من السودان الجديد إلى الاستعمار الجديد

شئ من حتي

من السودان الجديد إلى الاستعمار الجديد

د.صديق تاور كافي

هناك ظواهر شاذة جديدة بدأت أخيراً في الظهور بولاية جنوب كردفان، لها انعكاسها المباشر على الامن والاستقرار والنظام على مختلف المستويات داخل وخارج المدن، مصدرها الأساسي أشخاص منتسبون للحركة الشعبية بالولاية. وتحتاج هذه الحالة الى وقفة مسؤولة وجادة من السلطة التنفيذية والسياسية ميدانياً ومركزياً، ومعالجتها بصورة حاسمة قبل أن تتحول الى سلوك خارج السيطرة.
وسوف نقتصر هنا على ظاهرتين منها، الأولى هي حادثة اختطاف أحد المواطنين بقوة السلاح من داخل مدينة الدلنج، وعلى مرأى ومسمع من الجميع بواسطة مجموعة مسلحة تتبع للحركة، واحتجزت الشعبية ضمن وحدة القوات المشتركة بالمدينة المواطن المختطف في السجن الحربي بالحامية ليومين حرمته فيهما من الطعام والشراب، وكالت له السباب والشتائم والالفاظ غير اللائقة، قبل ان تقوم بترحيله في اليوم الثالث الى رئاستها في مدينة كادقلي. هذا على الرغم من قيام ذوي المواطن المذكور بفتح بلاغ جنائي بالاختطاف ضد هذه المجموعة في شرطة مدينة الدلنج. وقد تم ترحيله بعربة تخص هذه المجموعة التي لم تستجب لأي مسعى رسمي او غير رسمي. فيما سلمته مجموعة كادقلي إلى الشرطة تحت البلاغ «05» تقويض الدستور وإثارة الفتنة، وهو البلاغ الذي شطبته النيابة مفرجة عن الرجل. وكل ما فعله المواطن النور أحمد انه شارك في حملة ملصقات مناصرة للقائد تلفون كوكو أو جلحة، وهي حملة منتشرة في كل السودان ابتداءً من الخرطوم والى دنقلا وكوستي والابيض وكادقلي والدلنج ود مدني والقضارف وعطبرة وبورتسودان وغيرها. ولم يحدث أي شيء لأن الملصقات هي من أبسط وسائل التعبير السلمي، كما أن مناصرة إنسان معتقل والمطالبة باطلاق سراحه او تقديمه الى محاكمة عادلة لا يحتاج الى استئذان من أحد مهما كان. وأياً كان الأمر فالتصرف البديهي عند أي تظلم هو اتباع اجراءات قانونية حسب ما هو معمول به ومعروف لكل المواطنين. فالنيابة والقضاء والشرطة هي المسؤولة عن حفظ الحقوق والنظام للجميع. ولديها اجراءاتها المعروفة التي يتم اتباعها في المشكلات الكبيرة والصغيرة، وليست هناك أية جهة في الدولة هي فوق القانون أو لها قانونها الخاص حسب الاشخاص والامزجة. لذلك فإن هذه المجموعة ومن يقف خلفها بوعي او بدون وعي قد ارتكبت تجاوزات خطيرة وكبيرة كان يمكن أن تنسف استقرار الولاية كلية، وهو ما لا يجب تفويته باعتبار ان البلاغ قد شُطب وانتهى الأمر.
فهي اولاً قد تطاولت على القانون ومؤسساته عندما أقدمت على اختطاف مواطن، والاحتفاظ به لايام والاساءة اليه، وحرمانه من الطعام والشراب، وربما اذا سمحت لها الظروف فإنها كانت سوف تتمادى الى ما هو أسوأ من ذلك. هذا مع العلم بأن الدلنج هي ثاني مدينة بالولاية من الناحية الادارية وكثافة السكان، ومن اقدم المدن التي استقرت فيها الحياة المدنية في السودان، ولم يتعود الناس فيها على مثل هذه السلوكيات الغريبة، بل هي عاصمة المحلية حيث رئاسة لجنة الأمن ورئاسة الشرطة والقضاء. وبالتالي بمقدور الجهة التي دفعت هذه المجموعة أن تقوم بتحريك اجراءات قانونية بالطرق المعروفة اذا كان هناك ما يستدعي ذلك.
كما أن مثل هذا السلوك الفوضوي يمكن أن يفقد المواطنين الثقة في المؤسسات المعنية بحفظ النظام والقانون عندهم، وبالتالي يدفعهم الى التفكير بطريقة مختلفة في التعامل مع الافعال وردود الافعال. فالمجموعة المنسوبة للحركة ضمن القوات المشتركة بالمحلية، هي قوة نظامية من واجباتها المساعدة على حفظ الاستقرار وليس نسفه باستخدام القوة ضد مواطن بطريقة الغابة وفعل ما تريد، وكأنما هي دولة داخل الدولة يُباح لها أن تتجاوز كما تشاء دونما حسيب أو رقيب.
والظاهرة الثانية هي عدم مقدرة بعض المزارعين من أصحاب المشاريع الزراعية على مباشرة عمليات الزراعة في بعض المناطق التي يسيطر عليها محسوبون على الحركة الشعبية، بسبب تدخل الاخيرين وفرض سلطتهم على اصحاب هذه المشاريع بحجة أن الأرض تتبع لهم «قبلياً» ولا تتبع للدولة، على الرغم من أن هؤلاء المزارعين يعملون وفق الإجراءات المعروفة في قانون الأراضي الزراعية. وحسب ما يتوارد فإن بعض هذه المجموعات تتحصل أموالاً من أصحاب المشاريع نظير السماح لهم بممارسة الزراعة في مشاريعهم. فهذه الحالة تقع في نطاق محلية الدلنج أيضاً، والمجموعات المسببة لها تخرج من دوائر الحركة الشعبية هناك، وهي تمارس ما تمارس بقوة السلاح وخارج سلطة الدولة والقانون. وبتقديرنا أن ما يحدث يشير إلى خلل كبير في طريقة إدارة الحركة الشعبية بالولاية لقواعدها في ما يتعلق بالشأن العام. فهؤلاء يتصرفون مستندين في أفعالهم الى كونهم قوة مسلحة تمتلك القوة، وبالتالي يتوهمون أن هذه القوة المسلحة تمنحهم الحق في تخطي كل الحدود والتعدي على حريات الآخرين وحقوقهم. وهم ثانياً يتصرفون بدافع كونهم أصحاب سلطة يمكن لهم أن يفعلوا ما يشاءون دون أن يحاسبهم قانون أو يضبطهم ضابط، والا لما سمحوا لأنفسهم بمثل هذه الأعمال. فبالنسبة لحالة المواطن النور أحمد فقد تم احتجازه ليومين، وكان هذا الحدث هو حديث المدينة في الولاية وخارجها، بل وقد وجد مساحته الاعلامية، وبالتالي كان هناك وقت كافٍ لكيما تعرف قيادة الحركة الشعبية أينما كانت بهذا الحدث. ومن ثم كان بمقدورها التصرف العاجل لاحتواء الإشكال ولجم هذه الفوضى قبل أن تفوح رائحتها وتملأ المكان. وكانت هناك فرصة كافية للتوجيه باطلاق سراح هذا المواطن والاعتذار له ومحاسبة الذين أقدموا على هذا التصرف قبل أن ينتقل الملف الى عاصمة الولاية. ولكن يبدو أن قيادة الحركة الشعبية وتحديداً رئيسها لم يكونوا بعيدين عن هذا التصرف. إذ لا يعقل أن يكون رئيس الحركة ونائب الوالي في نفس الوقت غائباً عن مثل هذا التصرف الخطير. فإما أن هؤلاء يتصرفون بلا ضوابط ولا يحترمون قادتهم أو أنهم تصرفوا بتشجيع منهم، فالفريق عبد العزيز الحلو هو رئيس الحركة، وهذا موقع كافٍ لأن يجعله يتدخل بمجرد اتصال تلفوني، ويتخذ ما يلزم من إجراءات تمنع مثل هذا السلوك المخالف للقانون والنظام، ويقدم بذلك رسالة لقواعده وللمجتمع المحلي بأن حركته ماضية عملياً في عملية الاندماج السياسي المدني حسبما تعلن. والمسؤول الثاني في هذا الأمر هو السيد نائب دائرة الدلنج بالمجلس الوطني «حركة شعبية» عمار أمون، فهو يمثل الصوت السياسي لكل الأطياف داخل وخارج الحركة، وبالتالي فهو ضمير هؤلاء جميعاً. وكان يُفترض أنه يسبق الآخرين لمعالجة الأزمة بعيداً عن عواطفه السياسية بوصفه عضوا في الحركة الشعبية. فهو مسؤول عن ضمان حقوق الجميع حتى الذين يخالفون حركته في المواقف السياسية والافكار. ومسؤول عن ضمان حقوقهم المدنية في التعبير والأمن والحياة المستقرة. فلماذا صمت وتوارى السيد عمار أمون نائب الدائرة عن هذا الحدث؟! وما هو دوره أصلاً إذا لم يحركه ذلك مثلما لم تحركه من قبل أحداث جامعة الدلنج التي دفعت بالفين من الطالبات الى المبيت في الشارع بسبب تلك الاحداث. ومن الطبيعي ان يكون النائب لاية دائرة قادماً من منظومة حزبية معينة، ولكنه بعد ان يصبح نائباً برلمانياً فإنه يكون ممثلاً لجميع قطاعات الشعب، وعليه مسؤوليات أخلاقية تجاههم على قدم المساواة وبلا عواطف او مجاملات. وباسقاط هذه الاشياء على منفستو الحركة الشعبية الذي يتصدره شعار السودان الجديد، فإن ما يحدث لا علاقة له بهذا الشعار على اية درجة. لان المقصود بالسودان الجديد ليس هو سودان البقاء للاقوى، واخذ القانون باليد، والتعدي على حقوق الآخرين، والتمرد على سلطة الدولة وانتهاك حريات المواطنين، والاستخفاف بالقانون، ومحاولة قهر الناس واهانتهم واذلالهم. فهذه السلوكيات هي سلوكيات الغابة، اما السودان الجديد فنعتقد بأن من وضعوه في البداية كانوا ينادون بالنقيض، بسودان فيه عدالة واحترام للقانون واحترام حقوق الآخرين وصيانتها، والمحافظة على النظام والاستقرار والحياة المدنية التي نجدها في اية دولة عصرية، سودان يديره اهل الرأي والمعرفة لا المليشيات والفوضويون.
والمطلوب من قيادة الحركة في ولاية جنوب كردفان ممثلة في شخص رئيسها ونائبي الدائرة، مواجهة مثل هذه التصرفات بعمل ميداني جرئ يصحح لمن يحلمون بارجاع الامور الى الوراء، بأن ذلك من المستحيلات حتى ولو كانت هي رغبتهم، وان السلاح وحده لن يخلق دولة، وأن مرحلة الإقصاء والقمع والقتل العشوائي قد انتهت الى غير رجعة. كما عليهم أن يعتذروا الى مجتمع ولاية جنوب كردفان صراحةً عن مثل هذه التصرفات. وبدون ذلك تكون قيادة الحركة الشعبية بالولاية طرفاً في تعقيد وتأزيم الأمور، إذا هي غضت الطرف عن هذه التجاوزات الخطيرة وسكتت عليها.

الصحافة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..