في الذكري الثانية لرحيل امبراطور الغناء السوداني محمد وردي

صلاح الباشا

هاهي الذكري الثانية لرحيل إمبراطور الغناء الأفريقي وفنان افريقيا الأول الموسيقار الفنان محمد وردي تطل علينا ، والذي رحل عن دنيانا في امسية 18 فبراير 2012م في ذات الشهر من العام 1982م الذي رحل فيه شاعره التاريخي إسماعيل حسن وأيضا ذات الشهر في العام 2006م الذي شهد رحيل زوجته السيدة علوية محمود رشيدي.
فقد ظللنا نعيش معه وبه منذ عهد الطفولة الباكرة حين كنا نرخي أذاننا إلي المذياع وهو يغرد ويغرد ويملأ الدنيا فرحة وأملا بتأليفه لموسيقي جديدة ومتجددة وصوت ندي يصل بنا حد الإرتواء ، وقد ظل يشكل بغنائه وجدان الشعب السوداني كله لأكثر من نصف قرن من الزمان طاف فيها كل ارجاء الوطن وخارجه أيضا . وحين أصبحنا شباباً ظللنا نعيش قوة إنشاده الوطني بكل مضامين مفردات شعائه الأماجد والتي تفجرت عقب تفجر ثورة 21 الكتوبر 1964م الشعبية ، حين كتب له تلك الرائعة الأستاذ الشاعر الدبلوماسي محمد المكي إبراهيم في نهاية العام 1964م : بإسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغني ، والحقول إشتعلت قمحاً ووعداً وتمني ، والكنوز إنفتحت في باطن الأرض تنادي ، بإسمك الشعب إنتصر ، حائط السجن إنكسر ، والقيود إنسدلت جدلة عرس في الأيادي ، فقد كان حقاً شعراً جديداً من شاب يتميز بحس شعري متقدم أضفي علي ساحة الغناء بعدا جديداً .
نعم .. عشنا منذ عهد الصبا الباكر في العام 1957م بزوغ فجر غناء جديد لصحاب صوت ندي ألا وهو محمد وردي ، بمثلما عشنا إنتشاءات عالية المقام ونحن نفجر أول ثورة الشعبية في التاريخ الإنساني كله في 21 أكتوبر 1964م بعد أن سبقتنا الي ذلك الثورة الشعبية الفرنسية التي حدثت في القرن الثامن عشر الميلادي ( 1789 ? 1799 ) برغم أن أسباب الثورتين( الفرنسية والسودانية ) مختلفتان ، فالثورة الفرنسية مثلا كانت أسباب إندلاعها حسب الوقائع التاريخية كالتالي : (كان مجتمع فرنسا على شكل هرم تراتبي يوجد في قمته طبقة النبلاء الذين لا تزيد نسبتهم عن 2% من السكان ثم تأتي طبقة الإكليروس المستفيدين من عدة امتيازات فهم يحتكرون حوالي 22% من الاراضي الزراعية المنتجة كما انهم معفوون من الضرائب ، ثم الطبقة الثالثة العريضة والتي تتشكل من البروليتاريا الناشئة المحرومة من المشاركة السياسية ، وتمثل هذه الطبقة الكادحة أسفل الهرم وأغلب السكان ، وكانت تعاني من ثقل الضرائب وأعمال السخرة ، فكانت هناك ضرائب العشور التي تفرض على الفلاحين وهي مقاسمتهم النقود أو الارباح من جني المحاصيل مما جعلهم أول طبقة من الثوار الحاقدين على قيادة فرنسا وعلى لويس السادس عشر حاكم زمانه .) .
أما ثورة أكتوبر 1964م السودانية فكانت تنطلق من مفاهيم أخري ومطلوبات أخري وطبقات إجتماعية اخري وهي طبقات العاملين في الدولة ، يتقدمهم طلاب الجامعات والمدارس في إنسجام عجيب اطل فجأة بلا ترتيبات ، ولقد إختلفت أسباب الثورة السودانية كثيرا عن الفرنسية ، وينحصر جلها في المطالبة بالحريات السياسية وبإيجاد الحل السلمي الديمقراطي لمشكلة الجنوب التي بدأت تتمدد وقتذاك ، وهذا وحده يوضح أن الطبقة الوسطي في السودان هي التي ظلت تشكل مركز الوعي السياسي وقيادة المجمتع ، وأن الراحل المقيم الموسيقار محمد وردي يمثل أحد أهم أركان هذه الطبقة الوسطي التي تقود المجتمع السوداني وبإيمان مطلق منه بهذا الدور ، برغم ما جلب له هذا الدور الجريء ذي الحس الثوري المتقدم من متاعب ضاغطة في مختلف الحقب السياسية الشمولية التي مرت علي بلادنا.
كان إنشاد وردي بالأكتوبريات هي التي كانت تعمل علي ترسيخ القيم الوطنية الرفيعة في أذهان الجماهير والمتمثلة في الحريات والديمقراطية كاملة الدسم التي يعشقها شعبنا تماماً ويقدم في سبيلها الغالي والنفيس علي إمتداد تاريخه الوطني . وبما أن وردي الذي إنطلق فنيا وبسرعة البرق خلال الأربع سنوات الأولي من قبوله مغنيا بإذاعة هنا أم درمان في العام ( 1957م ) فإن تمدد غنائه الذي شغل كل أهل السودان بصوته الجديد الذي يتفجر حنية وتطريب ، فضلا علي التأليف الموسيقي لأغنياته التي كانت تنافس بعضها البعض ، فإن كل ذلك قد مهد له الطريق كي تسكن أناشيده الأولي داخل وجدان أهل السودان تماما كما ذكرنا.
فالحديث عن إمبراطور الغناء الأفريقي يطول ويطول ، والتجربة الوردية الفنية تحتاج جهدا متواصلا في عملية التوثيق لكل أعماله الموسيقية خاصة في مجالات البناء اللحني التي ظلت تتطور هي ايضا من مرحلة عمرية إلي اخري خلال مسيرته الفنية الممتدة ، حتي نضع للأجيال القادمة تراثا مكتوبا يعمل علي الحفاظ علي الهوية الفنية السودانية ، خاصة وأن الراحل المقيم الموسيقار محمد وردي قد إتصف بالجدية في تنفيذ الأعمال الفنية وظل يبحث عن الجديد في التأليف الموسيقي ، بمثل بحثه الدؤوب عن المفردة الشعرية الجديدة أيضا والتي وجدها بالكامل عند مجمل شعرائه الذين تغني لهم وفق قناعات محددة تجعله يهتم جدا بإبرازها للناس وتتميز بموسيقاها لتخاطب الأحاسيس تماماً .
وتبقي أعمال وردي سواء الوطنية منها أو العاطفية بحيرة كبري لا ينضب معينها مدي الدهر ، ذلك أن أي أغنية من أغنياته تنافس بعضها البعض ، وهذا ما جعل وردي يصرح من وقت لآخر بأنه ينافس نفسه فنياً ، وهذا لعمري تعبير فيه زخم كثيف من الصدق نحو الإهتمام بالمسؤولية الفنية في مضامين رسالته التي آمن بها حتي رحيله بالأمس ، حيث يؤمن وردي إيمانا ً تاماً بالدور الإجتماعي للفنان نحو مجتمعه ، فالفنون هي التي تقود المجتمع وليس العكس . وهكذا كان وردي يري أنه لابد للفنان أن يحس بآلام مجتمعه وبمعاناة شعبه ، وهو ما ظل ينادي به ويجاهر ، ولم يكن يهتم كثيرا بالنتائج التي كنت دائماً تعمل علي عرقلة مشواره الفني ، لكنه ظل يتخطي كل الحواجز التي توضع في طريق مسيرته الفنية ، فيخرج من المعتقلات المختلفة ليواصل إنشاده لشعبه دون تردد أو وجل .
هكذا كان هرم أفريقيا الفني وإمبراطور الغناء الأفريقي كله الذي تربع علي عرشه وعلي مدي أكثر من نصف قرن من الزمان .
ولنتابع في سانحات اخري تقديم أوارق نقدية وتوثيقية للمسيرة الفنية الطويلة لموسيقار الأجيال الراحل الأستاذ الدكتور محمد عثمان حسن وردي ، رحمه الله تعالي وأحسن إليه ،،،،
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..