في ذكري رحيله الثانية الفنان محمد وردي وخواطر عن أغنيته المستحيل لأسماعيل حسن

عبد الرحمن صديق

المستحيل :سناك كامل الدسم
إسماعيل حسن ومحمد وردي ابني بيئة تبدأ بالنيل وتنتهي بالصحراء.
وسماء كالخيمة أو القبة تحيط باﻷرض من كل حدب وصوب .تاركة نهرا بتدفق علي مهل في صحراء توشك أن تفتك به. ونخلات باسقات يغظن بعضهن بسعف طويل ونسيم الليل والعصاري يهفهفه كيفما شاء كسرب بنات يتبخترن لشمس ترمي طرحتها الرمادية فوق غمام ذابل. وساقيات يغرفن من طعم الدميرة لبر يدس بهجته في الجرجير بطعمه الحارق والليمون والجوافة والقراصة الطازجة والمتمرة. وغناء لا ينقطع لطنابير تتبادل رناتها الضفاف وسلام حار. ووداع أحر. وصلاة جماعة في الخلوة.والمسجد.وامام الدكاكين. ولمّة حريم عند الضحى يكون رمي الودع قلبها النابض. وشلة تبدأ قعدتها بعد صلاة العشاء. وعشاق لا ينفكون يقاسمون بنات آوي وبنات نعش: وقت السحر وقد احمرت عيونهم بالدموع والبهجة والسهر. وقدر يحدد،بنظرهم،كل شيء
جوقة الكمنجات مع بقية الأوركسترا وإيقاع قوي تردد سؤالاً دون إجابة .لتبدأ بعدها هديراً جامحاً كأنه لا يعبأ بالسؤال وإنما يهز رأسه غير مبال سوي بنشوة الاهتزاز علي شفير من النغم العذب. كأننا إزاء تناقض ما بين الكلمات ومضامينها السالبة واللحن وقوة دفعه الهائلة. ديالكتيك القصيدة المستسلمة لفكرة الجبرية. واللحن القائم ,بما يوحي به الإيقاع والهدير المصاحب ,علي حرية الإرادة الإنسانية .ثم ينكسر أو يهدأ ليحاكي نهراً انهكه المسير .لهذا تبدوا “المستحيل” حين تمهد للمغني عقب تلك المقدمة الملتبسة مستحيلا منذ البداية. كأن وردي صمم نهايتها ثم قلبها لتكون البداية. آو ليوحي او يعبر بذلك عن بطلان إرادة التغيير كما حددتها قصيدة إسماعيل حسن. والتي أبدع في انضباط فكرتها ومناسبة كل كلمة فيها وانصياعها للتعبير عن تلك الفكرة .كأن الافتتاحية القصيرة للموسيقي إنما تمهيد سريع لصوت المغني. الذي يجئ منخفضا مهيض الجناح: لو بإيييييدي ..لو بإييييدي …او بإييدي
لو بإيييدي كنت…طوعت الليالي.
لو بإييدي ..كنت. ذللت المحال.
واﻷماني الدايرة في دنياي ما كانت محال.
فنعرف اننا إزاء أحلام منكسرة. وإرادة مسلوبة. وأحلام مستحيلة. لماذا ؟ ﻷن …
يجيب إسماعيل حسن بصوت وردي :
دي الإرااااااادة ….دي الإرااااااادة
دي الإرادة ونحن مابنقدر نجابهه المستحيل !
دي الإرادة والمقدر ما بنجيب ليهو…بديل !
دي الإرادة أجبرتني في هواكم من قِبيييييل

ماهي تلك الإرادة التي بتحدث عنها إسماعيل حسن ؟ .هذا ليس سؤالا بسيطا. هو سؤال قديم /جديد. انقسمت بشأنه الفرق/المذاهب الي معسكرين….
قبل الدخول في هذه الحلقة عن المستحيل جدير بالذكر أن نتوقف عند الإيقاع الراقص للمستحيل والذي يتناقض مع مضامين القصيدة. لماذا اختار وردي هذا الإيقاع الراقص المتفجر روعة ؟ كنا قد قلنا ونحن نكتب عن الحزن القديم أن محمد وردي فنان عبقري ومؤلف موسيقى فذ ذلك أنه يستوعب معني القصيدة ويتركها تتفاعل داخله وعندما يمسك بالعود ويخرج لحنه وجمله الموسيقية يكون قد أعاد خلقها وفق رؤيته الخاصة .وأعاد إنتاجها موسيقيا بحيث يمكن _كما في المستحيل_ أن يخلق نقيضها الديالكتيكيي لا ليردد معانيها بل ليناقضها ليفتح أفقاً ما. فمحمد وردي الفنان إنسان ثوري يؤمن بحتمية التغيير وضرورته. وحتي وهو يغني أغنية عاطفية كالمستحيل لا يغيب عنه ذلك الحس .واذا كنا قد قلنا بان المقدمة القصيرة, خاصة وهي تنتهي للتمهيد للمغني, بدت كنهر عند المصب أنهكه المسير, فذلك كان حتما بضرورة التمهيد للغناء بيد أن موسيقى المستحيل الافتتاحية حوت عناصر ذلك الإيقاع الراقص خاصة بعد الحوار المتقطع للكمنجات مصحوباً بالإيقاع القوي والذي يقود خلاله الساكسفون أو الفلوت (فهتاك عدة تسجيلات مختلفة للأغنية) الأوركسترا كنهر يصعد جبلاً في حيوية فائقة .ثم لا يلبث أن ينحدر مسرعاً إلي سهل عريض تتكسر فيه مويجاته الصغيرة علي ضفاف هشة لا تبدي ثمة مقاومة.
ونعو د لمعني الإرادة .وهذا يقودنا_بالضرورة_إلي سؤال أساسي :هل الواقع قابل للتغيير؟ لأن في الإجابة عن هذا السؤال يتحدد موقف المدرستين (الجبرية والقدرية)من الإرادة. هل هي إرادة الإنسان ام الله أو الطبيعة أو أيا ما كان حسب اعتقاد الفرد وإيمانه.والجواب_رغم غلظة السؤال بسيطة. لكن بسؤال أكثر دقة وهو اذا كان الواقع _بداية منضبط بقوانين(نواميس) حتمية أم لا؟ فاذا كانت الإجابة: نعم هو كذلك فهذا يعني ان معرفة تلك القوانين وسيرورتها تخولنا معرفة كيف وصل الواقع (الماضي)المعيّش الي ما هو عليه. وبالتالي فإن تركه بدون التدخل الإرادي لتغييره يعني استمراره تلقائياً في المستقبل وإلغاؤه لحساب الماضي. وللتأكيد بأن الواقع منضبط بقوانين(نواميس)حتمية معروفة أو يمكن معرفتها هو الاضطراد المستمر في مقدرة الناس في التحكم بالطبيعة. فلو لم يكن الكون والأجرام السماوية منضبطة بقوانين(نواميس)حتمية(وحتمية بالمناسبة تعني ببساطة أنه اذا حدث كذا يحدث كذا) لما كان بمقدور البشر النزول علي القمر أو السفر إلي المريخ وغيره من كواكب المجموعة الشمسية. وانتقال البشر من أكل اللحم نيئاَ إلي البيرغر والهوت دوغ .ومن الالتقاط التلقائي الثمار إلي اكتشاف الزراعة(الإنتاج الإرادي للثمار) بل وزراعة محاصيل في غير أوانها بالتحكم في الاحتياجات الفسيولوجية لها وتهيئة الظروف أو تغييرها لتناسب مواسم إنتاجها داخل بيئات أو محميات صناعية. إلي التحكم بالأمراض من خلال التحكم في الجينات عبر علم الوراثة ..الخ. وفي الإسلام هذه المسألة محسومة. أي انضباط حركة الأشياء والظواهر بقوانين حتمية. والقرآن يستخدم كلمة سنن ونواميس(بدلا عن قوانين) ومفردها ناموس(قانون) ويأخذ من وجودها دليلاً علي وجود الله ووحدانيته عز وجل: “لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا”(الأنبياء:22) ويدلل القرآن علي تلك النواميس بعشرات الآيات داعيا الناس إلي التأمل في تلك الآيات والسنن والنواميس. وتعليمهم بشتي الصيغ مدي انضباط الكون وثبات نواميسه “سنة الله في الذين خلوا ولن تجد لسنة الله تبديلاً”(الأحزاب:62)و”أنظروا إلي ثمره اذا أثمر وينعه”(الأنعام:99) و”وآية لهم الليل نسلخ منه النهر فإذا هم مظلمون(37)والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العلم(38)والقمر قدرناه منازل حتي عاد كالعرجون القديم(39)لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون(40)”(يس):.ولا يمكن للمسلم أن ينكرها ويبقي مسلماً.
والآن في نطاق هذه السنن والنواميس التي تضبط حركة الكون هل يكون الناس أحراراً في تغيير واقعهم أم لا؟ هناك مدرستان كما قلنا_ الجبرية والقدرية
الجبرية :ينكر أصحابها حرية الإرادة الإنسانية واستندوا في هذا إلي العديد من آيات القرآن الكريم وقالوا إنها تسند الفعل والإرادة كليهما إلي الله وأحالوا الأنسان أداة لا إرادة لها ولا خيار. ?والله خلقكم وماتعملون”(الصافات:96) و “إن هو الا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وماتشاءون الا أن يشاء الله “(التكوير:27.28,29) …الخ أما أنصار القدرية(من قدرة الإنسان علي الاختيار والفعل) فمع تسليمهم بانضباط الوجود بسنن محكمة لا تتبدل أسندوا الإرادة والفعل إلي الإنسان واستشهدوا علي هذا بالعديد من آيات القرآن التي تضع الأنسان أمام مسئولية ما يختار ويفعل علي أساس أن الحرية في الاختيار هي مناط المسئولية. ?وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”((الكهف:29)و “إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا .إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا”(الإنسان:2,3) و”ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين”(البلد:8,9,10) و”لاتجزون الا بما كنتم تعملون”(يسن:54)
وإزاء صراحة النصوص لا يكون عسيرا أن نهتدي إلي حل هذه المسألة التي تبدو لكثيرين:شائكة.تٌفهم حرية الإرادة الإنسانية في نطاق حتمية سنن الله ونواميسه في الكون. الخاص في نطاق العام. أو الحرية في نطاق الضرورة.وببساطة:الجتمية لازمة ليتصور الناس المستقبل الذي ينتظرهم. اذا لم يتدخلوا لتغييره بتغيير شروط فعالية تلك النواميس وتوجيهها إلي الغاية أو المستقبل الذي يريدون. أما أن يقع ذلك المستقبل الذي يريدون أو لا يقع فذلك متوقف علي معرفتهم الصحيحة بنواميس حركة الواقع الذي يريدون تغييره وإحترامها.اذ لا يجدي نفعا إنكار وجودها. فهي موجودة سواء أرادوا ذلك أم لا. سواء عرفوا أو لم يعرفوا. لا يتوقف وجودها علي وعيهم بها. فهي ذات وجود موضوعي لا يتوقف علي وعي الناس بها.تعرفونها.تستعملونها .تحققون المستقبل الذي تريدون. تحققون حريتكم. أما إنكارها أو الجهل بها وعدم استخدامها لتحقيق غايات محددة فلا يعني شيئا سوي العبودية للواقع وخسران حرية لا يفصلنا عنها سوي: المعرفة العلمية بها واستخدامها بكفاءة. لا أكثر من هذا ولا أقل. وقد عرف الناس علم الجراحة مثلاً فسلمت ملايين النساء اللائي يعانين من مشكلات في الولادة .وعرف الناس علم الفلك والأنواء فصاروا يختارون أوقات الرحلات البحرية والجوية الأفضل. وتحذير الناس في غير ذلك من الأوقات…الخ. فلأي مدرسة تنتمي “المستحيل” كلماتاً ولحناً ؟ تلك قصة أخري.
ويعود الإيقاع القوي الراقص في المقطع التالي عندما يقول مؤكدا ذات الفكرة عن استلاب إرادته وإرداة محبوبته معاً لصالح إرادة كلية أذا شئنا أن نقول . أو كما اختار أن يقول فيلسوف المثالية الكبير هيغل:غصباً عني وغصباً عنك
إنت حبيتني وهويتك
لو بإيدينا من زمان
كنت خليتني ونسيتك
والنهاية …..إنت عارف ..وأنا عارف
لو بإيدي كان …هديتك.
في هذا البيت الأخير يفصح إسماعيل حسن عن فكرة بطلان الإرادة الحرة للإنسان .فكلاهما مجبر علي حب الآخر. ما الذي كان إسماعيل حسن يرمي إليه ب”هديتك” فهل كان يريد اذا إستطاع_أن يهدي حبيبته إلي تركه ؟ لأن الهداية نقيضة الضلال .فهل هواه لها كان_بنظره_ضلالة ؟ إذن ما الذي “أجبرهما” علي هذا ؟ والإجابة واضحة: الإرادة الكلية .ولأسباب غير مفهومة علي الإطلاق. فالحب _منذ الأزل وحتي الأبد_رسخ في ذهن البشر أنه شعور لا إرادي .وجاذبية لها كيمياء ما تجعل من إثنين يتوقان للقرب من بعضهما .ولايطيقان البعد أبداً. (أو علي الأقل لوقت ما).المهم أن هذا الشعور ذو الأحاسيس الفياضة شعور ميسوم بالحرية.حرية الإختيار باي ذي بدء.صحيح أنه _وبعد طغيان ذلك الشعور ببهجة القرب_يتحول إلي عبودية علي نحو ما.بمعني إستسلامهما معاً لفكرة إيثار الآخر علي النفس لحد الذوبان الكامل فيه.وتلك هي فكرة المتصوفة الرئيسة التي تتمحور حول إنتقال العبد من مرحلة العبودية بالطاعات والنوافل إلي مرحلة الربوبية. فبعد ما كانا_معاً_ مجبرين بالإرادة الكلية علي حب بعضهما . يريدان_من زمان_أن يفارقا بعضهما بعضاً.بيد أن المغني|الشاعر _في هذه العلاقة البشرية_مسلوب الإرادة لصالح محبوبته .
ويؤكد إسماعيل هذه الفكرة او يزيدها إيضاحاً في المقطع التالي عندما يغني وردي:
أصلو حبي أقوي وأكبر من إرادتي
وأنا حاسس في جحيم نارك سعادتي
تلك إذن علاقة مرضية. فالحبيبة لا تقدم له جنة المحبين كما هو مفهوم في أي علاقة طبيعية بين محبوبين إنما:جحيماً.ومع ذلك فهو يستعذب ذلك الجحيم ولا يريد مفارقته !!
ويزيدنا توضيحاً:
واللهيب البكوي في روحي …في ذاتي …هو …إنت !
قلبي دايرك
حبي عارفك
آآآآآآ ه
في شبابك
في صباك
آآآآآآه
في جمالك في وفاك !!
عن أي وفاء إذن يتحدث؟
هذا ما جعلني أعتقد في غياب العمق الفكري عند إسماعيل حسن.
ووردي يتأوه ويترك الموسيقي يقودها الساكسفون يغازل بقية الأوركسترا غزلاً بديعاً يهز الجسد هزاً ويبقي جذوة الطرب في ذري لا يقدر علي بلوغها الا محمد وردي ومسيقاه البديعة.
آآآآآآه
يا المسيِّر
وماك مخيِّر
إنت يا الصابر وعند الله جزاك.
هذه اللخبطة في الضمائر قد تُحسب لإسماعيل حسن .لكن دعونا نأخذ كلماته واحدة واحدة. بعد أن أكد فكرة حبه لتعذيب حبيبته قال :اللهيب البكوي في روحي في ذاتي هو إنت .جدير بالذكر أن زمن كتابة وغناء المستحيل لم يكن المجتمع يقبل أن يصرّح شاعر أو أي رجل بحبه لامرأة .ولهذا لم تكن المرأة غائبة في العمل اليومي _علي الأقل في المدن بل كانت غائبة حتي مستوي ضمير المؤنث في الغناء .وكانت غائبة علي خشبة المسرح.وكان رجال يؤدون أدوار النساء (كما حدث في أيام شكسبير في أوربا من قبل).فالعالم_كما وصفه ببراعة الطيب صالح ذات مرة_في طفولة لا تنتهي.
المهم راح يقول :قلبي دايرك.وحبي عارفك. ونفهم هذا كله لأنه بسيط ومرتبط بماسبقه لكن أن ينتقل إلي القول: يا المسيّر …وماك مخيّر فهو هنا إنتقل للحديث عن نفسه أو قلبه كناية عن نفسه .ربما هي تعزية للنفس أو القلب ولتأكيد فكرته الرئيسة في ضياع إرادته أو إستسلامه لمحبوبته السادية !!

قلنا في أول حلقة من هذا الحديث أن إسماعيل حسن وفق إلي حد بعيد ,اذا غضضنا الطرف عن هفوة الوفاء في سياق يتسم بالتعذيب .في إختيار الكلمات التي تناسب مراميه.من عنوان قصيدته :المستحيل.إلي نهايتها “يالمسيّر وماك مخيّر”مروراً ب” لو بأيدي …كنت طوّعت الليالي وكنت ذللت المحال ..”والأماني ” و”المحال” و غصباً عني وغصباً عنك” .إسماعيل حسن_بإختصار_من أنصار الجبرية (علي الأقل حين كتب هذه القصيدة وكذلك في أغنية أخري لوردي هي :وا..أسفاي .يقول فيها بالنص :
إرادة المولي رادتني وبقيت غناي …
اسوي شنو براهو الواهب العطّاي
فالله تعالي بالقطع لا يحدد لأي شخص أن يكون غناياً فتلك خيارات بشر وظروف يجدون أنفسهم فيها.فوردي مثلاً غادر مهنة التدريس التي كانت تعد من المهن المحترمة والتي إكتسبت ذلك الإحترام من كونها_بنظر الجميع_تعد الأجيال الجديدة علي مكارم الأخلاق .غادرها إلي مهنة الغناء التي لم تكن محترمة علي الإطلاق .بل كان الناس_يومئذ_ يطلقون علي المغيين لفظ:المطاليق للتدليل علي تحررهم من كل قيد أخلاقي.
أما لحن محمد وردي ذو الإيقاع القوي الراقص فهو “قدري” لا محالة.المستحيل في تقديري الخاص أكثر أغنيات وردي تعبيراً عن التناقض_المفاهيمي_ الكبير بينه وبين إسماعيل حسن.ومع ذلك فقد أخذ وردي من إسماعيل حسن_وتلك مرحلة ذات خصوصية شديدة من مراحل تطور وردي الفني بشكل خاص والأغنية العربية في السودان بشكل عام.كانت سمتها الرئيسة :عدم النضج .وأعتقد أن وردي ,في مكان ما قال قال هذا أيضاً عن تلك المرحلة.كان وردي بحاجة لكسب الثقة في نفسه بتلحين أغنيات مثل “لو بهمسه” و”بيني وبينك والأيام و”مابنساك” و”سمرة” وهي أغنيات خفيفة تفتقر إلي العمق الفكري ومع ذلك فقد إشتغل عليها وردي بموهبته الفطرية وأبدع لها ألحاناً رائعة .لم يسايره كما فعل مع الدوش مثلاً.لأن وردي والدوش ينتميان_في الفهم العام_إلي ذات النسق الفكري.وغاب بينه وبين إسماعيل حسن الذي يغلب الوصف الحسي,عنده, علي العمق الفكري.ولهذا نجده_مثل كثير من شعراء الشمالية_يقع في فخ المازوخية وهو يصف علاقته بحبيته فهو يستعذب تعذيبها له.تماماً مثل محمد يوسف موسي في قصيدته التي تغني بها وردي”عذبني وزيد عذابك”.إذ تمثل عدم نضج نفسي وخلل عاطفي كبير.وتبقي رغم ذلك واحدة من أجمل الأغنيات التي تغني بها وردي فقط لأن محمد وردي هو من منحها ذلك الرداء البديع من الجمل المسيقية فبقيت من الخالدات.لهذا سيكون غريباً أن يقول إسماعيل حسن أنه خلق وردي فالعكس صحيح تماماً.بدون ألحان وردي الجميلة العذبة لقصائد عادية لم تكن لتبقي كل هذا الوقت.وهذا يبرر_في تقديري_الإنفصال الذي حدث بينهما لاحقا.وعزاه وردي إلي محاولات إسماعيل القول دائما بأنه من صنع وردي.فوردي لم يكن قد تعرف بعد علي أشعار الدوش ومحجوب شريف والتجاني سعيد وغيرهم.لينصقل وعيه وينتقل نقلة كبري علي المستويين الأنساني والفني ويتحفنا بروائعه :الود,وجميلة ومستحيلة , والحزن القديم , وبناديها والسنبلاية …الخ كانا_هو وإسماعيل حسن_ إبني ذات البيئة .ووردي كان في بداياته الغنا ئية وشكلت البيئة المشتركة التي سبقت الإشارة إليها في أول هذا الحديث الأرضية التي عملا معا عليها .وعندما تغيرت بإندماج وردي في مجتمع العاصمة وتفتح وعيه وتطوره إنقطعت صلته بإسماعيل حسن لأن الأغنية عند وردي لم تعد مجرد طرب بل إشكالية فنية عميقة تشكل الرسالة التي تقوم وتعمل علي إيصالها محور إهتمامه ومعاناته الإبداعية.أو بعبارة أخري صارت الأغنية “زاملته” إلي تحريض الناس وتوعيتهم.والنية_كما يقول المثل الشعبي في السودان_زاملة سيدا !!
سناك, (وقد بدت الكلمة الأنقليزية ذات جرس لفظي انسب من وجبة خفيفة ،أو سندوتش) لأنها أغنية قصيرة(12:35_13:35 دقيقة)وكاملة الدسم لكل ماساقتنا لقوله هنا.
ويبقي سؤال أخير:اذا كانت المستحيل وأخواتها من قصائد إسماعيل حسن قد مثلت مرحلة عدم نضج فكري لوردي فلماذا كان وردي يغنيها بعد ذلك بعشرات السنين .بل كان يعود لها ولغيرها من قصائد غيره من شعراء ذات المرحلة بمزيد من التجويد الموسيقي.ذلك لأن المستحيل وأخواتها هن بنات إبداع وردي الفني والموسيقي وجزء من تراثه الإبداعي .وكل عمل فني بمجرد أن يخرجه الفنان للناس يصبح ذا وجود موضوعي مستقل عن ذاته فلا يستطيع_حتي لو أراد_أن يلغيه .فهو ماضي.والماضي مادي وجامد وهو بمجرد وقوعه يفلت من إمكانية الإلغاء. هذا من ناحية. ومن ناحية أخري ليس بالضرورة أن كل ما يغنيه الفنان يجب أن يكون ذا حمولة فكرية ثقيلة فذاك تنطع إن جاز التعبير .فوردي بعد أن بلغ مابلغ من نضج فكري وفني غني : الحنينة السكرة و الناس القيافة .وغيرها.الفكرة تكمن في المقدرة الفنية علي جعل القصيدة تتحول إلي طاقة غنائية قادرة علي هز مستمعيها علي شفير من النغم العذب.أو بتحويل القصائد من جمال نائم علي الورق إلي جمال مسموع بتعبير بتهوفن عن الموسيقي .وتلك هي البراعة التي ميزت محمد وردي وجعلته في الخالدين.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. أنا كاتب هذا المقال.فقط أود التنبيه إلي خطأ ورد في الأسم.فهو عبدالرحيم وليس عبدالرحمن.لذا لزم التنويه للتصحيح.

  2. من زمان في مقولة ذائعة هي: (يغني المغني وكلٌّ على ليلاه)، لكن (ليلى) بتاعتك دي طلعت (غير) يا عبد الرحيم صديق.

    يا خي ما ممكن ده يكون تحليل لأغنية وكمان من تأليف اسماعيل حسن وأداء محمد وردي ، لكن نقول شنو ، بالطريقة دي لو فتحت بوابة عمر الدوش حتجينا حالة.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..