السودان ودبلوماسية القوة الذكية الأمريكية

السودان ودبلوماسية القوة الذكية الأمريكية

خالد الاعيسر*
[email protected]

وصلتني رسالة عبر البريد الإلكتروني من مسؤول رفيع بالخارجية الأمريكية مرفق معها بيان صادر عن مكتب المتحدث الرسمي يفيد بأن وزارة الخارجية الأمريكية ومكتب الدولة للشؤون التعليمية والثقافية والرابطة الوطنية لكرة السلة (NBA) تنوي إرسال مبعوثين لجمهورية جنوب السودان في الفترة من 22 الى 26 من تشرين الاول/أكتوبر الجاري، من بينهم وسام بيركنز أسطورة كرة السلة العالمية ونجم كرة السلة الزائيري الأصل المحترف بالولايات المتحدة ديكمبي موتومبو.
فكرة السفراء الرياضيين المبعوثين إنبثقت عن خلفية رؤية عمـيقة لوزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون عن الدبلوماسية اختارت لها اسم (القوة الذكية)، وذلك بغرض تفعيل عدد من الأدوات في خدمة الدبلوماسية بما في ذلك الرياضة بهدف تجميع المواطنين في دولة جنوب السودان الوليدة نحو مزيد من التفاهم والانسجام فيما بينهم، ومن جهة أخرى تعميق أواصر الصداقة الأمريكية والروابط مع دولة جنوب السودان الوليدة وصولاً لتحقيق المصالح المشتركة بين الدولتين.
السلوك الايجابي في مسيرة العلاقات بين أقوى دولة في العالم ‘أمريكا’ وأضعف دولة عرفتها البشرية ‘جمهورية جنوب السودان’ على أقل تقدير حتى يومنا هذا، مقارنة بعلاقات الدولة الكبرى مع جمهورية السودان ‘وهي أول دولة في جنوب الصحراء تنال استقلالها’ يحمل كثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام والاستغراب.
أمريكا فعلت وستظل تفعل كل ما في وسعها حتى يتسنى لدولة الجنوب الوليدة تجاوز عقبات الفشل ومواجهة التحديات والاخطار المحدقة بها من كل الجوانب، وما الحضور الأمريكي المكثف في دولة جنوب السودان إلا خير دليل على هذه الرغبة الأمريكية في مساعدة دولة جنوب السودان على البقاء وتجاوز المطبات.
أمريكا تعلم ماتريده جيداً من دولة جنوب السودان، لأنها دولة يسيّر دولابها وفق خطط وبرامج مدروسة ومعلومة القاسم المشترك فيها المصلحة ولا شيء سواها، فهي ‘أي أمريكا’ تريد أن تستفيد حتى من طول قامات الجنوبيين وبنيتهم الجسمانية القوية للعب في دوري الرابطة الوطنية لكرة السلة، ناهيك عن استغلال إمكاناتهم الاقتصادية النفطية ومواردهم الطبيعية الكامنة.
إن ما يحدث مع دولة الجنوب يتيح القول أن أمريكا كانت ولاتزال تخطط لبناء علاقات جيدة مع دولة السودان الشمالي، لكن سلسلة من العقبات الاستراتيجية وانفعالات بعض القادة السياسيين وخلافاتهم فيما بينهم والتي بلغت حد القطيعة اعترضت سبيل هذه العلاقة، أذكر جيداً في شهر آذار/مارس 2008م وخلال انعقاد أعمال ملتقى العلاقات السودانية الأوروبية في الخرطوم التقيت والزميل الدكتور محمد قواص المدير التنفيذي لقناة أي أن بي البريطانية بالسفير الأمريكي آنذاك ألبرتو فرنانديز ‘مفجر تسريبات ويكيليكس عن السودان’، الذي ذكر بعد تسجيلنا معه حواراً تلفزيونيا لقناة أي أن بي (anb) أن السودان لو توحد واستقر سيكون دولة أشبه من حيث القدرات والامكانات بكندا واستراليا والبرازيل وأن أمريكا ترى فيه دولة واعدة وترغب جادة في خلق شراكات اقتصادية ومالية معه ليجني ثمارها الشعب في البلدين.
فرنانديز طلب منا عدم النشر آنذاك، اليوم أجد بدّا للبوح ببعض ما قاله الرجل بعد أن أخرج هو كل ما في جرابه من اسرار لويكيليكس، ‘فهذه بتلك يا فرنانديز ولكن قصدنا شريف’.
أمريكا ترى في السودان أنه الدولة الأهم أفريقياً، هذا ماقالته لي السيدة كاثرين فان دي فيت في حوار أخر مع قناة الشروق الفضائية السودانية في أيار/مايو الماضي وأضافت أن البيت الأبيض يفرد اجتماعاً اسبوعياً للتدوال حول قضايا السودان.
أمريكا لا ترغب في تعميق علاقاتها بدولة جنوب السودان على أنقاض علاقاتها مع دولة الشمال، والشاهد أنها افتتحت في السودان أكبر سفارة لها في أفريقيا بغية أن تجعل منها مركزاً مهماً للدبلوماسية الأمريكية في المنطقة، والسفارة الأمريكية في السودان تعد كذلك المقر الثاني في العالم من حيث التجهيزات التقنية بعد سفارة واشنطن في المنطقة الخضراء ببغداد.
آخر دلالات التعبير عن حسن النوايا ودبلوماسية ‘القوة الذكية’ الأمريكية، القرار الذي صدر مؤخراً من الادراة الأمريكية بتخفيف العقوبات التجارية التي تفرضها على السودان منذ العام 1997 وزيادة المساعدات للسودان كحوافز لتهدئة الأوضاع الأمنية في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. وقد يكون من المفيد أن تفعّل الحكومة السودانية من دواعي الاستفادة من هذه الروح الأمريكية التصالحية الايجابية وأن تفكر بعقلانية وواقعية لتعزيز الثقة لآجل تحقيق مكاسب على الصعيد السياسي والاقتصادي والأمني تلبية لحاجات الوطن الملحة، لاسيما وأن أمريكا قد ابدت موقفاً متشدداً مع حكومة دولة جنوب السودان خلال زيارة الرئيس سلفاكير ميارديت الأخيرة للولايات المتحدة لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. حيث دعاه الرئيس باراك أوباما صراحة لايقاف دعم حكومته للتمرد في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق لعلم أمريكا يقيناً أنه لا دولة في الجنوب بانعدام الأمن في دولة الشمال.
وعندئذٍ سيكون للسودان القدر الأكبر من الاهتمام الذي تناله اليوم دولة جنوب السودان الوليدة.

* صحافي سوداني مقيم ببريطانيا
القدس العربي اللندنية

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..