السوداني وبمختلف الشرائح والتوجهات، إلى منزله بحي المزاد بالخرطوم بحري وإلى مطار الخرطوم، حيث أدى ذلك إلى توقف الحياة بشكل كامل في عدد من المناطق والشوارع الحيوية بالعاصمة الخرطوم ومدينة بحري، ومن ضمنها مطار الخرطوم؛ الذي تقاطرت الجماهير إليه بكثافة قُدرت بنحو (10) آلاف أو يزيد، وفشلت السلطات في السيطرة عليها، مما تسبب في احتلال هذه الجموع لمدرج الطائرات وإغلاقه، الأمر الذي دفع إلى تعليق كل الرحلات الداخلية والخارجية لعدة ساعات، حتى استطاعت القوات الأمنية، بعد عناء، من تفريق الحشود التي كان أغلبها شباباً من الجنسين بعد استخدام الغاز المسيل للدموع والهراوات.
وقد أدت هذه الصدامات إلى سقوط المئات من الجرحى، إلى جانب حدوث أضرار جسيمة بالصالات الداخلية للمطار وتلف عدد كبير من السيارات الحكومية والخاصة التي كانت تقف بالمطار وفي الشوارع الرئيسية المحيطة به في تلك الأثناء.
وهذه الأحداث المأساوية، التي كانت أعداد كبيرة من معجبيه وأصدقائه وأسرته يعملون من أجل تفاديها، يُحمل الكثير من الحاضرين قوات الأمن مسؤولية حدوثها، لأن التضارب في بث المعلومات إلى جانب السرعة المخيفة من أجل مواراة الجثمان، كانتا سببا مباشرا لعدم تنظيم هذا التشييع، وذلك مع علم السلطات المُسبق بصعوبة السيطرة على (الحواتة)، وهو لقب يُطلق على جماهير محمود، الذين قاموا بتدمير عدة مسارح في السودان في مناسبات مختلفة آخرها مسرح الجزيرة بمدني في خواتيم شهر نوفمبر الماضي؛ فقط بسبب تأخر صعوده لخشبة المسرح.
الفترة امتدت منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وحتى هذه السنوات الأولى من الألفية الثانية، استطاع محمود عبد العزيز السيطرة بشكل كامل على عرش الغناء السوداني من خلال انفراده بين أقرانه ومن تبعوه بإنتاجه الغزير، واتساع رقعة جماهيره ليصبح بما لا يدع مجالاً للشك صاحب أكبر قاعدة شعبية بين كل المغنين والفنانين السودانيين، وهو ما يجعله مؤهلاً، وبامتياز، لأن ينال لقب فنان الجماهير الأول في السودان الكبير بضفتيه الشمالية والجنوبية.
هذا الأمر هو بالتأكيد لم يأتِ من فراغ، وكذلك ما حدث من انفلات كامل لعقد الحياة الطبيعية في العاصمة السودانية الخرطوم يوم رحيله، له مسببات حقيقية ومنطقية؛ فمحمود – أو الحوت كما يناديه معجبوه والمقربون منه – كان منفتحاً على جماهيره بشكل لافت لدرجة يمكننا معها أن نقول إنه لكل فرد بين الرقم الضخم الذي شيعه قصته الخاصة جداً معه.
هو كان شخصية غير عادية، بسيطة وبريئة إلى حد النقاء (إن جاز لنا التعبير)، وعفوية وصادقة إلى حد اللامبالاة، منفتح على الكافة دون تقييد أو تقيّد، كما إنه يعتبر الفنان الوحيد الذي طاف كل بقاع السودان دون استثناء، وغنى لجميع الطبقات، كذلك دون استثناء، إلى أن رقد في مقابر الصبابي بالخرطوم بحري في ذات ليلة الإعلان عن وفاته.
ومن هذا المنطلق، فإن حياته، والجدل الكثيف الذي دار حولها، والكم الهائل من القصص ? الأسطوري منها والحقيقي ? كانت سيرورة من الحركة الدائمة والصخب المتواصل.
فمنذ بداياته الغنائية في نهايات الثمانينيات وحتى صدور أول ألبوم غنائي له بعنوان (خلي بالك) في العام 1994 من إنتاج شركة حصاد للإنتاج الفني، كان الشاب النحيل قد رسم لحياته شكلاً.
وظل محمود متمسكاً بكل ما يفعل، ولم تنقطع علاقته بجماهيره نهائياً، وكانت في تنام مستمر، وظلت هذه العلاقة تتماسك عند مروره بأي محنة، أو عنائه من أي شيء، وهو ما بدا واضحاً وجلياً في تشييعه المهيب.
وهذه العلاقة التي ربطت محمود بمعجبيه، كانت هناك مثلها بينه وبين أعداد ضخمة من الأسر الفقيرة، وقد تحدث الكثيرون عن زياراته المتكررة للمستشفيات ودعم من لا يستطيعون معالجة أنفسهم، بالإضافة إلى دور الأطفال مجهولي الأبوين ودور العجزة كذلك.
ويقول الصحفي الكبير ميرغني البكري إنه بالإضافة إلى موهبته فقد كان يمتاز بصفات أخرى مثل “أن يصرف ثلاثة أرباع أمواله التي يكسبها من إنتاجه الغنائي على مشاريع إنسانية فعاش فقيرا ومات فقيرا، وهذه من أهم مقومات امتلاكه للقاعدة الجماهيرية اللامحدودة”.
إن الفنان محمود عبد العزيز شخص استثنائي لم يتكرر في تاريخ الفن وهو أحد عظماء الفن في السودان وله إسهامات واضحة في المجتمع السوداني واصفا تجمع آلاف الناس بأنه “دليل على حب الشعب السوداني له”.
على الرغم من أنه لم يكن له انتماء سياسي واضح، إلا أن جميع الأحزاب بلا استثناء كانت تتسابق في نعيه والكتابة عنه على شاكلة بيانات وتصريحات من قادتها، حيث اعتبره زعيم حزب الأمة القومي وإمام الأنصار، الصادق المهدي “أيقونة الفن السوداني”، مضيفاً أن له شعبية “مُستحقة” منقطعة النظير في أوساط الشباب.
في سياق متصل بإمكانياته الغنائية يلفت الصحفي الكبير والناقد الفني المعروف، ياسر عركي، إلى أن “محمود بسط أسطوريته الخالدة بصوته الواسع والممتلئ وبدفء حنجرته الطرية المطاوعة لأصعب الألحان”، وأوضح عركي أن صوته “ينتمي لعائلة أصوات (التينور)، ويتم تصنيف صوته علمياً ضمن طبقة أصوات (التينور الثاني) الذي يتميز أصحابه بالخيال والتصوير والانتقال والعمق والبعد الدرامي في الصوت”. أصدر محمود ما لا يقل عن 32 ألبوما غنائيا. وقد كانت بدايته مسرحية من خلال مشاركته في برامج الأطفال التلفزيونية، وهو ما يزال ابن ثلاث سنوات.
وقد شهد مستشفى الخرطوم صرخته الأولى في يوم الاثنين الذي وافق 16 أكتوبر 1967، ونشأ في حي المزاد العريق في الخرطوم بحري، وأشار عدد من أبناء الحي الذي يسكنه إلى أنه كان مولعا بالفن منذ صغره ويتسم بالكرم والجود وله دور رياضي كبير، فهو مشجع غيور لنادي المريخ السوداني. محمود كان فنانا شاملا، فهو يرسم في كثير من الأحيان، وينظم الشعر كذلك، وقد أحب التمثيل منذ الصغر ومما يُذكر عنه أنه ذهب إلى التلفزيون للمشاركة في برنامج الأطفال، كما شارك في مسرحية “أمي العزيزة” التي بدأت معها الإرهاصات الأولى لمولد فنان له شـأن
اليوم التالي