تأملات في رواية “مسيح دارفور” للكاتب: عبد العزيز بركة ساكن

عادل عمر عامر
“يبدو أنّ مصائرهما قد ارتبطت ببعضها البعض رباطاً لا فكاك منه، وليست هي الصدفة وحدها، ولكنهما في أحيان كثيرة كانا يسعيان لذلك، قد التقيا في المرة الأولى بتخطيط من القدر، و عملت أياد نجسة- وسمياها فيما بعد شيطانية- كثيرة في جعل ذلك اللقاء مؤلماً و نهائياً.”
هكذا ربط المؤلف بين مصير إبراهيم خضر ابراهيم و شيكيرى توتو كوة.
إبراهيم خضر هو من وصفه المؤلف بـ: “حكي له كيف أصبح جمهورياً في اليوم ذاته الذي ذهب فيه للضحك و الشماتة على الجمهوريين في سجن كوبر، يوم إعدام ما يسميه او يرمز اليه ابراهيم بالأستاذ، في 18 يناير 1985 الساعة العاشرة صباحاً، برفقة كثيرٍ من المستهترين و الجبهجية، قال له بصدق تام، عندما اعتلى الأستاذ منصة المشنقة، بمجرد النظر اليه- وقد تجنب الجميع أن تلتقي أعينهم بعينيه- عرفت انه على حق، و اننا جميعا ليسوا سِوى القتلة. فلم يعدمة القُضاةُ ونميرى وحدهما، ولكنا أيضا الذين لم نبذل جهد المُقِل في توقيفهم، قتلناه أكثر. لقد كان جميلاً، شجاعاً، نبياً، قديساً وانساناً لا شبيه له، وهو يرفع رأسه في سُلطة مُطلقةً. أحسستُ في تلك اللحظة أنه كان بإمكانه أن يحوّل تلك المِشْنَقَة إلى عرش عظيم ويُتوج نفسهَ ملكاً أسطورياً ونهائياً لهذا العالم، إذا أراد. ولكنه كان يُريدُ أن يبقى هنالك، لوقت أكثر، وقتٍ يُمّكنُ جلاديه من أداء واجبهم التأريخي، مثل ذلك الوقت الذكي الذي تكرّم به السيّدُ المسيحُ بين أيدي بعض الغوغاء المتعطشين للدم الأنقى.”
وشكيري توتو كوة هو إنسان بسيط من دارفور تقلبت به الظروف بين أماكن مختلفة في السودان حتى أعادته إلى دارفور وإلى عمته خريفية مجنداً في الخدمة الوطنية حيث يلتقي هناك مع إبراهيم خضر مجندين في الخدمة الإلزامية في حملات النظام التي لا تكل على معارضيها.
“يؤرخان للقائهما الحقيقي باليوم الذي اختيرا فيه عشوائياً من قبل أيدٍ ما، للعمل ضمن وحدة الأستخبارات الخاصة بالكتيبة التي أُدغما فيها، وعندما شاهدا بعضهما البعض تذكرا ذلك اليوم جيدا، الذي تم صيدهما فيه على مشارف مدينة الخرطوم.”
إبراهيم خضر اقترب من الفكرة الجمهورية يوم 18 يناير 1985 لا يحمل ذكريات الحركة الجمهورية التي عمت السودان وطافت بمدنه وقراه ولم تكتحل عيناه بالأستاذ محمود إلا وهو على أعتاب المشنقة يمثل جيلاً مختلفاً من الذين قاربوا الفكرة الجمهورية.
إذا نظرنا إلى تفاعله مع الفكرة فاننا نجده يحمل قناعة نظرية لا يدري كيف يمارسها عملياً ولكنها على الأقل تهديه إلى الابتعاد عن العنف والتطرف الذي يجد صديقه شكيري نفسه قد تورط فيه بعد علاقته بـ “عبد الرحمن” تلك الفتاة ذات الاسم الذكوري التي وجدها عند عمته خريفية. هذه القناعة النظرية لا تجنبه من أن يقاد إلى الحرب الأهلية في دارفور حيث لم يكن له إلا أن يبدي مقاومة سلبية لا يشارك في القتال مشاركة فعلية ويتجنب أفعال العنف التي يجد الناس أنفسهم فيها في الحرب ولكننا نشعر أنه يعاني من أزمة ما بين القول والفعل ، والفكر والعمل.
هذه الأزمة تجعله يستسلم للأقدار تنقله من مكان إلى آخر يتعرض فيها إلى الأخطار والأسر والاستغلال ومحاولة قادته أن يستغلوا معرفته لكي يستبين لهم بعض ما يريدون أن يعرفونه عن “عيسى ود مريم” أو مسيح دارفور الذي ظهر في تلك الجهات “يبشر بالكلمة”.
إبراهيم خضر يجد نفسه قريباً من ذلك الرجل دون أن يدين له أو يدينه فهو كما قال المؤلف يقاربه حسب “الحرية لنا ولسوانا” ولكننا نجد أن البيئة قليلاً قليلاً تتجاوب مع ذلك الرجل وينضم إليه حتى أولئك الجنود الذين أمروا بأن يعدوا له الصليب بأعداد كبيرة والنجارين الذين يعملون في ذلك العمل والأهالي في الجبال المحيطة وبعض الجنجويد الذين يقول لهم مسيح دارفور: “الحق أقول لكم: لا يدخل الجنجويد ملكوت الله حتى يدخل الجمل في سم الخياط.”
وقليلاً قليلاً نجد أن إبراهيم خضر وشكيري توتو كوة يحملان صليبيهما مع بقية المجموعة التي كانت حول مسيح دارفور إلى الجبال المحيطة وهما يشعران كما أن كل أحمالهما الثقيلة قد حطت عنهما ما عدا حمولة ذلك الصليب وهذا شعور كل المجموعة المحيطة بهما.
هل يبشر النص هنا بضوء في نهاية النفق المظلم حين يحمل كل المحيطين بـ “عيسى ود مريم” صلبانهم على ظهورهم ويهاجرون من جو الحرب والعنف والظلم إلى مكان يجدون فيه أنفسهم؟ وما علاقة ذلك بالفكرة الجمهورية التي نجد النص يشير إليها.
مسيح دارفور ذلك الشخص الغريب الذي يردد “طوبى لمن لم يؤمن بي” كأنه يؤكد مسئولية الايمان به ويقول أن محبته تسبب الألم ، هل هو إشارة إلى طريق الآلام طريق الأنبياء والدعاة والمفكرين الذي علينا أن نسلكه في طريقنا إلى الضوء في نهاية النفق المظلم.
أرجو أن يتاح لنا ولكثيرين دراسة هذه الرواية بتمعن لأن الأدب دائماً هو رائد الفكر وقائد الشعوب لأنه ينطلق من منطقة الشعور ويستبصر القادم.
[email][email protected][/email]
لا تستهزئوا بالدين وتتلاعبوا بالالفاظ انتبهوا فهذا ما اهلك القرون السابقة
عادل عمر
روايات عبد العزيز بركة ساكن تذكرني بكتابات أحمد زين العابدين وزهاء الطاهر .. فهو وهما يمتحان من مياه غرب السودان القليلة والثمينة وظلالها على الأرض وهم يحاورون الظلال والهامش أكثر من المركز .. تلك الظلال التي تحمل معها ملامح التهميش وسنوات القهر والذي اضطرت فيه بعض هذه الفئات إلى أن تعلق على حافة المدن بكل ما يمثله ذلك من مهانة. يتحدثون عن المسكوت عنه : عن بقايا الرقيق وبيوت الديم ورواكيب القش وعشش المتعة العابرة بلسان جرئ فصيح لم تلجمه اللكنة ولم تسكته الرهبة. هذا الهامش الذي يتقاطع مع جنوب السودان (القديم). هذه العين الفاحصة الشجاعة هي التي أمدتهم بنور يمشون به في طريق الرواية السودانية الذي كاد أن ينغلق بعد روايات الطيب صالح وهو الذي لمس الجروح .. جروح النفس السودانية وهي تقارب المستعمر والحضارة الغربية حيث كانت هي أيضاً هامشاً لمركز الحضارة العالمية التي تقودها الجزيرة الانجليزية .. هامش داخله هوامش من الريف الذي بدأ يتطلع لحياة المدينة .. ومن بقايا الرق القديم الذي أشار إليه الطيب صالح إشارة خفيفة وهامش الغريب الذي عاشه مصطفى سعيد داخل القرية بعد أن قاسى من المدنية الغربية ولفظها ولفظته.
حوار المركز والهامش يلقي بظلاله الكثيفة على كل من هؤلاء الروائيين السودانيين.
بقي حوار الفكرة الجمهورية مع المركز أي الفكر الرسمي والسائد الذي يحاول أن يهمشها .. هل له علاقة بذلك الحوار الحار والمستمر في قصص روائيينا.
أرجو أن أسمع تأملاتكم.