كلمات عربية بحناجر سودانية.. تجربة تحت الضوء

الخرطوم: حسن محمد علي
انعزال الفكر اللحني السوداني عن مفردات الشعراء العرب الذين أثروا ساحة الغناء والشعر العربي وأثروا عليها، ليس لهذه العزلة مبررات موضوعية ومنطقية، فهي عزلة تبدو اختيارية وكأنها انكفاء على الذات أكثر من كونها خاضعة لظروفنا الثقافية كهامش عربي ? كما يفسرها البعض. وبحكم ما أظهرته التجارب في تلحين قصائد من الشعر العربي بضروبه المختلفة، بل أن مُعظم الشعر العربي المُغنى سودانياً رسخ في وجدان وذاكرة السودانيين حتى أصبحت من الأغنيات الخالدة. بالتأكيد أن للشعر السوداني طلاوته ورونقه وجماله، وأنه الأكثر تماهيا مع اللحن والإيقاع المحلي، لكن هذا لا ينفي أن تجارب التغني بالشعر العربي لدى الفنانين السودانيين كانت ذات مذاق خاص وألق كبير، بل وتوليفة فتحت قنوات التواصل بين السودان ومحيطه العربي بصورة مذهلة عجزت عنها الدبلوماسية و(ساس يسوس). وهكذا عبرت هذه التوليفة بالأغنية السودانية إلى فضاءات رحبة وعميقة أجزلها اللحن السوداني وساقها إلى عمق متفرد (نادر).
طوطحانية جويدة في شتاء الغناء السوداني
جولة قصيرة في مساحة تجارب رائدة الغناء الجماعي في السودان (مجموعة عقد الجلاد) تكاد تأخذك فيها وهي تترنم بأغنية الشاعر المجيد فاروق جويدة (أزهار الشتاء) في رحلة عابرة إلى البحر المتوسط بشتاءه الدافئ والممطر، فالكلمات التي انبهر بها جمهور (المجموعة) في مُفتتح تدشينها (فرقة غنائية)، هي التي أسهمت ضمن أغنيات أخريات من تمكين (العقد) من إحداث اختراق سوداني لفضاءات الغناء العربي، بعد أن ظلت رحلة الغناء السوداني إلى هذا الفضاء بمقاييس الإبداع أبطأ رحلة في التاريخ، بيد أنها تسارعت إلى حد ما بعد التطور المذهل في الميديا العربية.
الأغنية رغم (غرابة) ? ربما فرادة مفرداتها بالنسبة للمستمع السوداني العادي إلا أنها اخترقت وجدانه وانطبعت في ذاكرته سريعاً، وجويدة عندما يقول: (في كل عام كنت أحمل زهرة مشتاقة تهفو إليك/ في كل عام كنت أقطف بعض أيامي وأنثرها عبيراً في يديك/ في كل عام كانت الأحلام بستانا يزين مقلتيّ ومقلتيك/ في كل عام كنت ترحل يا حبيبي في دمي وتدور ثم تدور/ ثم تعود في قلبي لتسكن شاطئيك/ لكن أزهار الشتاء بخيلة/ بخلت على قلبي كما بخلت عليك/ عذراً حبيبي إن أتيت بدون أزهاري لألقي بعض أحزاني لديك). لكأني به كان يهفو لعلاج (فقر الدم) العربي للتلاقي الإبداعي، فهو يبحث عن دم واحد ومفردة واحدة، فتبدو الأغنية وكأنها تنبعث بلحن مثل (المرجيحة) العربية أو(الطوطاحنية) السودانية، التي تذهب بك الى حالة استرخاء لذيذة، ونشوة وشعور غامرين بالتحليق في فضاءات اللحن السوداني.
حمد وقباني والشعر القصير
وفي السياق هذا، لابد من استدراك إحدى أهم التجارب الغنائية الخالدة في ثنائية الشعر العربي واللحن السوداني وإدراجها في منوالنا هذا، إنها أغنية (حبيبتي) التي تغني بها المبدع حمد الريح من كلمات الشاعر الكبير نزار قباني، القصيدة تخفي في دواخلها (عادة) سودانية عريقة في مشاركة الحياة الاجتماعية وفق أسس من التفاهم والحب، وهي ذات الكلمات التي ربما شجعت حمد الريح للتغني بها لتأطير القبول والعيش بـ(العندك) مع رفيقة المستقبل.
حمد الريح في معالجته اللحنية وأدائه الراقي بدا وكأنه يجلس بين يدي حبيبته ليناقش معها (منفستو) علاقتهما بآلة اللحن والكلمات، هي (قناعات) صغيرة في دواخل حبيبته وردود فعل جاهزة لكل متساءل وكل (عزول)، وهذا يتمظهر بشكل جليّ في مقطع الأغنية الأخير القائل: (حبيبتي إن أخـبـروك أنـي لا أمــلــك الــمــال والــقــصــورا/ ولــيــس فــي يــدي عــقــد مــاس بــه أحــيــط جــيــدك الــصــغــيــرا/ قــولــي لــهــم بــكــل كــبــريــاء يــا حــبــي الأول والأخــيــرا/ قــولــي لــهــم كــفــانــي لأنــه يــحــبــنــي كــثــيــرا).
قفلة الغناء
تجارب أخرى كثيرة، ليست بعيدة المنال عن التداول في هذه المساحة، لكنها (منوعات الشتاء)، ربما بخلت على قلمي كما بخلت عليكم، ما يجعلنا اكتفي بتجربتين دافئتين، وأدخر تجارب أخرى ليس أقل حظاً من الانتشار والتدوال من هاتين بأي حال من الاحوال، لأن ما أريد أن أقوله هو أنه يمكننا عبر هذا السبيل أن نقترب بغنائنا أكثر من الآذان العربية، فهلا مضينا بخطى أوسع وثقة أكبر؟
اليوم التالي

تعليق واحد

  1. غريب جدا أن يفوت عليك عدة أغنيات هي لشعراء عرب تغني بها عمالقة الغناء السوداني من زمن قديم ومثال ذلك المبدع عبدالكريم الكابلي في رائعة العقاد شذا زهر وأيضا قصيدة أبي راس الحمداني وكذلك المبدع عبدالعزيز محمد داوؤد في رائعته يا عروس الروض يا ذات الجناح ياحمامة للشاعر إلياس فرحات من شعراء المهجر الجنوبي وهو لبناي الأصل عاش بالبرازيل وغيرها من الإبداعات التي لا تحضرني الآن.

  2. غناء القصائد العربية فقط يا أخ حسن لن يقرّب غناؤنا إلى الإذن العربية بأي حال من الأحوال ، هذا مبرر ساذج فالكل يعلم أن السلم الذي نغني عليه لا يتشابه البتة مع السلم الذي يغني عليه الاخوة العرب (خماسي مقابل سباعي) .. إضافة إلى أن مقالك فيه شيء من التناقض : تارة الغناء السوداني في عزلة وتارة أن التجارب الغنائية في هذا المجال فتحت قنوات التواصل مع محيطه العربي ، مع معلومة خاطئة بأن (عقد الجلاد) وحدها إستطاعت أن تحقق إختراقا في هذا المجال .. هناك أخ حسن أكثر من عشرين قصيدة عربية غناها المطربون السودانيون في الماضي والحاضر .. موضوعك يحتاح إلى مزيد من الإطلاع وأسمح لي أن أقول بأن الذي يبدو أمامنا هو مادة ضعيفة تفتقر إلى الكثير من الحقائق وبالتالي فهي مادة قليلة الفائدة . على هذا الرابط المزيد من القصائد العربية التي لحنت وغنيت على سلمنا الخماسي :
    http://www.alrakoba.net/articles-action-show-id-36994.htm

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..