من مشروع حضاري إلى كسور وبواقي

ياسين حسن ياسين

استهلت حكومة الأخوان المسلمين عهدها قبل نحو ربع قرن بدعوى اعتزامها تحقيق مشروع حضاري إسلامي ينتظم بلد المليون ميل مربع، وكانت تلك وقتها مساحة «السودان عبر القرون» كما أخبرنا بذلك الثقات من أساطين الجغرافيا والتاريخ. بل إن الإنقاذ أغرقت في الخيال لتدعي أن مشروعها الحضاري سوف تمتد ظلاله ليشمل آخرين من طريق قوة جاذبيته ونجاعة نتائجه وحكمة تدبره لشؤون البلاد والعباد ناهيك عن حصافة مرتكزاته الفكرية. كان ذلك كذباً ومخاتلة إذ تزامنت تلك الدعوة مع برنامج واسع لتمكين عضوية الأخوان المسلمين للاستيلاء على المناصب العامة دون أدنى اعتبار للكفاية والأهلية. هكذا وضعت بين أيديهم موارد هائلة دون رقيب، ولم يكن أمامهم إلاّ أن يعبّوا منها دون حياء أو وجل أو وخز ضمير، في وقت انهيت فيه خدمات آلاف الشرفاء والأكفاء وطردوا وشردوا من ديارهم.

تزامن ذلك أيضاً مع ارتفاع نبرة القبلية وتصاعد وتيرة الحرب العوان في جنوب السودان لإعادته مرغماً إلى حظيرة الملة المسلمة. إذ جُيشت الجيوش وضربت طبول الحرب مدوية واستنفر الشباب واستجديت مشاعر جميع السودانيين من خلال برامج تلفزيونية قميئة صبغت أهلنا في الجنوب بصبغة المشركين الذين «لاَ يرقبون في مؤمنٍ إِلاًّ ولا ذِمَّة». وشاركنا جميعاً، بهذا القدر أو ذاك، في عداء بغير مسوغ ضد بعضنا بعضاً: مطربون صدحوا بأغانٍ حماسية تلهب المشاعر، ومستمعون استخفهم الطرب، وشباب استهوته غضاضة السن وأخذته العزة بالإثم، وأخوان مسلمون خططوا في أناة، ومجتمع مدني تواطأ بالصمت والسلبية واللامبالاة وأحزاب معارضة أُخذت على حين غرة. وكانت محصلة ذلك انفصال الجنوب جزاء وفاقاً لحرب التقتيل والكراهية والبغضاء التي شنت علي مواطنيه كما لو أنهم من بلد في كوكب غير الأرض. المحلل للأمر، وإن بأثر رجعي، يلاحظ أن أسباب ودوافع الحرب من طرف الجنوبيين لم تكن سوى أصداء حديثة لثورة اللواء الأبيض في 1924 التي دعت إلى بلد قومي مبرأ من القبلية في مخالفة صريحة لسياسة المستعمر البريطاني آنذاك والذي كان يستهدف إقامة سودان قبلي بنظام طبقات وتمييز عرقي يدعمه زعماء العشائر وقادة الطوائف الدينية ويؤازرونه أنجع مؤازرة. وهو ما نجح فيه المستعمر في حينه، أي سنة 1924 وما تلاها من سني حكمه للسودان حتى منتصف القرن الماضي. لكن وللأسف ظلت القبلية خابوراً متيناً دخل عميقاً «جالوص» السياسة السودانية ذي الهشاشة والأيلولة إلى التداعي.

ثم أعقب ذلك اندلاع الحرب في دارفور في فبراير 2003م، وتمخض عنها مصرع ثلثمائة ألف شخص ونزوح مليونين وسبعمائة ألف، حسب تقرير تقصي الحقائق الذي ارتكزت عليه الأمم المتحدة في اصدار قرار تستدعي بمقتضاه الرئيس السوداني وآخرين للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية. وأضرمت نيران فتنة قبلية لم تبق ولم تذر، فمزقت أهل دارفور شر ممزق. فمن منا كان يتخيل أن إنسان دارفور ? ذلك الكريم الأبي الذي تظهر محبته للسلام في مودته الغامرة تجاه الآخر ? سوف ينزلق إلى حمأة قتال أهلي بهذا المستوى من الشراسة؟

في الجملة والتفصيل، انطوى الأمر على تناقض صريح، إذ يستحيل بناء حضارة أياً كان مبلغ رقيها على الإقصاء والتهميش والعنصرية والفساد وانتهاك حقوق الإنسان، وهي خلطة لشد ما طفح منها كيل السودانيين الذين باتوا يتجرعون غصصها في صيغة معيشة صعبة وأفق مستقبل مظلم مسدود. فعن أية حضارة كانوا إذن يتحدثون؟

في تحديده للإطار النظري لمفهوم الحضارة، يشير المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت، في مؤلفه ذائع الصيت «قصة الحضارة»، إلى أن الحضارة تتألف من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، والنهوض بالعلوم والفنون. ويُلفت نظرنا، في هذا الصدد، إلى دواعي توفر بيئة مواتية تتيح تبادل السلع والأفكار عندما «تتلاقى طرق التجارة فتتلاقح العقول، ويرهف الذكاء وتُستثار فيه قوته على الخلق والإبداع».

لا غرو أن نلاحظ أن الحضارات القديمة، في غالبها الأعم إن لم تكن جميعها بلا استثناء، قد نشأت في موانيء تتقاطع طرقاتها وتزخر سواحلها بتيارات الأفكار العاتية. هكذا كان الحال في حضارات بابل والصين واليابان واليونان والرومان، وحتى الحضارة العربية الإسلامية في أوج ازدهارها شهدت إقامة منابر النقاش داخل المساجد وجرت المساجلات الفكرية المحتدة حول كبريات الأمور؛ بل كان يؤم هذه المنابر ومن داخل المساجد كل من المسلم والمسيحي والصابيء واليهودي، مثلما هو الحال في العصر العباسي الأول إذ تتاح الحرية العقلية للجميع، «وكأنما أصبح سلطان العقل فوق سلطان الدين» – على حد تعبير شوقي ضيف في دراسته المستفيضة للعصر العباسي الأول. بل إن المسلمين أنفسهم تفرقوا إلى مذاهب وطرائق شتى، من بينهم القدرية والصفاتية والمعتزلة والشيعة والمانوية والمزدكية وما شئت من مسميات. وقد اُخضع كل شأن من شؤون حياتهم للنقاش ولأحكام العقل والمنطق. وكان ذلك عصر تنوير فكري ونهضة اقتصادية واجتماعية، لعل من أبرز شواهده إنشاء دار الحكمة في 830م كمجمع علمي ومرصد فلكي ومكتبة عامة شرعت في أضخم عملية للترجمة والتأليف والتفاعل الثقافي مع الحضارات اليونانية والفارسية والهندية. وشاهد آخر هو ما تمتليء به كتب الأدب العربي، وعلى رأسها الأغاني لإبي الفرج الأصفهاني، من عطايا سخية اُغدقت على الشعراء والمغنين والكتاب والمفكرين، وتمخضت عن أوسع عملية إبداعية يشهدها التاريخ العربي الإسلامي، في ظني المتواضع.

كذلك حال الحضارة الأمريكية بسمتها الراهن حيث تتعدد الجنسيات وتتباين الثقافات وتختلف الألوان والسحن لكن ضمن أطر رحيبة من الحرية وسعة الصدر وقبول الآخر، هذا إن أغضينا النظر عن الظلم سياسياً كان أم اقتصادياً أم اجتماعياً، وسواء داخل المجتمع الأمريكي أو فيما بينه والشعوب الأخرى. فتلك بالقطع قصة أخرى.

أما إذا احتكمنا إلى عناصر الحضارة الأربعة (موارد اقتصادية، ونظم سياسية، وتقاليد خلقية، ونهضة للعلوم والفنون) فما هي حصيلة هذه الفترة الضائعة من عمرنا وعمر الأجيال المقبلة؟ على حد تعبير الرئيس السوداني عقب اندلاع المظاهرات في سبتمبر 2013م إثر قرار الحكومة رفع الدعم عن المحروقات، فإن «الاجراءات الاقتصادية الأخيرة جاءت لتفادي انهيار الاقتصاد بعد زيادة التضخم واختلال سعر الصرف حيث تأثر الاقتصاد سلبا عقب انفصال الجنوب وخروج البترول من الموازنة». وكان قبل ذلك، في مؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه عن حزمة اجراءات رفع الدعم عن المحروقات قد تناول بالتحليل مشكلة الاقتصاد مشيراً إلى كونها تتمثل في أننا «نستهلك أكثر مما ننتج، ونستورد أكثر مما نصدر». هكذا فإن شعار: «نأكل مما نزرع…» في مطلع تسعينات القرن الماضي قد ذهب ادراج الرياح. ولم يعد يوجد اقتصاد يستحق أن تدفع من أجله مخصصات وزير وطاقمه، ناهيك عن المؤتمرات والوفود التي تغدو وتعود دون نفع يرتجيه المواطن الغلبان.

يدرك السودانيون في مجملهم حجم الأزمة الاقتصادية وفداحتها، سواء كانوا من الذين يكابدون المعاناة اليومية في الداخل أم من هم في بلدان المهجر. الذين يعيشون في الداخل أصبحوا مثل حبات السمسم فوق مقلاة ساخنة.. خرج منهم الزيت، بيد أن ذلك لم يزدهم إلاّ صلابة وشمم. يستثنى منهم بالطبع أهل الإنقاذ، والطفيليين الذين يقتاتون من موائدهم الدسمة، وأولئك الذين باعوا ضمائرهم بثمن بخس، فهؤلاء يمشون بين الناس وتبدو عليهم سيماء الوجاهة في بطون منبعجة ومراكب فارهة ومساكن مكسوة بأفخر أنواع الرخام والفسيساء.

قد ترتفع صيحات الذائدين عن حياض مصالحهم الذاتية بأن الإنقاذ تتعرض لتحديات أقلها المقاطعة الاقتصادية والمؤامرات التي تحاك ضدها ليل نهار. لكن، من حقنا أن نسأل هؤلاء: هل يوجد على ظهر هذه البسيطة إنسان أو دولة أو حتى حجر دون أن تحدق به وبها التحديات من كل صوب؟ فمتى خلا التاريخ من دسائس ومؤامرات؟ وبالرغم من ذلك تظل قيمة الحياة، ومتعتها أيضاً، تكمن في مواجهة التحديات ببصيرة نافذة وعقل مفتوح ومشاركة الجميع في جو من الحرية، وتوسيع نطاق الفرص المتاحة ثم الخروج بدروس للمستقبل، فضلاً عن الحنكة التي يفترض توفرها في ربان سفينة بحجم بلد كالسودان، تتعدد أعراقه وتتباين ثقافاته إلى أبعد الحدود.

أما غياب النظم السياسية التي تؤهل الحاكم لقبول المحكومين وتمنحه مشروعية أن يحكم بجدارة فهي أيضاً غائباً. ولعل الحديث عن «انتخابات الخج» الأخيرة لا يترك زيادة لمستزيد. ثم إن مشروعية الحكم إذا لم تتضح في مشاركة الجميع في الشأن العام وعلى قدم المساواة، فما جدواها؟ ولعل الإنقاذ تدرك ادراكاً تاماً أن التدهور الذي حاق بالسودان كان بشكل رئيس ناجما من منظومة التمكين والإقصاء والتهميش والقبلية والتي جرتنا إلى حروب أهلية طاحنة وأدخلتنا دوامة الفساد والاقتصاد الريعي من قبل أن توجد موارد على نحو مستدام.

فيما يتعلق بالعنصرين الأخيرين في نشأة الحضارة، وهما التقاليد الخلقية ونهضة العلوم والفنون، يمكننا الاطلاع على تقرير التنمية البشرية لسنة 2013 الصادر من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وقد احتفى أيما احتفاء بنهضة الجنوب، مركزاً على وجه التحديد على التطور الذي أحرزته كل من الصين والهند والبرازيل إذ استطاعت بفضل جهودها أن تخفض معدل الفقر العالمي من 43٪ في 1990 إلى 22٪ في 2008م. ومن السمات المميزة في نمط التنمية لهذه الدول وجود تنمية واسع النطاق تشمل تطور حقيقي في التعليم والصحة والنقل والاتصالات وفي المشاركة الشعبية في إدارة دفة الأمور. ومن بين السمات المميزة لهذه التنمية أيضاً التوسع الهائل في حجم الطبقة الوسطى من حيث العدد والدخل والتوقعات. وهنالك أيضاً سياسات تنموية عملية، وعلى سبيل المثال اتضح أن ما لا يقل عن 40٪ من الأنظمة الوطنية في الصين كانت توضع على أساس تجريبي لتأتي نسخها التالية أكثر مواءمة للمتغيرات التنموية.

على هذه الخلفية من عناصر التنمية السليمة، ليس بغريب أن يحتل السودان موقعه المتوقع في أسفل مراتب الدول عالمياً إذ كان ترتيبه 171 من 186 دولة تتصدرها النرويج واستراليا والولايات المتحدة وهولندا وألمانيا. فقد كان أداء السودان ضعيفاً في العدل الاجتماعي والرضا عن حرية الاختيار والرضا عن العمل والثقة في الآخرين والثقة في الحكومة الوطنية وحدوث ارتفاع لمعدل حالات الانتحار.

والآن في ظل شعار الوثبة الأخير الذي أطلقته الإنقاذ لتلهي به الناس ريثما تستتب لها الأمور ولعلها تستطيع بذلك أن تستغفل الشعب وتصرفه عن ضغط المعيشة وضرورة الخروج إلى الشارع، قد يسأل سائل، كم عدد الوثبات في المشروع الحضاري؟ ولنفترض أنها عشر وثبات، ونكون بذلك قد رضينا بعشر ما وعدت به الإنقاذ في مستهل حكمها. ويحدونا الأمل بأن تصدق الإنقاذ في وعدها وإن بمجرد كسور وبواقي. لعلها!
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. فلتكن لنا عبرة فة ماتوصل اليه التونسيين واليمنيين ياأهل الانقاذ انظروا لما حولكم انقذوا أنفسكم ومن ثم تنقذون بلدكم السودان . التاريخ يسجل لكم أوعليكم السودان فى حاجة ماسة لقرار حكيم يعيد البسمة لهذا الشعب الذى صبر طويلا .

  2. ألا يقرأ هؤلاء الحكام العميان .. ما يكتبه مثقفي السودان .. في الداخل والخارج
    ما الذي ينتظرونه ؟!.. والتاريخ يسجل وسيدخلهم او هو ادخلهم مداخل النيران بما جلبوه علي شعب السودن ؟أي موقف حرج أكثر من موقفكم ياحكام السودان ولم يبق لكم فيه غير العداء وتندر الحبان .. ظلمتم انفسكم وظلمتم اهل السودان ..بادعاءكم الكاذب بأنكم اسلاميين واخوان ..وما انتم كذلك بل افعالكم افعال اخوان الشيطان وسترون الي اين يقودكم وسوف لاينفعكم بعد ذلك اعتذار او نسيان ..لما فعلتموه بشعب السودان الذي يستحق التكريم علي صبره ولستم من يدينو بالعرفان فانتظروا وننتظر حكم الديان .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..