أخبار السودان

جنوب السودان‏..‏ بين فرص الحل وسيناريوهات التدمير الذاتي

أسماء الحسيني

دخلت الحرب في جنوب السودان بعد شهر من اندلاعها مرحلة حرجة‏,‏ يخشي أن تؤدي إلي كثير من الإشكاليات والتعقيدات في ظل وضع هش بالجنوب والمنطقة كلها‏,مع استمرار القتال واتساع رقعته وارتفاع وتيرته بما يؤثر كثيرا علي سير المفاوضات التي تشوبها الكثير من التعقيدات‏,‏ ولم تستطع التوصل لوقف إطلاق نارحتي الآن‏.‏

ورغم مايعلن عن ضغوط إقليمية ودولية علي الطرفين, انتشر القتل العشوائي وسالت الدماء غزيرة وخيمت أصوات البنادق ورائحة البارود, وارتكبت خلال العمليات العسكرية المتعاقبة علي مدي شهر عمليات قتل وانتقام وحشية اتخذت طابعا عرقيا لاسيما بين قبيلتي الدينكا التي ينتمي إليها رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت والنوير التي ينتمي إليها نائبه السابق الدكتوررياك مشار, مما أدي لمقتل الآلاف وتشرد ومعاناة مئات الآلاف, أصبحوا معرضين لخطر المجاعة والأمراض والموت.. وكأن الموت والقتل والتشرد هو قدر جنوب السودان ومواطنيه الذين عانوا ويلات حرب أهلية امتدت لأكثر من خمسين عاما, ثم صوتوا بأغلبية ساحقة علي خيار الإنفصال, ومايجري اليوم هو أمر مرير بالنسبة لمواطني الجنوب الذين فروا من الدولة الأم السودان طلبا للحرية والعدالة والعيش الكريم وهربا من التهميش والمظالم والصراعات والفساد, فإذا بهم أمام دولة تعيد إنتاج ماهربوا منه… لم تصبر القيادات والنخب الجنوبية طويلا من أجل تحقيق نبوءات كثيرة من خصومهم ومحبيهم كانت تحذر بأن دولتهم معرضة للفشل, وقبل أن تكمل الدولة الوليدة العامين والنصف اندلع صراع سياسي علي كراسي الحكم بين سلفاكير ونائبه السابق مشار وفريقه الذي يضم القيادات التي أقصاها سلفاكير من السلطة فتجمعت كلها ضده, متهمة إياها بتكريس حكم ديكتاتوري, بينما اتهمها هو بتدبير انقلاب ضده.

وللفشل في الجنوب أسباب عديدة موضوعية, منها العامل الداخلي المتعلق بالفساد والعجز عن إدارة الدولة وعدم إطلاق مصالحة واسعة, وقد ساهمت كل النخب الجنوبية بقدر في هذا الفشل, كما يتحمل المجتمع الدولي جزءا كبيرا منه بالتخلي عن مسئولياته تجاه الدولة الوليدة وعدم الوفاء بتعهداته حيالها في مؤتمرات المانحين وعدم مساهمته بالقدر الكافي في تأهيل الجيش والشرطة وبناء القدرات والبني التحتية, كما كان للعلاقة المتوترة مع الخرطوم دور كبيرفي تأزيم الوضع في الجنوب, وأجج شح الموارد في الجنوب بعد وقف تصدير البترول الإحتجاجات والسخط.

ولايبدو رغم كل المعارك الدائرة أن الصراع قد حسم تماما لصالح أحد الطرفين, فالمعارك بين كر وفر, ولايبدو أن أحد الطرفين قادر علي حسم الصراع لصالحه, وكل يريد دعم موقفه التفاوضي بالإستيلاء علي مناطق البترول والمدن الرئيسية, ورغم تقدم قوات سلفاكير في الأيام الأخيرة ربما بفعل الدعم الأوغندي, إلا أن دحر قوات مشار لن يكون حتي في حال حدوث حل, وهو أمر غير وارد حتي الآن, لأن معارك الجنوب أثبتت أن الطرف الذي يهزم تتحول قواته بعد ذلك إلي ميليشيات تظل قادرة في ظل واقع جغرافي وقبلي وإثني وحدودي معقد علي إثارة كثير من القلاقل, وسلفاكير رغم مايتمتع به من خبرة إستخباراتية وعسكرية ونفوذ قوي في الجيش ومعه مؤسسات الدولة وقطاعات قبلية واسعة في أكبر فروع قبيلة الدينكا والتحالفات التي يسعي لتكوينها مع قيادات أخري مؤثرة في قبيلة النوير لضرب نائبه مشار, إلا أن خصومه لايستهان بهم وهم قيادات لها تاريخ وجماهير وولاءات أيضا قبلية وخبرات سياسية وعسكرية كبيرة. وفي حال عدم التوصل إلي تفاهمات بين هذه القيادات, فإن الصراع بينها قد يكون عملا إنتحاريا مدمرا للطرفين معا, بل وللجنوب كله, إذا ما أضيف لصراعات أخري موجودة بالفعل مع ميليشيات مسلحة وغيرها, حيث يتداخل في مثل هذا الصراع العوامل العسكرية والسياسية والقبلية, في ظل واقع إقليمي ودولي معقد, وهناك أصوات في المجتمع الدولي بدأت تشير إلي ضرورة وضع دولة الجنوب تحت الوصاية الدولية, كما أن هناك مخاوف من عواقب تدخل أطراف إقليمية مصالحها متعارضة مثل أوغندا والسودان, بما يعني أن يتحول الجنوب إلي ساحة للصراعات الإقليمية.

ورغم حدة الصراع وعنفه وماترتب عليه من أحقاد ومرارات وانعدام ثقة بين القيادات من الطرفين, ومسئولية هذه القيادات عما آلت إليه أوضاع الجنوب ليس فقط بصراعهما الأخير, وإنما بفشلهما في وضع اسس لبناء دولة وطنية يستطيع أن يتعايش فيها كل أبناء الجنوب بمختلف أعراقهم وقبائلهم وثقافاتهم واديانهم, وانشغالهم بدلا عن ذلك بالصراع علي السلطة والثروة, وهو الأمر الذي تتضح تفاصيله الآن بشكل أكبر,بينما ظلت الغالبية العظمي من ابناء الجنوب تعاني, وهو صراع غابت عنه قضية التنمية ومكافحة الفساد وقضايا المواطن الجنوبي الحقيقية لتحسين الصحة والتعليم والطرق وتوفير المياه النظيفة وسبل العيش الكريم. وفي الغالب قد تؤدي الوساطات والضغوط الدولية إلي حل ما يعيد الاستقرار للجنوب, لأن هذه الأطراف الدولية وعلي رأسها الولايات المتحدة مسئولة إلي حد كبيرعما يجري بالجنوب, وقد كانت تعتبر انفصاله أو استقلاله قصة نجاحها, وهناك انتقادات كثيرة الآن لعدم كفاية الضغوط الأمريكية لحل النزاع ومخاوف من عواقب إستطالة أمده. لكن هذا الحل الذي تسعي إليه القوي الدولية لتلفيقه للوصول إلي أي سلام لإبراء الذمة, سيبقي في حال التوصل هشا ومؤقتا ومعرضا للإنهيار مجددا في اية لحظة والعودة مجددا للصراع والنزاع والتدمير الذاتي, مالم يكن هناك عمل جاد لبناء مؤسسات الدولة في الجنوب علي أساس وطني وليس قبليا, وهذا الأمر يحتاج إلي قيادات ونخب تغلب مصلحة الوطن علي مصالحها الشخصية.

الاهرام

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..