في ذكرى ميلاده الثمانين ..الصَّادِق صَدَق وَأَعْطَى وّاتَّقَى وصَدَّقَ بِالْحُسْنَى( 3)

ما مر عام أو انقضت سنة في هذه الثمانين إلا وسما نجم صاحبنا رغم ما ذكرناه آنفا من مرارات وإحن، فزاده في تلك المسيرة وعد الله تعالى:( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)) (سورة الشرح)، وقول جده المأثور أن المزايا في طي البلايا، والمنن في طي المحن، والنعم في طي النقم، فكان حظه بعد العسر دوما يسرا، فقابله بتواضع جم دون من أو استكبار لأنه الصادق ذو الخلق النبيل والأخلاق الكريم وكأنه من قال فيه الحكيم:
إذا امتلأت كف اللئيم من الغنى *** تمايل كبرا ثم قال : أنا ، أنا
و لكن كريم الأصل كالغصن *** كلما تحمل أثقاﻻ تمايل و انثنى
نعم ظل صاحبنا الكريم ينثني على كل خلق الله دون تفضل أو رياء فجالس الأطفال والكبار، النساء والرجال، سامعا شكواهم، مخففا بلواهم، مقيلا عثراتهم إن استطاع إليها سبيلا، في هذه الثمانين لم يفارقه القلم، كاتبا رصينا وأديبا نحريرا وعالما نطاسا، انبرى وتجلد لمشروعه الفكري الذي وضع أولى لبناته منذ أمد بعيد وظل يغذي فكرته ويطورها بالاطلاع والاستماع، فسجل رقما قياسيا في عدد الكتب والمنشورات والمجلات والإصدارات التي اطلع عليها، حتى صارت ذخيرته المعرفية لا تضاهيها ذخيرة، ومعرفته كنوز انتفع بها كل من استمع إليه أو جالسه أو قرأ له، فتجد في مؤلفاته خلاصة النفائس من أمهات الكتب، وجميل الحكم من كتب الأدباء وروائع الشعر وقطعيات الأدلة من بين النصوص.

من أبدع ما رأيته عند صاحبنا أنه يشاور الناس حتى في أفكاره التي لم يؤلفها معه أحد فتجده يقبل النقد برحابة صدر دون ضجر أو ملل، فتجده يستشير الأدباء والمهتمين بالفكر والصحفيين والإعلاميين والأطباء وأهل الدين فيما يكتب، إلا أنه يتحمل مسؤوليته كاملة في كل فكرة كتبها أمام الله وأمام الناس ويعلن ذلك، وهذا على غير ما جرت عليه عادة كثير من المفكرين الذين لا يتحملون أخطاءهم الفكرية ويتخلون عنها في أقرب وقت ثبت فيه خطلها.

في ثمانينية صاحبنا نستذكر معه دروسا وعبرا خالدة صاغها بعد أكتور المجيدة، فقد كانت تلك الفترة من أخصب الفترات إذ اشرأبت اعناق ذلك الجيل “جيل الستينات” لحياة جديدة فكرا وعلما ومعرفة وأدبا وخلقا وثورة، فكان لصاحبنا الحظ الأوفر من الاهتمام من أبناء جيله حتى أن موجة أفكاره التجديدية طغت على تلك الأفكار التقليدية التي كانت تهيمن على سودان السلطنات، فقفز قفزة فكرية كبيرة مازج فيها بين الأصل والعصر، متخذا نهجا توفيقيا ظل راسخا حتى يومنا هذا، فطغت أفكاره واستحوذت على اهتمام أبناء ذلك الجيل الفذ، الذي صار أدباؤه يتقربون لصاحبنا أو يصبون نصالهم النقدية على ظهره فتكسرت فوق ظهره النصال فوق النصال ولكنه لم يرمش له جفن في سبيل مشروعه النهضوي ورسالته الفكرية والإنسانية.

كانت الأنواء تشتد عليه وتنال منه بيد أفراد وأنظمة ولكنه لم يفكر يوما في انتقام واثبات حجته بالقوة، اللهم إلا تلك المرة اليتيمة التي كانت في حياة الإمام الصديق قبل الثورة في 1964م يوم أن كان بأم درمان 7000 من شباب النظام وهي هيئة شبابية عالية التأهيل والتدريب والانضباط لو أشار لهم إمامهم بخوض البحر لخاضوه، فكان صاحبنا يريد أن يحيل بهم نهار الدكتاتوريات ليلا إلا أن الإمام الصديق رده بأني لا أريد أن ألقى الله ويدي ملطختان بالدماء، وهاهو صاحبنا يردد قول الإمام الصديق بأنه لا يريد أن يلقى الله ويداه ملطختان بالدماء.

كانت الثمانين معين الحكمة التي ورثها صاحبنا أبا عن جد، فلولا تلك الحكمة واقتراحه للرئيس عبود بالاستقالة عن طريق الفريق أول أحمد عبد الوهاب لسالت دماء السودانيين فيما بينهم، كما أنه لم يرو لنا أحد أن أكتوبر التي نحتفي بها كانت صناعة خالصة وتجربة سياسية ملهمة للحل السياسي الشامل، لأن صاحبنا لو أراد حلا ثنائيا لتفاوض مع العسكر يوما إلا أنه اقترح أن يدعى للتفاوض مع العسكر كل مكونات الأزمة السودانية وقتها، ولا زال إلى يومنا هذا يردد أنه يريد حلا سياسيا شاملا لا يستثتي أحد وكان بإمكانه إحكام قبضة شمولية ثنائية بالتحالف مع العسكر إلا أنه ظل مبدئا حتى على حساب حزبه تدفعه المسئولية التاريخية والبر الذي ذكرناه مسبقا.

في تلك الفترة من الثمانين الصادقة أنعم صاحبنا على حزب الأمة وكيان الأنصار بالتحديث المؤسساتي والدستوري وغيره من الوثبات التي بلغت أوجها في آخر برنامج حزبي شهده الحزب في العام 2009م، “فجر جديد لسودان عريض”، فمع صغر سن صاحبنا بالمقارنة مع رصفائه وقتئذ من الساسة إلا أنه قدم للكيان تلك الخدمة التي جعلته من كيان تقليدي موغل في الأبوية إلى كيان مؤسسي مواكب لمتطلبات العصر، ومن تلك اللحظة أستطيع القول أن تواجد عضوية حزب الأمة وازديادها في أوساط المثقفين والمستنيرين الذين كانت جل اهتماماتهم تنصب إما يمينا إخوانيا أو يسارا شيوعيا، كان ذلك التواجد والاستقطاب سببه أفكار صاحبنا التي قال عنها أعداؤه لاحقا أن سبب انتمائهم لحزب الأمة في تلك الفترة الأفكار المستنيرة التي أتى بها الصادق المهدي كما قال الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل، وبتتبع أميز النشطاء في حزب الأمة نجد أن لهم ارتباطا وثيقا بصاحبنا ودونكم الدكتور عمر نور الدائم الذي زامل صاحبنا إبان فترة دراسته في كلية الزراعة ظهر ذلك الانسجام والتشبع بأفكار صاحبنا مليا في سيرة الشهيد دكتور عمر إذ قال:( فالعلاقة بيني وبين السيد الصادق هي التي جعلت أن تكون عندي هذه العلاقات السياسية.. والعلاقة الأنصارية مربوطة.. لكن الغريب أن العلاقة السياسية غير مربوطة.. السيد الصادق كان عنده رغبة في العمل السياسي والعمل الفكري وأنا كطالب كانت عندي رغبة شديدة في السياسة).. إلى أن قال فالسيد صادق جزاه الله خيرا وضع أسس برنامج الآفاق الجديدة.

كل هذه الأشياء تجعل من التتبع لثمانين صاحبنا أمرا عصيا صعبا إذ أن فيه من الاشتباكات والشخوص والأسماء والمواقع والأزمنة ما لا حصر له ولا عد، ولكن محبتنا له تجعلنا نغوص ولو بقلمنا الأعرج هذا منقبين عن تلك المآثر التي يحتاجها جيلنا هذا الذي حجبت الشموليات أعينه عن قادة الوطن ومؤسسي الفكر الذي يحتفي بهم كل العالم وينكرهم خفافيش نظام الخرطوم، والواجب هو التصدي بقوة وحزم لأقلام الشمواليات ومدارس الاغتيالات التي أسستها لوضع الأمور في نصابها والسير في هذه السيرة بعين الحكمة والمحبة والإخلاص والتجرد.
يتبع…
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. سَئِمتُ تَكاليـــــــــــفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبــــــا لَكَ يَسـأَمِ
    وَأَعلَمُ عِلمَ اليَـــــــــومِ وَالأَمـــسِ قَبــلَهُ وَلَكِنَّني عَن عِلمِ ما في غَدٍ عَمـي
    وَمَن يَجعَلِ المَعروفَ مِن دونِ عِرضِهِ يَفِرهُ وَمَـــــن لا يَتَّقِ الشَتمَ يُشتـَمِ
    وَمَـــــن يَـــكُ ذا فَضلٍ فَيَبخَل بِفَضــــلِهِ عَلى قَومِهِ يُستَغـــــنَ عَنهُ وَيُذمـَمِ
    وَمَـــــن هابَ أَسبابَ المَنِيَّةِ يَلقَــــــــــها وَلَو رامَ أَسبابَ السَماءِ بِسُلــــــَّمِ
    وَمــــنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ فِــــي غَيـــــْرِ أَهْلِـهِ يَكُـــنْ حَمْدُهُ ذَماً عَلَيْهِ وَيَندَمِ
    وَمَـــــن يَغتَرِب يَحسِــــب عَدُوّاً صَديقَهُ وَمَــــــــن لا يُكَرِّم نَفسَهُ لا يُكَرَّمِ
    وَمَهمـــــا تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِـــــن خَليقَةٍ وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ

  2. زهير بن أبي سُلمى:

    سئمت تكاليف الحياة ومن يعـــــــــــش
    ثمانين حولاً، لا أبالك، يســــــــــــــأم !
    واعلم ما في اليوم، والأمس قبلـــــــــه
    ولكنني عن علم ما في غد عمــــــــي !
    رأيت المنايا خبط عشواء من تصـــــب
    تمته، ومن تخطئ يعمِّر فيهــــــــــــرم !
    ومن لا يصانع في أمور كثيــــــــــــــرة
    يضرِّس بأنياب، ويوطأ بمنســــــــــــــم
    ومن يجعل المعروف من دون عرضــــه
    يفره، ومن لا يتق الشتم يشتــــــــــــــم
    ومن يك ذا فضل، فيبخل بفضلــــــــــــه
    على قومه، يستغن عنه ويذمــــــــــــــم
    ومن يوف لا يذمم، ومن يهد قلبـــــــــه
    إلى مطمئن البر لا يتجمجـــــــــــــــــــم
    ومن ساب أسباب المنايا ينلنـــــــــــــه
    وإن يرق أسباب السماء بسلــــــــــــــم
    ومن يجعل المعروف في غير أهلــــــــه
    يكن حمده ذماً عليه، وينــــــــــــــــــدم
    ومن يعص أطراف الزجاج، فإنـــــــــــه
    يطيع العوالي ركبت كل لهـــــــــــــــــدم
    ومن لا يذد عن حوضه بســــلاحـــــــه
    يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلـــــــــــــم
    ومن يغترب يحسب عدواً صديقــــــــــه
    ومن لا يكرم نفسه لا يكـــــــــــــــــــرّم
    ومهما تكن عند امرئ من خليقـــــــــــة
    وإن خالها تخفي على الناس تعلــــــــــم
    وكائن ترى من صامت لك معجـــــــــب
    زيادته أو نقصه في التكلــــــــــــــــــــ م
    لسان الفتى نصف ونصف فــــــــــؤاده
    فلم يبقى إلا صورة اللحم والــــــــــــدم

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..