أخبار السودان

لماذا تجاهلت ” دال ” وصية وردي يا قدال ؟

جابر حسين

اليوم تحل الذكري الثانية لرحيل فناننا العظيم وردي ، إذ رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم مساء السبت 18/2/2012 بمستوصف ” فضيل ” الطبي بالخرطوم ، وكنت مفجوعا تلك الليلة ، حل بي الألم الممض والوجع المحرق ، مثلما كانت جموع شعبنا قاطبة تهرق الدمع المالح وتئن من فرط الوجع ، فصرخت ، ” وجع الرحيل ياوردي ” :
لأصرخ ، الآن ،
وردي !
أتذكرون ، قالها درويش يوما :
” ثقوا بالماء
يا سكان أغنيتي ” !
و … رحلت الآن
وردي !
متوجا بغدي ،
الذي صار في الناس
أمسي …
قد صار الآن ،
وردي !
تدثرت بالسواد تلك الليلة …
والزغب وقعن المواويل التي
ليست تموت
لكن البكاء ضج فينا
هدوء البيوت !
تماسكت …
تماسكت حتي أحس الأغاني
بنت في الحناجر جسرا
لتغدو وردا ونايا
وذكري !
وهذي الأناشيد هاطلة كالشبابيل ،
خارجة من لهاتك وردي .
تمالكن فيك الصبايا
لتصبح كل المراثي مرايا
زغاريد شاردة في المدي ،
لتبقي الموسيقي موقعة ” بالطنابير ” ،
ونبقي كأن غنانا الذي شاقه ” الطار ”
صار جراحا تفتقن عن لغة في الجسارة !
أوتارا تئن ،
يحدثننا بالبشارة !
تحيل قلوب كل الصبايا مدي …
تماسكت …

حتي ألون هذا النشيد يفاجئنا من تراثك ،
فلا لون للأغاني إلا بريقك ..
ولا صوت ” للطار ” إلا غناء الحناجر
ينجز وعدا كوعدك وردي .
لأنك تحبو علي الشوك ،
تنظر في جسد الشمس ،
ترصد في طالع السعد …
كنت هويت
لينتصب القبر ،
قبرك نخلا
وينبت ظلا
وردا و ساعد !
فتصبح شارات زغب المدارس فينا جداول
شددت إلي الضوء أوتار أقواسنا
لأن المواعيد ينثرننا في الدروب إليك
وهذي الرياح التي فرقتنا
لأننا إلتحفنا بأحلامنا الراجفة
تعلمنا الآن منك
كيف يكون الموت ،
حياة في البذرة النابتة !
تري يا وطن ،
نحدث عنك المواجع
ام شوقنا ؟
أم نقلب هذي الأناشيد حتي نعود إليك
خلاسية عشقنا …
والبلاد التي أنجبتها
تعفر سمارها بالتراب !
يهزون فوق ذوائبهن الجريد ،
فتلتحف النسوة الشوق
تبقي القلوب مراصد…
يزرعننا كالفسيل علي كل باب !
ياحبيبي ،
نقوم الآن إليك
يخالطنا الشوق ،
حتي سماؤك ساهرة للغياب !
كأن لقاؤك هذا فراق
ولم يبق فينا سوي الجرح
شبابة للعناق !
فلا شئ يجمعنا غير صوتك
ولا شئ يقتلنا كالوطن
لاشئ يقتلنا كالوطن !

2 :
في نحو الربع الأول من العام 2007 أنشئت لجنة قومية للإحتفاء باليوبيل الذهبي للفنان وردي بالخرطوم وروافدا لها بعواصم الأقاليم برئاسة صديقي أبن كسلا التشكيلي والشاعر والصحفي أحمد طه الجنرال ، وجنرال هذه إشارة ذكية لمهنته الأم في صفوف القوات المسلحة التي خاض في بلبال معاركها ردحا مزهرا من حياته الخصيبة حتي أبعدته الإنقاذ عنها كما العديدون من رفاقه الشرفاء . هاتفني أحمد ليطلب مني الكتابة في ملفه ” مجلة في جريدة ” الذي كان يصدره بصحيفة
” السوداني ” كل جمعة ، وظلت تلك الإصدارة تعد ? وإلي يومنا هذا ? من أجمل وأقيم ما نشر في الإصدارات الأدبية والفنية في بلادنا ، فشرع أحمد وفتح الملف لمناسبة ” يوبيل وردي الذهبي ” ، فظل نافذة مضيئة تنثر في شعبنا ملامحا ثرة من إبداعات الفنان العظيم ، وكانت ، أيضا ، محل تقدير وردي وامتنانه . فقلت ، والدعوة للكتابة عن وردي ، ولم لا أكون في شرف من يفعلون في الإحتفالية الكبيرة ؟ فشرعت من يومها أكتب و أحمد ينشر كل جمعة في ” مجلته ” الرشيقة:
فقد ظل وردي يمد صوته وإبداعه ليبلغ العالمين العربي والأفريقي ، وأضاء في سموات الدنيا الرحيبة ولامس وجدانات شعوبها … أعطي نساء السودان قاطبة طاقة حب عظيمة ذات قيم نبيلة سامقة حين جعل في أغانيه المرأة والوطن بملامح وسيماء واحدة ، باهرة جدا وذات شموخ نبيل … متداخلان معا ومختلطان ، لكنهما متحدان بحيث لا تستطيع أحيانا كثيرة أن تفصل بينهما . شديد الإيمان بتنوع السودان الكثير المثير وذو قناعة عميقة بوحدته … وظل ? منذ بداياته الأولي ? مبشرا وداعيا بالوحدة للوطن والشعب ، وهذا هو ” سر ” تقاربه الحميم وتواصله العميق مع الشهيد دكتور قرنق ، وهو نفس السبب الذي دفعه دفعا ليخاطر بحياته فيذهب لمعسكرات الحركة الشعبية مغنيا ومنشدا ، مؤازرا وداعما لذلك الكفاح المجيد ، ذلك ? كما رأيته ? تواصل إنساني وثوري عظيم لأجل وحدة السودان ، لأجل حريته وتقدمه . تتلبسه حالتي الشعر والرؤيا في كل وقت وحين ، لم يهتم قط بالتحديدات والعناوين ولا النقاشات والمداولات الطويلة حول الجماليات في الفن والأدب ، بل أحيانا كثيرة تثير من نفسه السأم ! لا … لا يستصغر عناصرها أو أشخاصها ، لكنه يشعر بأنه غريب عنها ووحيد! لا يتواصل مع أمثال هذه المؤشرات الخارجية إلي أن يسيطر عليه ، كمال قال يوما والت ويتمان ، لأنه يؤمن أنه يجب أن لا تحل الزينة ، مهما عظمت قيمتها ، محل الخلق العاري الجميل . لقد قضي عمرا خصبا وهو يخط في كتاب الأغاني مجيد الغناء والأناشيد ، فيشتغل عليها محولا إياها من حالة تحول إلي أخري ، من الجمود إلي الحركة والتطور الصاعد ، من اليرقانات إلي إلحباحب ، ، مشغول كل أوقاته بهذا الخلق الجميل . أن الحيوات الإنسانية في جماهير شعبه هي ، دائما درس حياته الكبير ، يصل إليها بخجل الفنان العظيم ، بحذره وفزعه الخائف ، لكن ، ما أن يصبح في وسطها ، في حضنها بالذات ، حتي تتقمصه روحها فيتحد بها … ومعها يطال الذري العاليات ، فيصبحا ، معا ، ورقة خضراء يانعة من أوراق شجرة الإنسانية العظيمة في الفن والغناء والموسيقي . لقد اغتنت حياته بمعارك كثيرة ، معركة تلاطم الأمواج في السواحل النديات ، فأستهوته المياه المقاتلة والصخور المقاتلة والتكاثر في الحياة ، في التشكيلة الفريدة الفاتنة من العصافير التائهة ورونق الزبد البحري . لكن أكثر ما تعلمه وأخصب ما تعلمه كان من تموج الحيوات العظيم ، من نظرة الحنان في آلاف العيون التي نظرت إليه ، قد لا يلتقط أكثر الفنانين رسالة العيون هذه ، لكن وردي أحسها ، ملء قلبه ووجدانه الذكي ، يحفظها في قلبه وسيجريها ، من بعد ، في أغانيه وأناشيده ، أنه لجدير بالذكري ، وبالمجد ، فقد جسد لنا دفقة الأمل والحب في حياتنا ، قيمة الحياة وجدواها النبيلة .

3 :
هكذا شرعت أكتب عن وردي ، عن حياته ومشروعه العظيم في الغناء والموسيقي والشعر و … في النوبيات . لقد نشر أحمد في ” ملفه ” العديد من تلك الفصول ، التي تواصلت الكتابة فيها طوال شهور الإحتفالية ولم تتوقف بإنتهاء ” اليوبيل
الذهبي ” حتي اكتملت مخطوطة لكتاب أسميته ” كلمة في تبجيل الفنان وردي ” . كان أحمد طه ، إبان الاعداد لليوبيل ، يذهب كل مساء تقريبا إلي وردي في منزله ، فيقرأن معا ما نشر في ” ملفه ” ذلك اليوم ، وقد أخطرني حين هاتفني فيما بعد بإعجاب وردي الكبير لكتابتي عنه ، أستحسنها جدا حد قرر أن يطبع المخطوطة علي حسابه كما قال أحمد وكتبه لاحقا ونشره في ” الملف ” . من بعد ، في نيروبي حوالي مارس 2011 ، ونحن بمنزل الصديق محمد خالد ، أتصل صديقنا
د . صلاح عوض تلك الأمسية علي هاتف وردي بالدوحة التي كان قد ذهب إليها لإجراء الفحوصات الطبية الروتينية لصحته فوجد الهاتف مغلقا ، ولما كان لديه هاتفه في السودان شرع يتصل عليه ، رد عليه وردي وأخبره أنه عاد للخرطوم قبل ثلاثة أيام ، تحدث معه قليلا وأعطاني الهاتف ، أستفسرته عن صحته فطمئنني إليها ، وكرر إلي اعجابه بالكتابة ، وكانت المفاجأة كبيرة لي حين قال : ” دي أحسن كتلبة اتكتبت عني ، وسأطبعها علي نفقتي الخاصة ” ثم طلب إلي اكمالها لجعلها في شكلها النهائي. ذلك ? ضمن دواعي أخري ? مما شجعني لإعدادها لتكون في النشر ، فتقييم وردي للأدب والشعر أعرفه ، فلا توجد عنده هنا ، لا المجاملات ولا المديح المنافق ، ذلك فعلا ما جعلني ، حتي الآن ، أزهو بتلك الكتابة وأسعي ، ما في وسعي وهو جد محدود ، لتكون في النشر مطبوعة في كتاب للملأ ! كان صديقي الشاعر والكاتب مأمون التلب معي تلك الفترة بنيروبي ، كان قد قرأ المخطوطة ، وحاضرا تلك المحادثة مع وردي ، وبسبب من حبه للكتابة الذي قال به عديد المرات ، فشرع بقدارته الكبير في التحرير والطباعة يجري تحرير المخطوطة حتي اكملها ، وتبقي منها تصميم الغلاف لتكون معدة للطباعة ! كنت سعيدا بإشادة وردي ، وفراغ مأمون من تحريرها !

4 :
عدت إلي السودان ، للخرطوم ثم إلي مدني حيث أعمل وأقيم ، فعلمت ، حين هاتفني أحمد طه أن شركة ” دال ” ، ومعلوم أن أصحابها ” بلديات ” وردي ، قرروا طباعة المخطوطة علي نفقتهم وتوزيعها بالمجان في المهرجان النوبي الذي يجري الإعداد له ، ولربما ? كما ذكر أحمد لي ، يتم توزيع الكتاب عند ختام فعاليات اليوبيل الذهبي ! في ذات صباح ، من بعد ، هاتفني الشاعر الكبير محمد طه القدال ليخبرني بأنهم في ” دال ” قد قرروا طباعة المخطوطة ، وقد قام بأرسال نسخة منها إلي بريدي فأكدت له إنها فعلا هي وفي صورتها النهائية ! أفرحني أيضا ما قال به القدال ، فهو المسئول عن
” منتدي دال الثقافي ” ومشرف علي اصداراته ، فظللت أنتظر . بدعوة كريمة كنت قد شاركت في المهرجان النوبي الأول بالخرطوم وفي ختام فعالياته بوادي حلفا ، فلم يكن ضمن برنامجه الحافل احتفاءا يذكر بوردي ولم يظهر الكتاب مطبوعا ومنشورا في الناس ، تماما كما غيابه عند ختام فعاليات اليوبيل الذهبي لوردي ! قبل رحيله بحوالي اسبوع تقريبا أستلم وردي ” القرص المدمج ” الذي يحتوي علي مخطوطة الكتاب ، وعلمت أنه قد خصص غرفة كاملة بمنزله لتكون استديو يجري الإعداد فيها لتراثه النوبي في الغناء والتطريب والشعر إضافة إلي مخطوطة الكتاب عنه ! للأسف العميق ، لم تمض أيام حتي تدهورت صحة وردي فنقل إلي ” مركز فضيل الطبي ” الذي رحل فيه خلال ثلاثة أيام مساء السبت 18/2/2012 وفجعت الأمة السودانية بأسرها بنبأ رحيله ! غمرني الحزن الكثيف فلم أعد أسأل عن مصير المخطوطة ولا عن وعد ” دال ” بطباعتها وفاء للوعد الذي قطعته لوردي ، وفي ظني أنه بمثابة الوصية التي تستوجب الإهتمام والوفاء بها !
لم أسأل ، طوال تلك الفترة القدال إلا مرة واحدة حيث ألتقيته مصادفة في أمسية بدار اتحاد الكتاب السودانيين حين سأله أحمد طه أمامي عن خبرها ، ذاكرا إليه ” إذا ما عايزين تطبعوها ، قولو عشان نشوف حتة تانية ” ، أكد له القدال أنهم سيفعلوا ، ذلك كان منذ أكثر من عام !
الآن ، ولمناسبة الذكري الثانية لرحيل وردي ، وأمام الملأ هنا ، رغبت جدا أن أسأل القدال ، ما هو مصير المخطوطة التي لدي ” دال ” ، ولماذا تجاهلت ، أصلا ، الإتفاق مع وردي ، الذي هو بمثابة وصيته إليها في هذا الشأن ؟ أكون ممنونا جدا للقدال حين يجلي لنا هذا الغموض الغريب في شأن عام ، والذي هو بلا شك ، من شئون الفنان الكبير ومشروعه الإبداعي الفذ !

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. رحمك الله رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته وجعل قبرك روضة من رياض الجنة يا وردى … برحيلك خلت الساحة لكل من هب ودب ليغنى لأنك كنت لا تجامل على حساب الفن الراقى وكنت تقول الحقيقة من غير دغمسة … انا لله وانا اليه راجون …

  2. التحيه لك ولنبلك فالاهتمام بارث آلامه لا يصدر الا من نبيل ونتمني من القدال وهو الشاعر المطبوع المسكون بحب هذا البلد ان يتحرر من قيود الوظيفه ويتعامل مع المخطوطه بحسه الشعري ويتفضل باصدارها لتكون اضافة للمكتبه السودانيه وتوثيقا لفنان مسكون بحب هذا البلد واهله

  3. يا اخي انس بلا وردي بلا لمه الموت أنتو ناسينو وردي مات زيدان مات فلان مات علان مات ونحن زاتنا ميتين ياناس ياناس

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..