حزبان كبيران من اليسار واليمين نسجاً على المنوال الأمريكي؟.. ربّما

الخرطوم – يوسف حمد
ربّما كان أصعب شيء يواجه الوطني هذه الأيام، هو معالجة صدمة التوقعات الناجمة عن خطابه الأخير.. فقد شاع على نحو مرسل الأسبوع الماضي أنّ الرئيس بصدد إعلان “وثيقة سياسية” تتضمن “تغييرا سياسيا” في شكل الحكم ونمطه. صحيح، أن الرئيس حشد لخطابه قادة سياسيين معتبرين، أمثال الدكتور حسن الترابي الذي ظهر لأول مرة في لقاء يجمعه إلى البشير منذ المفاصلة في 1999، وكذلك حشد الصادق المهدي والدكتور منصور خالد وغير أولئك. لكن، على المرء المشتغل بالسياسة أن يتذكر مقاطعة الشيوعيين والبعثيين المبكرة لخطاب البشير، وأن يقر بأنها ليست تكتيكاً سياسياً ينقضي بانقضاء زمانه. فبالنسبة لماهية الشخصيات التي حضرت خطاب الرئيس؛ فقد كانت تمثل اصطفافاً يمينياً محضاً، أعاد إلى السطح تمايزاً بين اليمين واليسار، وهو تمايز موجود تاريخياً في المشهد السياسي السوداني، وينشط باستمرار، في إطار الصراع حول بناء الدولة السودانية، أكثر من كونه صراعاً حول السلطة.
وربّما ظهر هذا الاصطفاف، عشيّة الاثنين، بفعل الصدفة السياسية. لكن، ذات الصدفة السياسية قد تصلح مثالاً للحظة “وجدتها” النيوتية، التي تفسر ما انبهم عشية الاثنين.
نقل إليّ مصدر موثوق ينتمي إلى حزب غازي صلاح الدين، في وقت سابق، أنّ الزعيم الدكتور حسن الترابي، طلب إلى الدكتور غازي، في اجتماع خاص، إعداد وثيقة توافقية، لتكون بمثابة ركيزة لعمل جبهوي يجمع كلا من حزبي غازي والترابي إلى حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي. باعتبارها أحزاباً ذات حواضن ثقافية إسلامية متشابهة. وزاد المصدر ليكشف عن “رغبة كل من غازي والترابي في اقتحام الانتخابات المقبلة كجبهة، بدلاً عن خوضها منفردين، كل على حدا”.
وعلينا أن نتذكر أن المهدي قدم في انتخابات 1986 برنامج نهج الصحوة، ويرتكز على “… الإسلام عقيدة ومنهجا”، وأن يكون “التشريع الإسلامي” للدولة قائما على” النصوص الثابتة في الكتاب والسنة، وعلى اجتهاد جديد مؤهل، ومستنير باجتهادات السلف ومتجاوزاً لها في آن”. وأشار المهدي في تصريح لاحق إلى أنه “يقود حزباً أكثر رديكالية من غيره”. ويعني بذلك القدرة على الانفكاك من أسر قبضة الماضي.
وفي بحْر الأسبوع الذي سبق “خطاب” الرئيس البشير، ارتفع سقف التوقعات المتكهنة بفحواه، وانتظر الرأي العام مفاجأة، من المفترض أن يتضمنها الخطاب. لكنه، بحسب كثيرين؛ فاجأهم بأنه لم يفاجئهم، وبهذا كسب قطاع مقدر من المواطنين المحبطين رهان التوقعات. وكانوا قد ذهبوا في وقت مبكر إلى خفض سقف أحلامهم من الخطوة.
والواقع أن الوطني أعاد، شعارات قديمة، زينها هذه المرة ببلاغة لغوية. وعلى المراقبين، لمعرفة قدم الخطاب، أن يجتهدوا في إحصاء عدد المرات التي تكررت فيها هذه المفردات والجمل على مدار سنوات: “نبذ العنف في الخلافات السياسية… سعي الحكومة لتحقيق السلام العادل.. دعوة الحركات المتمردة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق إلى السلام.. التوافق حول دستور دائم للبلاد”. فيما راوحت تقديرات آخرين أنّ بلاغة الخطاب أقصت عددا مقدراً من الجمهور المستهدف.
حسناً.. الكتابات والسجالات التي تمددت أعقاب أمسية الاثنين راوحت كثير منها القول بأنّه، وعلى الرغم من بلاغة الخطاب المقصودة، إلا أنه غير واضح المضامين السياسية لدى طائفة من المهتمين بالشأن السياسي، مما يُصعِّب من وصفه بأنه “وثبة وطنية شاملة” أو “مبادئ عامة للحوار والحجاج والنقاش.. في الأزمة السودانية “مع الناس، كل الناس”، كما ذهبت عبارات الخطاب إلى ذلك أكثر من مرة. وهذا الغموض هو الذي يقود المراقبون إلى تكهنات مفتوحة.
والحال كذلك، فبالطبع سيجد الشيوعيون والبعثيون وحركة حق الذين قاطعوا الخطاب ما يلومونه في حاضر اللحظة السياسية، مثلما وجد الكاتب الشيوعي، كمال الجزولي، أسباباً موضوعية لنقد تجربة تحالف قوى الإجماع الوطني المعارض، الذي يضم أحزاباً يمينية. كتب الجزولي في مقال شهير: “… يصحُّ القول بأن أحد وجوه أزمتنا الرَّاهنة إنما يتمثَّل في (تحالف الإجماع) هذا، حيث بتنا نحتاج إلى قرار شجاع بفضِّه، والبحث عن تحالفات أخرى تستجيب لمقتضيات التَّغيير….” ولم يزد كمال في شرح ماهية التحالف المرتقب. بل زاد لاحقاً بملاسنات خشنة مع ممثل حزب الترابي في تحالف قوى الإجماع المعارض، كمال عمر عبد السلام، لكون الجزولي قدّم، في ندوة عقدت مؤخراً، نقداً لاذعاً لأداء الترابي السياسي. لكن رئيس اللجنة التنفيذية لتحالف قوى المعارضة فاروق أبو عيسى كشف أمس الأوّل عن انخراط قوى التحالف في تنسيق واسع مع الجبهة الثورية المتمردة والحركات المسلحة الأخرى.
وواحدة من الأفكار السياسية التي انشغل بها الوطني لعدة سنوات، هي دمج الأحزاب ذات الصبغة الإسلامية في حزب واحد، وسبق له أن اقترح، في وقت سابق من العام 2011، دمج حزب المؤتمر الوطني مع حزب الأمة القومي، بزعامة الصادق المهدي، والاتحادي الديمقراطي، بزعامة محمد عثمان الميرغني، في حزب واحد، يسمى “حزب الأمة الاتحادي الوطني”. وقد عبّر البشير، أخيرا، في مؤتمر صحفي عقده في سبتمبر من العام الماضي عن فكرته تلك بقوله إنه “لا يرى فوارق بين حزبه وحزبي الأمة والاتحادي” لكونها ذات توجهات إسلامية. والواقع أن الرغبة ووجهت بإهمال صريح وقتها. ومع ذلك، وبطريقة ما هذه المرة، فإنه يبدو أن أمراً ما يسير بصورة معقولة في هذا الاتجاه: حزبان كبيران، من اليسار واليمين. نسجاً على منوال الحياة السياسية في أميركا، التي يسيطر عليها الحزبان: الجمهوري والديمقراطي، منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر
اليوم التالي
ياخي ديل خلوهم يشوفليهم مصحف يقروهو