حبيناك من قلوبنا: محمد عثمان وردي.. عامان من الحضور

الخرطوم – الزين عثمان

“اخترناك يا حلو”.. قالت صاحبة (التسعطاشر سنة) وهي ترد جميل الفنجري حين وقوفه في محطة بنحب من بلدنا ما من برة البلد.. سودانية تهوى عاشق ودبلد.. المشهد المرسوم أمس هو ذات مشهد ستينات القرن المنصرم، إطار الصورة ينعكس على الفرعون الجالس فوق هرم القلوب السودانية، الاسم يتردد ألحاناً شجية (الود) هو القيمة الثابتة التي يتحرك فيها محمد عثمان وردي فنان أفريقيا الأول وغناي السودان في عصوره كافة. يقول آخر في الذكرى الثانية لرحيل وردي إن قدر وردي أنه كان سودانياً وقدر السودانيين بشمالهم وجنوبهم أن لهم صوتاً قادماً من صواردا دون أن يتوقف في محطة واحدة، حمل الصوت في أعوام الاستقلال الأولى من الإنجليز وهتف بالنشيد: (اليوم نرفع راية استقلالنا ويسطر التاريخ مولد شعبنا) وحين انطوت الراية في وطن الاستقلال الأول حمل ذات الصوت ليتردد صداه في جبال الأماتونج وتحركه حجارة الدولة الجديدة في جوبا مع ذات النشيد وكأن أبوالورود يريد إيصال رسالته الأخيرة (ما فصلوه ولكن شبه لهم).

أديس أبابا منتصف تسعينات القرن الماضي يأتيك صوت وردي من الاستاد وهو يغني: (يا شعباً لهبك ثوريتك تلقى مرادك والفي نيتك) يضيف لها أخرى (أبداً ما هنت علينا يا سودان) فسودانية النوبي لا تهون أمام توجهاته الاشتراكية حين تتبعك لسيرة الرجل السياسية وكأنه يستبطن نصاً آخر من نصوصه: (زمان الفرقة والتجريح بسيبو في شان تشيلو الريح) كان الغناء في أوان يمكنك أن تسميه أوان العزلة السياسية. الحكومة في الخرطوم والتجمع الوطني الديمقراطي كل (مرسال) بيناتهم لا بمشي ولا حاجة. حوالي عشرين عاماً مضت على مشهد استاد أديس الممتلئ بالجمهور الجالس في حضرة جلال وردي ووطنه يمكنك أن تقرأ مشهد سودان وردي بعد عامين من رحيل بذات المشهد الإثيوبي، ومن المدينة التي شهدت الحفل الصاخب بالمعارضة آنذاك أديس التي استضافت المعارضين بقيادة وردي هي نفسها أديس التي تستضيف المعارضين والحاكمين في أسبوع المفاوضات السوداني السوداني أو السودان بدولتيه فمشار يفاوض وفد سلفاكير المنفصل بدولته عن السودان الكبير الذي يفاوض غندور باسم سلطته الحاكمة عرمان الذي كان أحد فرسان التجمع في ذلك الزمان. الآن تعود دائرة الزمان للوراء، راسمة ذات تفاصيل مشهد البلاد المصطرع أبناؤها يبتغون الصعود إلى كرسي الحكم والإدارة يعيدهم صوت وردي بكلام محجوب شريف هذه المرة يستهدف إعادة بناء ما دمره الاختلاف: (حنبنيهو والبنحلم بيهو يوماتي وطن شامخ وطن عاتي وطن خير ديمقراطي وطن مالك زمام أمرو.. ومتوهج لهب جمرو.. وطن غالي نجومو تلالي في العالي إرادة سيادة حريّة مكان الفرد تتقدم قيادتنا الجماعيّة مكان السجنِ مستشفى مكان المنفى كليّة مكان الأسرى ورديّة مكان الحسرة أغنيّة). ويواصل الإمبراطور عزفه على أمنيات الفنان: (وطن للسلم أجنحتو ضدّ الحرب أسلحتو عدد ما فوق ما تحتو).. وما فوقه وما تحته صارت بالتقسيم الخطي الجديد الدولة السودانية في الشمال ونظيرتها السودانية بالجنوب، فالرجل حين سئل بعد عودته إلى السودان حول الغناء وتوظيفه قال: انطلاقاً من تجربة الغناء لمايو وصلت لقناعة بأن الغناء للأنظمة تذروه ريح الإنسان، ويبقى ما هو للشعب وأحلامه، وهو الأمر الذي يثبت أن هوية وردي كانت قومية بحسب إفادته: (أية آيدولوجية وأي فكر (يقولب) الفنان المنتمي لهذه الآيدولوجية يضع نفسه في مشنقة لأنك تؤمن برؤى الحزب في كل شيء. تؤمن بالآيدولوجيا وفكر الحزب هذا جيد، ولكن أن تغني بتعليمات، هذه أنا رفضتها).. وأضاف وردي حينها لعرمان: “أنا لا يمكن (اتقولب) حتى الآيدولوجية الدينية هذه أنا ضدها، ولن (اتقولب) لذلك حدث الخلاف بيني و بين الآخرين”، ولكن وردي نفسه قال ذات مرة في لقاء إنه كان منتمياً لأحد الأحزاب السياسية قبل أن يخلع رداءه ويرتدي وشاح القومية إلا أنه في المقابل سيجد المتتبع لتاريخ الرجل أنه غنى لكل الأنظمة التي تعاقبت على حكم البلاد باستثناء الإنقاذ ويجد في مكان آخر أنه حمل لقب (السجين) في عهودها غنى لعبود قبل أن يرتد عليه بعد ترحيل الحلفاويين ويسجن قبل أن يعود للتكفير بأصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باق غنى لمايو وغنى لهاشم العطا الذي جعله قاب قوسين من المشنقة وسجنه نميري الذي غنى له يا فارسنا ويا حارسنا قبل أن يخرج ليغني السجن ترباسو انخلع، والشعب طلع في ماريل ليعلن نهاية المهزلة، واختار وردي الاحتراق بين صفوف شعبه راكلاً الانتماء أو التقولب تحت راية سياسية معينة.

اليوم تعود الذكرى لتكتب أن عامين مضيا على رحيل فنان أفريقيا الأول محمد وردي المقبور في مقابر الفاروق بالخرطوم، تعود بالذاكرة إلى تلك الأيام: (ربنا يطول في أيامك)، كانت تلك إحدى أمنياتنا في اتصال هاتفي مع وردي كانت الإجابة هي: أنا كفاية علي الشفتو.. ترى ممّ كان يخاف وردي من رؤيته، فالرجل آنذاك كان يتحدث في العام الأول لانفصال الجنوب بعد أن ذهب للغناء هناك يمكنك أن تقرأه في مشهد الوطن اليوم، فكل الأشياء تمضي عكس ما تمناه وردي في أغنياته، لا الحرب وضعت أوزارها ولا الجنوب استراح بانشطاره عن السودان ولا اتفق من اختلف معهم وردي رغم اتفاقهم على أنه كان (غناي كل الأجيال) وربما يخبرك آخر أنه حتى الغناء لم يعد هو الغناء ولا أديس التي عشق شعبها وردي يمكن أن تأتي لأهله بالجديد.

في العام الثاني تأتيك صاحبة التسعطاشر سنة برفقة الفنجري وهي تمسك بيده مودعة فالأرض التي تضيق بأحلامك ترتاح فيها بالهجرة منها في طريقهم إلى آخر المحطات الخرطومية (المطار) يتوقفون برهة في مقابر الفاروق يرشون بعض المياه على قبر وردي ويرددون العبارة: (حياه أقنعة الموت الجميل نرتديها على عجل لنجمل أمسيات في انتظار القادمين الغياب /أو قل القادمين السراب.. شكراً يا شعبنا ويا والداً أحبنا.. شكراً وردي وأنت تختار موتاً يوازي الحضور موتاً يليق بك ويليق بنا والوطن الحزن بعد ما قلت ترحل من ناساً نسو الألفة

اليوم التالي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..